FYI.

This story is over 5 years old.

سوشيال ميديا

عام بلا وسائل تواصل اجتماعي: ما زالت الأرض تدور

ودعت حقبة الضغوطات المتعلقة بأن عمتي رأتني أونلاين بعد أن تجاهلت اتصالاتها طوال يومين
ميديا
Photo by Prateek Katyal on Unsplash



بالتأكيد أن الأمور لم تكن واضحة حينها كما الآن، لم أكن متأكدة حتى لكم من الوقت سأصمد أو الأسباب التي تدفعني للقيام بهذا فعلاً. ما حدث ببساطة هو أنني كنت أشعر بسلبية فائضة وآلام في العنق وبين العينين نتيجة التحديق المتواصل طوال ساعات في المنشورات والصور ذاتها لعلها تتجدد في أي لحظة. بالإضافة إلى أن "الجولة السريعة" على انستغرام قبل النوم لا تنتهي إلا وقد طلعت الشمس وأنا أتابع فيديو لقطة راقصة، أو صور خطوبة أخت زوج صديقتي التي لم أكلمها أو أرها منذ سنوات، أو خبر يتعلق حتماً بكيم كرداشيان (كيف وصلت إلى هنا؟!) وحين لم أستطع الاستيقاظ في الوقت المحدد لليوم الرابع على التوالي من الأسبوع ذاته بسبب الكارداشيانز، كان لا بد أن ألغي كافة حساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، وأمسح تطبيقاتها عن هاتفي تماماً وأختبر الحياة كما عرفها البشر حتى وقت لاحق جداً من التاريخ.

إعلان

حين مر أسبوعان، ثم شهر، ثم عام دون أن تنهار حياتي، ودون أن أشعر بالحاجة للعودة إلى الفضاء الافتراضي - أو على الأقل مع تتوافر بدائل لهذه الحاجة - استطعت أن ألاحظ كماً هائل من التغيرات والسلوكيات، سواء في ذاتي أو من حولي، تجعل هذا القرار أحد أفضل القرارات التي اتخذتها ونفذتها منذ سنوات. وفي حين يبدو تعداد جميع الأسباب خلف ذلك تنظيراً مملاً من وجهة نظر واحدة وشخصية، فضلت أن أشارك كل الاعتراضات أو الآراء المضادة التي سمعتها من آخرين خلال هذا العام حول سخافة مقاطعة السوشال ميديا طوال هذه المدة وكيف بدت هذه الآراء من خلال تجربتي الخاصة.

لم لا تسيطرين على نفسك فحسب؟
يخبرني أحدهم في كل حين أنه بوسعي فقط السيطرة على نفسي والتحكم بكمية الوقت التي أقضيها على وسائل التواصل الاجتماعي عوض أن ألغيها كلياً على هذا النحو. الحقيقة أنه ليس بوسعي، أنا وصاحب الاقتراح على حد سواء، أن نسيطر على أنفسنا حين يتعلق الأمر بهذه التطبيقات. إنها ببساطة مصممة خصيصاً لتجعلنا مدمنين. ملايين الدولارات تصرف سنوياً على تطوير هذه التطبيقات وجعلها أكثر جذباً وأكبر تأثيراً. أنا لم أصل إلى فيديو من نمط "شاهد ردة فعل" لأني لا أستطيع السيطرة على نفسي، بل لأن عارض الفيديوهات سواء على تطبيق فيسبوك أو انستغرام مصمم ليبدأ تشغيل فيديوهات عشوائية بشكل متتالي ومتواصل دون أن أختارها أنا أو أضغط لمشاهدتها أو اطلب مشاهدة المزيد حتى.

الأمر أشبه بوضع الكحول في مشروب شخص ما وتطالبه ألا يثمل

انستغرام يخصص قسماً خاصاً من التطبيق ليظهر لي صوراً قد أعجب بها أصدقائي، أو تتشابه مع نمط صور أعجبتني أنا، أو تشبه أخرى أعجب بها شخص قد أبديت إعجابي بصورته قبل أشهر، المهم ألا يتوقف السيل. هناك دوماً ابتكار جديد، وطبعاً هناك دوماً من يروج لهذا الابتكار على أنه كوول: هناك البث المباشر live streaming الذي مهما فعلت سأتلقى حتماً تنبيه بخصوصه، ثم هناك القصص story التي تتسكع في الأرجاء لـ 24 ساعة فقط، ثم جاءت الألبومات الخاصة بهذه القصص highlights التي تحتفظ بكافة الصور التي يحتمل أنك فوتها على نفسك بعد الساعات المحددة (من أين يأتي البعض بالكم الهائل من الحياة لتكفي البث عبر كل هذه الوسائل؟) لذا لا، لا يمكنني السيطرة على نفسي، وأنت كذلك. الأمر أشبه بوضع الكحول في مشروب شخص ما وتطالبه ألا يثمل. ما ينقلنا إلى النقطة الثانية من المحاججة.

