200_METERS_Still03_Photo©Elin_Kirschfink

Elin Kirschfink

أفلام

فيلم "٢٠٠ متر" -المسافة بين نقطتين ليست واحدة في فلسطين

"انقطعت عن أهلي في الداخل رغم أنهم يبعدون عني 20 دقيقة"

يجسد فيلم "200 متر" معاناة عائلة فرقها جدار الفصل الإسرائيلي، الأب مصطفى الذي يقوم بدوره الممثل الفلسطيني العالمي علي سليمان يعيش في الجهة الفلسطينية مع والدته بينما زوجته سلوى (التي تقوم بدورها الممثلة لانا زريق) وأطفاله يسكنون في إسرائيل. ورغم أن المسافة بين الأب وبين عائلته لا تتجاوز المئتي متر، إلا أنها تتحول إلى رحلة عبور من مئتي كيلومتر بطريقة غير نظامية بسبب الجدار والحواجز ونقاط التفتيش التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي. 

إعلان

يمكن وصف الفيلم بقنبلة موقوتة تحبس الأنفاس، ينتظر المشاهد انفجارها في أي لحظة، ويبدأ فتيل هذه القنبلة بالاشتعال حين يدخل إبن مصطفى المشفى وعلى الأب أن يجد طريقة للعبور إلى الجهة الأخرى.

رغم أن هذا الفيلم هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج والكاتب أمين نايفة (33 عاماً)، إلا أنه نال استحساناً كبيراً على الصعيد العربي والعالمي، ونال على جوائز عدة منها خمس جوائز في مهرجان الجونة السينمائي، وجائزة الجمهور في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وآخرها جائزة أفضل فيلم روائي طويل ضمن فعاليات الدورة الأولى من مهرجان القدس للسينما العربية. كما قامت مجلة Variety الأميركية بتكريم منتجة الفيلم الفلسطينية مي عودة بجائزة "أفضل موهبة عربية للعام" وهي المرة الأولى التي تمنح هذه الجائزة لامرأة.

بدأت فكرة الفيلم عند أمين في عام 2010 أثناء دراسته الجامعية حين طلبت منه المعلمة أن يقوم بتحضير أفكار جدية لأفلام سينمائية قد يتم تنفيذها يوماً ما، فكان "200 متر" إحدى هذه الأفكار. مر الفيلم بالعديد من مراحل التطوير وواجه الفيلم العديد من الصعوبات قبل أن يبصر النور وبالأخص من ناحية التمويل لعدم وجود مؤسسات داعمة للسينما الفلسطينية حسب تعبير أمين، فكان اقتراح المنتجة مي عودة أن يعمل أمين على فيلم قصير يظهر فيه أمين هويته البصرية، وبالفعل قام بكتابة وإخراج الفيلم القصير "العبور" عام 2017، يروي فيه أيضاً معاناة الفلسطينيين في عبور الجدار.

إعلان
200_METERS_Still01_Photo©Alaa_Aliabdallah.jpg

Alaa Ali abdallah

استغرق البحث عن تمويل للفيلم ما يقارب الـ7 سنوات فقد فيها أمين الأمل عدة مرات، ولكنه لم يتخلّى عن قصته وتمسّك بها لما تعني له شخصياً فحكاية بطل الفيلم هي ذاتها حكاية أمين الشخصية: "أنا من طولكرم، قرية فلسطينية بالضفة الغربية، وأمي من قرية فلسطينية اسمها عرعرة موجودة داخل الجدار،" يخبرني أمين المقيم بين قرية طولكرم ورام الله عن قصته عبر مقابلة هاتفية: "بعد بناء الجدار الفاصل، لم يعد من الممكن الوصول إلى جدي وجدتي. كان عمري 15 سنة. انقطعت عن أهل والدتي في الداخل رغم أنهم يبعدون عني 20 دقيقة."

وبدأ بناء الجدار في 2002 ويبلغ طوله حوالي  770 كم، وعلى ارتفاع 8 أمتار من الإسمنت المسلح. قد أعلنت محكمة العدل بعدم قانونية الجدار من منظور القانون الدولي في ٢٠٠٤. ويحيط هذا الجدار معظم أراضي الضفة الغربية ويعزل مدن وبلدات وعائلات عن بعضها البعض وينتهك حقوق التنقل لدى مئات الآلاف من الفلسطينيين حيث أنهم يضطرون إلى استصدار تصاريح خاصة من السلطة الإسرائيلية للسماح لهم بمواصلة العيش والتنقل بين منازلهم من جهة وأراضيهم وأعمالهم من جهة أخرى. كما أنه يصادر أيضاً أبسط حقوقهم في الحياة اليومية مثل التوجه إلى العمل والمدرسة والحصول على الخدمات الطبية. كما فصل الجدار بين العديد من العائلات وأصبح تلاقيهم أشبه بالمستحيل دون اللجوء إلى طرق عبور غير قانونية أو الحصول على تصريح إسرائيلي من الصعب الحصول عليه بالأصل. 

إعلان
200_METERS_Still06_Photo©Elin_Kirschfink.jpg

Elin Kirschfink​

"200 متر" يعطي طابع فيلم وثائقي من ناحية حركة الكاميرا، التمثيل الواقعي، وانتقاء اللقطات والزوايا، وأيضاً التصوير في أماكن حقيقية، فقد قرر أمين استغلال الحواجز وأبراج المراقبة الموجودة في كل مكان بالضفة الغربية، ويقول: "لقد اتبعنا خطة للتصوير نحافظ بها على سلامة الجميع، أولاً الوقت، لا يجب أن نتواجد في هذه الأماكن لفترات طويلة، وثانياً، العدد، يجب أن يكون فريق العمل محدود جداً كي لا نلفت أنظار الجيش الإسرائيلي. هناك حاجز إسرائيلي واحد قمنا ببنائه، ولكن كل المواقع الخارجية كانت مواقع حقيقية."

