GettyImages-1230759025

Chedly Ben Ibrahim/NurPhoto via Getty Images

مقال رأي

احتجاجات تونس.. صرخة شباب محبط في وجه طبقة سياسية فاشلة

تعيش البلاد في أزمة اقتصادية تعتبر الأسوأ منذ الاستقلال

في الذكرى العاشرة للثورة التونسية، لا يزال كثير من التونسيين يرون أن الثورة التي ألهمت ثورات الربيع العربي لم تحقق أهدافها، في جزء كبير منها. قد يكون وضع الصحافة وحرية الرأي والقوانين الشخصية أفضل بكثير مما كانت قبل 2011، إلا أن مطالب الشباب المتعلقة بالعمل والكرامة ورفع التهميش عن المدن الداخلية لم تصلها رياح التغيير المأمولة، حيث تضاعفت نسب البطالة وسقطت البلاد في أزمة اقتصادية تعتبر الأسوأ منذ الاستقلال.  

إعلان

في ظل هذا الوضع عاد الشباب إلى الشارع مجددًا للاحتجاج وسط العاصمة تونس وعدة مدن أخرى كالقصرين وسيدي بوزيد وقفصة وسوسة والمنستير وقابس ومدن أخرى، مرددين ذات المطالب والشعارات التي رددوها قبل عقد من الزمن "شغل حرية كرامة وطنية" و"إسقاط النظام."

لكن الطبقة السياسية الحاكمة والعاجزة عن تقديم حلول وإجابات واقعية لهؤلاء الشباب أصدرت أوامرها للقوى الأمنية لتتولى قمع التحركات، بشكل عنيف حيث استخدمت قنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين وألقت القبض على المئات. لم تتوقف السلطة الحاكمة هنا، بل أيضاً تم إلقاء التهم على ووصفهم بالمخربين والمجرمين، وأن احتجازهم جاء بسبب صلتهم بأعمال تخريب ونهب

بدلاً من البحث عن سبل لتهدئة هؤلاء الغاضبين والثائرين على طبقة سياسية لم توفق إلا في بيعهم الأوهام وتعميق بؤسهم وفقرهم وبطالتهم على مدار عقد كامل، تم إلقاء اللوم على المتظاهرين أنفسهم.

رجعت الطبقة الحاكمة للعبة القديمة الجديدة القائمة على استدعاء أعداء وهميين واتهامهم بالضلوع وراء هذه التحركات. ولكن هذه الإدعاءات لم تقنع أحداً، على العكس، استمرت الاحتجاجات وبالإضافة إلى مطالبتهم بإيجاد فرص عمل ورفض تعامل الشرطة العنيف مع المظاهرات ومطالبات بإخراج المعتقلين، نادى المتظاهرون كذلك باستقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي نفسه، وردد المحتجون شعارات ضده وضد وزارة الداخلية من بينها "وزارة الداخلية وزارة إرهابية" و"يا مشيشي يا عميل خذ بوليسك واستقيل."

إعلان

بدو الأمر عبثًيا أن تلجأ الحكومة للخيار الأمني في التعاطي والتخاطب مع شباب خاب ظنه في حكامه واستبد به اليأس بعد أن انتظر لعشر سنوات وعودًا لم ترى النور، وفهم أنه مجرد مطية يتذكرها الجميع في الحملات الانتخابية وتنسى بمجرد تولي المناصب. 

أتساءل حقيقة كيف كان بوسع رئيس الحكومة المشيشي وبعض النواب وصف هؤلاء الشباب والمراهقين الذين لم تتجاوز أعمار الكثير منهم الـ17 سنة مما قاموا بسرقة بعض المحلات التجارية بالمخربين دون أن يقروا بمسؤوليتهم عن ذلك؟ كيف تسنى لهم رمي هؤلاء بكل النعوت الإجرامية دون أن يعترفوا بأن هذا حصاد ما زرعته أيديهم لعقد من الزمن؟ حصاد سياسات فاشلة بحثت عن سبل بقاءها في الحكم حتى وهي تشاهد تهاوي كل المؤشرات التنموية في البلاد وتراقب مواطنيها يفقدون القدرة على تلبية ضرورات الحياة.   