إعلان

بس أنا فيي خفف لما بدي
شكل حياتنا المعاصرة بأكمله، جعلنا نحن جيل الألفية نولد مدمنين على أشياء لا عد ولا حصر لها. وجبات الطعام السريعة، السكريات، المشروبات الغازية، ماركات الملابس، ستارباكس، الهواتف الذكية. جميعها تمنحنا نوعاً غريباً من الرضا رغم إدراكنا أنها ليست مفيدةً كلياً لنا، لذا نلجأ لحجة أننا نستطيع التوقف وقتما نريد لإنكار حقيقة كوننا مدمنين. لا أعلم فعلاً إن كان إدمان التكنولوجيا الحديثة قد يندرج في خانة إدمان الكحول أو المخدرات مثلاً كما في حال العاب الفيديو، ولكن بعض الأبحاث العلمية تقترح أن كل إعجاب أو تعليق أو تنبيه نتلقاه على السوشيال ميديا يسبب إفراز هرمون الدوبامين في أجسامنا، الهرمون ذاته الذي يشعرنا بالبهجة لدى تعاطي مخدر أو مشروب كحولي معين. دراسات اجتماعية أخرى تربط هذه التكنولوجيا بارتفاع نسب الاكتئاب والقلق المرضي لدى جيل الألفية.

الحقيقة أنني لا أؤمن بشكل مطلق بهذه الدراسات أو تلك الأبحاث فقد تليها بمدة قصيرة أخرى تناقضها كلياً أو تثبت عدم مصداقيتها. ولكنني وجدت شخصياً أن طوال الشهرين الذين تبعا إغلاقي كافة وسائل التواصل الاجتماعي لم أتوقف خلالهما عن التقاط هاتفي لا شعورياً كل بضعة ثواني بحثاً عن أيقونة تطبيق ما أضغط عليها أو بانتظار تنبيهات ورسائل لن تصلني. مدة الشهرين هذه تتجاوز في بعض الحالات المدة التي يمضيها مدمن الكحول في مركز إعادة التأهيل.

أود لو أخوض هذه التجربة ولكنني أخشى أن يفوتني الكثير
أعتقد أن الجميع بلا استثناء قد فكر في اغلاق واحد أو جميع حسابات السوشيال ميديا ولو مؤقتاً في مرحلة ما، ولكن يبدو أن رهاب ما قد يفوتنا في غيابنا يكاد يكون سبباً رئيسياً في رفضنا لهذه الفكرة. الحقيقية أنني لم أتوقف عن التفكير فيما يفوتني حتى بعد أشهر من الانقطاع. ولكن ما الذي يفوتني حقاً؟ الصور المعدلة المضحكة memes، والأخبار "التازة" عمن تخرج أو تزوج أو أنجب، وكل ما يتعلق بال pop culture، هذي كلها استطعت تدريجياً ومع الوقت التخلي عنها، رغم معاناتي من عدم استيعاب كافة الإشارات والتنهيفات التي يتداولها الأصدقاء أحياناً.

إعلان

إن كانت الأخبار الأساسية تجد طريقها إليَّ بطريقة أو بأخرى فما الغرض فعلياً من أمتلك منشوراً خاصاً بتصريحات حول أمر لا يمس لحياتي بصلة