تم تصوير الفيلم في 21 يوماً، وهي فترة تعتبر قياسية في عالم الأفلام الروائية الطويلة. وكما رحلة البطل في الفيلم، كانت رحلة التصوير مليئة بالمخاطر والصعوبات وحبس الأنفاس. "أنا أعتبرها رحلة تحدي وسباق مع الزمن،" يخبرني الممثل علي سليمان عبر مكالمة فيديو من جمهورية التشيك حيث يعمل على فيلم جديد ويضيف: "كان هناك عدة مواقف صعبة مثل التصوير على حاجز طولكرم أو الطيبة (الذي هو حاجز لمرور العمال من الضفة الغربية لإسرائيل) كيف يتم محاصرة واهانة الفلسطينين في هذه الحواجز، الأمر خانق جداً جسدياً ونفسياً."

من المشاهد الصعبة أيضاً مشهد صندوق السيارة، ويقول: "كنا ثلاثة ممثلين والمصور موجود داخل السيارة معنا، كان الوضع خانق لدرجة أن الممثل معتز ملحيس فقد الوعي بسبب قلة الأوكسجين ولكن مرّت على خير والحمدلله." وهذا أيضاً ما حصل في الفيلم مع شخصية كفاح التي يجسدها معتز وشخصية رامي التي يجسدها الشاب محمود أبو عيطة، حيث يتم احتجازهم في صندوق السيارة وكادوا أن يفقدوا الوعي لقلة الأوكسجين. المقاربات بين الواقع والخيال في هذا الفيلم كثيرة بداية من القصة بشكل عام إلى أدق التفاصيل.

إعلان
200_METERS_Still02_Photo©Elin_Kirschfink.jpg

علي سليمان في لقطة من الفيلم. تصوير: Elin Kirschfink​

وُلد النجم الفلسطيني علي سليمان بمدينة الناصرة وبعد تخرجه من معهد التمثيل عام 2000 بدأ مشواره الفني بالمسرح، وفي 2004 شارك في فيلم "الجنّة الآن" للمخرج هاني أبو أسعد، الذي كان بمثابة نقطة تحول في مشواره وانطلق من بعدها إلى العالمية وجسّد شخصيات عدّة لعل أبرزها مؤخراً شخصية "موسى بن سليمان" التي قدمها بجانب الممثل الأميركي جون كراسينسكي في مسلسل "جاك ريان" من إنتاج أمازون برايم. ورغم وصوله إلى العالمية، ما زال علي شغوف بدعم السينما الفلسطينية والمشاركة بها.

وعن مشاركته في الفيلم رغم أنه العمل الأول لأمين يقول علي: "إن لم نقم نحن الممثلون الفلسطينيون بدعمه فمن سيدعمه؟ بالنسبة إلي من المهم أن نواظب على بناء السينما الفلسطينية، لأنها إثبات لوجودنا وجزء من روي قصصنا بأنفسنا للآخر، أفضل من أن يروي الآخر قصصنا. للأسف لا يوجد صناعة فلسطينية حقيقية مستقلة بسبب الاحتلال الإسرائيلي، ولكن لدينا كل الطاقات والمركبات السينمائية ولكن ما زلنا نعتمد على التمويل الخارجي. من الضروري أن يكون هناك صندوق للسينما الفلسطينية مدعوم من السلطة الفلسطينية." ويشاركه أمين في هذا الرأي ويقول: "أغلب الإنجازات السينمائية الفلسطينية التي شاهدناها في الفترة الأخيرة هي إنجازات فردية وتراكمات خبرات فردية لعدم وجود صناعة أفلام بفلسطين أو دعم من الحكومة و المؤسسات الفلسطينية." 

يحضر أمين حالياً لفيلم روائي ثاني تجري أحداثه في الأردن. يطرح أمين الفيلم بعيداً عن نقاشات سياسية ما عدا تلميحات هنا وهناك مثل مشاهد قصيرة ترصد صورة عملاقة في شوارع إسرائيل تجمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو محتفيْين باتفاق "صفقة القرن."

"٢٠٠ متر" فيلم مصنوع بإتقان، ويعرفك ولو بجزءً بسيط من المعاناة اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيين تحت الاحتلال. يثبت لنا أمين نايفة أن الفن هو من أهم وأخطر الأسلحة التي يملكها الفلسطينيون في وجه الاحتلال، ومن الملهم أيضاً رؤية صانع أفلام عربي يحقق نجاحات عدة في فيلمه الأول بالرغم من إطلاقه خلال جائحة كورونا.

قد تغيب عن هذا الفيلم أصوات القذائف ومناظر الدماء ولكن فلسطين موجودة بكل تفصيل، بالخلافات بين العائلة عن سبب رفض البطل الحصول على البطاقة الإسرائيلية، وعن تمسكه بهويته الفلسطينية. ونختم الفيلم مع مصطفى وهو يضيء سطح منزله لأولاده في الجهة الأخرى، ليثبت أن رغم البعد والاحتلال والجدار، لا يزالون قريبين من القلب ومن فلسطين.