IMG_20210126_135021_2.jpg

من المظاهرات أمام البرلمان التونسي. تصوير فاطمة عمر.

أقول هذا ليس دفاعًا أو تشجيعًا على السرقة والتخريب، ولكن الأمر أكبر من ذلك. في واحدة من الصور التي تبدو أنها قد التقطت من قبل أحد الأمنيين في لحظة انتشاء بنصره الكبير، نرى شابًا يقف مذلولاً إلى جانب مسروقاته المتمثلة في علبة حليب وعلبة طماطم وقارورة مياه معدنية، استوقفتني هذه الصورة مطولًا وعلقت برأسي، ظل السؤال يجول بفكري مطولاً رباه ألا يستحي الساسة من هذا المشهد؟ لقد دفعوا شابًا في مقتبل العمر لسرقة ما يأكل، لسرقة ضروريات الحياة التي بات طيف واسع من أبناء هذا الوطن عاجزين عن توفيرها، هذه الصورة هي عينة للكثيرين غيره مما اقترفوا ذات "الجرم."

وقد يتساءل كثيرون كيف تتحمل مؤسسات الحكم المسؤولية عن توجه بعض الشباب الثائر للتخريب والسرقة، ولهذا أكثر من جواب. فعندما قامت الثورة سنة 2011 كانت مطالب الشباب حينها "شغل حرية.. كرامة وطنية" وإسقاط النظام، وقد علقوا آمالاً عريضة على الطبقة السياسية الجديدة لتحقيق هذه المطالب. اليوم بعد عشر سنوات مازالت حناجرهم تنادي بذات المطالب مع شحنة يأس أكبر بكثير من تلك التي كانت إبان الثورة. 

إعلان

ولعل النظر في هذه الأرقام الصادرة عن جهات رسمية كالمعهد الوطني للإحصاء والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كفيل بتأكيد وشرح أي مسار انساق إليه التونسيون جراء فشل ساستهم الذين صبوا طاقتهم حول سبل إدارة اللعبة السياسية على حساب الجانب الاقتصادي والاجتماعي. 

  • ارتفعت نسبة البطالة من 13٪ في عام 2010، إلى 18٪ في 2020
  • وصل عدد التونسيين القابعين تحت عتبة خط الفقر بلغ مليون و700 ألف، من أصل 11 مليون شخص (حوالى 15.4٪)، فيما يقدر البنك الدولي نسبة التونسيين المصنفين في خانة الفقر المدقع بـ3.5 في المئة.
  • هناك نحو 500 ألف تونسي يعيشون بُمعدّل 4 دنانير يومياً، أي أقل من دولارين.
  • ارتفاع أعداد المهاجرين غير النظاميين حيث أظهرت أرقام وزارة الداخلية الإيطالية أرقام الوزارة أن ما مجموعه 8،988 مهاجرًا وصلوا إلى إيطاليا في ٢٠٢٠ غالبيتهم من التونسيين الشباب -ثلاثة أضعاف عدد المهاجرين مقارنة بالعام الماضي.
  • الطبقة الوسطى هي الأخرى تآكلت وانحدر جزء كبير منها لطبقة الفقراء، حيث تراجعت نسبتها من 70٪ في عام 2010 إلى 50٪ في 2020.
  • تراجعت القدرة الشرائية للمواطن التونسي بنحو 50٪ مقارنة بسنة 2010 في ظل ارتفاع الأسعار بشكل جنوني ومستمر ويشمل المواد الضرورية وغيرها. 

إعلان

لم تتوقف الحصيلة عند هذا الحد، الأطفال والمراهقون كان لهم نصيبهم من هذا الحصاد، حيث انقطع عن الدراسة مليون طفل منذ سنة 2011 حسب الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل، بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية وعدم قدرة الأطفال على الاندماج في المنظومة التربوية. لم تحاول السلطة المعنية وقف هذا النزيف أو تتدخل للحد منه، وهي التي تعي جيدًا أن لا هياكل ولا مؤسسات ولا فضاءات مخصصة لاحتضان هؤلاء الأطفال والمراهقين وأن الشارع أصبح الحاضنة الوحيدة بعد ترك المدرسة بما يعنيه ذلك من (جريمة، مخدرات، استغلال جنسي، عمالة..).