ما شعرت وافتقدته فعلاً وهو برأيي أكبر تأثيرات فيسبوك على شكل العالم اليوم، هو سرعة تحول أي حدث في النصف الآخر من الكرة الأرضية إلى موقع نقاش عالمي. هذا الشعور الغريب بالتضامن العالمي تجاه أي حدث وما يترافق معه عادة-وإلى درجة معينة فقط-من أفكار جديدة ونقاشات لا تجدها في الشريط الإخباري أو لدى وكالة الأنباء، كان يبدو لي أكثر تنويراً من أن أنقطع عنه. إلى أن واردتني فكرة مؤخراً-مجرد فكرة-حول التأثير الفعلي لكل هذا الصخب حول العالم. إن كانت الأخبار الأساسية تجد طريقها إليَّ بطريقة أو بأخرى فما الغرض فعلياً من أمتلك منشوراً خاصاً بتصريحات حول أمر لا يمس لحياتي بصلة، وما الأثر الذي ستحدثه قراءة كافة التعليقات الشرسة حيال كارثة حصلت وانتهت. لنواجه الحقيقة أن نقرأ عن فصل الأطفال عن أمهاتهن على الحدود الأمريكية لن يعني بأي شكل قدرتنا على المساعدة أو تغيير الواقع. سنبدو فقط أكثر إنسانيةً وثقافةً وأشبه بـ "المواطن العالمي" حين يفتح أحد أصدقائنا السيرة المرة القادمة (وهم بالتأكيد سيفعلون). حسناً وأيضاً لأننا نحب أن نكره ترامب (وهذا طبيعي جداً).

ولو! هيي تسلاية
طيب… احزر شو… قتل الوقت لا يعني بالضرورة التسلية. متابعة ثلاثمئة فاشنيستا تنشر صور لها معدلة على الفوتوشوب تروج عبرها لماركة ملابس ما فيما تمضي عطلتها مع عائلتها السعيدة في جزيرة (لم تسمع قبل باسمها) مشاهدة عشرة قصص متتالية للبرجر الذي تناوله صديقك على الغداء من عشرة زوايا مختلفة، متابعة كافة الفيديوهات من حفلات كافة الأقرباء لموسم الأعراس هذا العام فيما مصور الفيديو يرقص سكراناً في اللحظة ذاتها فلا يظهر وجه واحد واضح طوال خمس دقائق من المشاهدة: كل هذا ليس تسلية. هي في الواقع حقن اكتئاب وسلبية وإحباط في الوريد حيث الجميع-كما يدعي-أنيق وسعيد وغني ويجوب العالم وأنت ضجر وحدك خلف شاشة جهازك.

التقليد الأزلي في أن أتابع مع أختي فيلماً على الأقل كل أسبوع بات يمتد ساعةً إضافية، حيث يتوجب علينا التوقف كلما أضاء هاتفها لترد على الرسائل قبل أن نتابع (إذ لا تستطيع القيام بالأمرين معاً).

الحقيقة أن الكوكب لم يمت مللاً طوال آلاف السنوات التي سبقت اختراع فيسبوك. بل أشعر أحياناً أن البحث الفاشل عن التسلية في السوشيال ميديا قد أفسد في الواقع أشكال التسلية الأخرى كلياً وإلى الأبد. حينما استعدت حماستي خلال هذا العام لاسترجاع أساليب تسلية موثوقة، أخبرني ابن خالتي الصغير محرجاً أنه لا يستطيع لعب دق طاولة زهر الآن لأنه يتحدث مع "الشباب" على مجموعة المسنجر في أمر مهم. والتقليد الأزلي في أن أتابع مع أختي فيلماً على الأقل كل أسبوع بات يمتد ساعةً إضافية لمدة الفيلم، حيث يتوجب علينا التوقف كلما أضاء هاتفها لترد على الرسائل قبل أن نتابع (إذ لا تستطيع القيام بالأمرين معاً).

في النهاية، كم كلمة عجنب: لا يحاول هذا المقال دعوتك للتوقف عن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يروج لتجارب من نمط: ألغيت حسابي على فيسبوك فحصلت على ترقية في عملي، وقرأت مئتي كتاب وتعلمت لغة جديدة وأصبح اليوم 48 ساعة. حتماً لا (لنتقبل أن أشياءً كهذه لا تحصل وحسب) ولكني شخصياً استعدت الكثير من تركيزي الذي كان يصرف على تفقد هاتفي كل دقيقة، ودعت حقبة الضغوطات المتعلقة بأن عمتي رأتني أونلاين بعد أن تجاهلت اتصالاتها طوال يومين، واستطعت أخيراً أن أخرج رأسي من هاتفي لأحظى بمحادثة حقيقية مع الأصدقاء دون أن أقلق أنني لم أنشر صورة تؤرخ الجلسة أو الطعام أو المكان.