 ولعل هذا ما يفسر أن غالبية المحتجين كانوا ينتمون لهذه الشريحة العمرية التي يبدو أنها لم تجد العوامل الكفيلة ببناء رباط عميق بينهم وبين وطنهم فكانت غضبهم حادًا بحجم يأسهم المبكر من غدهم في ظل هذه الطبقة السياسية اللامبالية بضياعهم.

الشعارات العامة التي ظلت السلطة تسوقها لسنوات قد فقدت جدواها أمام شعب لم يعد يحتمل ابتلاع المزيد من الأوهام

من جهة أخرى، بات الأمر يقينًيا لدى التونسيين ولا سيما الشباب أن الحكومات المتعاقبة بمختلف مكوناتها كرست سيطرة لوبيات المال على المشهد السياسي على حساب مصلحة المواطن. ولعل هذا ما بات يفسر تورط العديد من الوزراء في أغلب الحكومات التي تشكلت بعد الثورة في ملفات فساد خطيرة كان أخرها الكشف عن ملفات فساد بحق ثلاثة وزراء كان قد اقترحهم المشيشي في التحوير الوزاري المنتظر، هذا دون أن ننسى نصوص القوانين المصادق عليها في البرلمان التي تصب في خدمة لوبيات المال بينما تجرد المواطن من أبسط الامتيازات، من بينها بالنسبة قانون المصالحة المالية الذي تم بمقتضاه العفو عن رجال الأعمال المتورطين في الفساد. ومؤخرًا قانون المالية الذي تمت المصادقة والذي اعتبر أنه "لا يحمل أي رؤية اقتصادية تنفع الناس" حيث تم إسقاط سبعة مقترحات تصب جميعها في صالح المواطن. 

ورغم هذا الحصاد الأسود ترفض مؤسسات الحكم بتونس الإقرار بشرعية الاحتجاجات الجديدة العنيفة والسلمية على حد السواء وتتمسك بنظرية المؤامرة والخصوم الوهميين. وربما تفعل ذلك خوفًا وهربًا من مواجهة حقيقة أن الشباب الذي حملها لتجلس على الكراسي ذات يوم بعد أن أسقط نظامًا استبداديًا قادر اليوم أيضا على إسقاطها وإزاحتها من المشهد.

 وربما هي تلجأ لهذا المخرج المحفوف بالمخاطر حتى تضع نفسها في موقع الهجوم والاستنفار الدائم وهي التي تدرك أنها طبقة سياسية وصلت مصادفة للحكم دون أن تملك بدائل للتغيير والإصلاح، أن الشعارات العامة التي ظلت تسوقها لسنوات قد فقدت جدواها أمام شعب لم يعد يحتمل ابتلاع المزيد من الأوهام. أو لعلها تحاول التغطية على حقيقة أنها هرولت طيلة هذه السنوات وراء لعبة سياسية أرادوها غير مستقرة عمدًا وبحاجة إلى التنقيح الدائم بما يتواءم وحساباتهم، دون أن يخطر ببالهم أن هذا الوضع وإن استمر لعقد من الزمن فإن ذلك لا يعني دوامه المطلق. 

وأن اعتقادهم أن الثورة التي مكنتهم من هذه السلطة لا تحدث مرة واحدة خاطئ، بل تحدث في كل زمان طالما أن أسباب قيامها مجددا قائمة أكثر مما كانت عليه عندما اندلعت سنة 2011. وإنه لمن الغباء أن يتوهم هؤلاء الساسة أنهم قادرون بقبضتهم الحديدية إسكات شباب ينخره اليأس والفقر والحاجة، وأن يعتقدوا أن السلطة التي آلت إليهم ستحميهم من الغضب المشتعل في الصدور، لا بد أن يدركوا أنهم أمام فرصة كبيرة ليغيروا الواقع ويصلحوا ما دمروا في هذا البلد أو أن سقوطهم لن يتأخر كثيرًا.