IMG_9402
مسكون

اليوم العالمي لغزو الجن: مستشفى عرقة المهجور بالرياض

كنت اسمع صوت آذان الفجر يعلو من مكبرات الصوت في مسجد المستشفى المهجور

مسكون: في هذه السلسلة نسترجع قصصنا العربية الموروثة كجزء من استعادة السردية، بعيداً عن صحتها أو مدى إيماننا بالجن أو قوى ما فوق الطبيعة. هذه القصص تظهر كيف تتشابك التقاليد مع الدين مع عالم الموارئيات مع الترفيه.


تعتبر قصص الماورائيات مصدر الخوف الأكبر عند البشر، لاسيما تلك التي تطرح مواضيع الجن والعفاريت، وهي تُعجب الشباب لكونها تمسّ المحظورات وتُدخلهم عالمٌ خفي وغير مألوف بعيداً تماماً عن واقعنا، في عالم السينما مثلاً تعد أفلام الرعب الأكثر نجاحاً، بالتحديد تلك التي اعتمدت على قصص الجن مثل سلسلة الأفلام الأكثر رعباً على الإطلاق والأعلى إيراداً مقارنة بميزانية إنتاجها المتواضعة Paranormal Activity. يؤمن معظم البشر بتواجد الجن الخفيّ حولهم، فمن المتعارف عليه أن البشر هم من يفزعون ويخافون من الجن، لكن ماذا لو قلبنا الموازين وقرر هؤلاء البشر تحدّي عالم الجن وغزوهم؟

إعلان

هذا ما حدث بالفعل حين قرّر شباب سعوديون أن يخوضوا تلك التجربة تحت مسمى "اليوم العالمي لغزو الجن" من أجل اقتحام عدة أماكن مهجورة في السعودية يُزعم أنّ الجن يسكنها. حدّد الشباب موعد الاقتحام 21 مايو 2012 وأرسلوا "برودكاست" على أجهزة بلاك بيري التي كانت شائعة بين الشباب بالإضافة للمنتديات ومجموعات الواتساب. كانت الرسالة بعنوان اليوم العالمي لغزو الجن وتضمّنت أسماء المدن والأماكن المهجورة التي سيتم اقتحامها وأشهرها: مستشفى عرقة في الرياض. 

يتألف مستشفى عرقة من عدّة مبانٍ منها المستشفى الرئيسي المكوّن من ثمانية طوابق وتشمل أقسام العمليات والعيادات وتنويم المرضى، بالإضافة لمباني العيادات الخارجية وسكن الطاقم الطبي والمرافق الترفيهية والمسجد. المستشفى مؤثث من الداخل بالكامل ويحتوي على كافة الأجهزة الطبية والمعدات الكهربائية، تم بناءه على الطراز الكلاسيكي عام 1987، في حي عرقة غرب الرياض، بقيمة تبلغ حوالي 500 مليون ريال من قبل شركة "سعودي أوجيه" لمؤسسها ومالكها رفيق الحريري، رجل الأعمال ورئيس الوزراء اللبناني الراحل.

إعلان

يُقال إنّ المستشفى تم بناؤه كفندق، لكن الحريري قرر فيما بعد التبرع به لصالح وزارة الصحة السعودية، ولكنه توفي (تم اغتياله في بيروت في ٢٠٠٥) قبل أن يقوم بتوثيق هذا التبرع رسمياً لدى الوزارة. وبعد وفاته رفض ورثته التنازل عن المبنى، ولم تستطيع الدولة التصرّف فيه وفشلت كل الحلول لتشغيله وبقي مهجوراً لأكثر من 30 سنة. 

لأهالي حي عرقة رواياتهم الخاصة أيضاً وشهاداتهم الشخصية عن هذا المستشفى، فقد أكّد لي عدداً من سكّان الحيّ سماعهم لأصوات مفزعة ورؤية تحرّكات غريبة وأضواء تنير ثم تنطفئ لوحدها فجأة، وسماع تلاوة قرآن بصوت عذب صادرة من مسجد المستشفى في بعض الأحيان، وأصوات صراخ مرعبة ومخيفة في أحيان أخرى. 

تقول هيفاء، 21 عاماً، التي كانت تسكن بالقرب من المستشفى: "طفولتي كانت فيلم رعب حقيقي. كنا نسكن بالقرب من المستشفى، وكنت اسمع صوت آذان الفجر يعلو من مكبرات الصوت في مسجد المستشفى المهجور، لم يكن صوتاً عادياً، بل صوتاً خافتاً ومخيفاً جداً. لم يصدقّني أحد من عائلتي وقالوا إنني أتوهم. ولكني لم أكن وحدي، كان الجيران يتصلون بالشرطة بين فترة وأخرى ويقولون إنهم يسمعون أصواتاً غريبة تصدر من المستشفى، ولم يكن أحد يصدّقهم وكان الرد أن المكان مهجور. انتهى كابوسي بعد أن انتقلنا من الحيّ، لكنني لا زلت مؤمنة أن الصوت كان يصدر من هناك… من المستشفى المسكون."

إعلان

لم يتجرأ أحد على دخول المستشفى منذ بنائه لتعدد الروايات المرعبة عنه. وقد انتشرت قصّة تزعم أنّ خمسة شبّان تجرأوا على دخول المستشفى في منتصف الليل، بعد أن سمعوا أصواتاً مخيفة صادرة من الطابق العلوي تطلب النجدة. صعدوا لآخر طابق بالمستشفى فوجدوا غرفة مغلقة ينبعث منها روائح منظّفات ومعطّرات قوية، ولحظة فتحهم للباب قابلهم كوب من الشاي الساخن يتصاعد البخار منه وكأن أحداً أعدّه للآن، مع أن الغرفة كانت باردة جداً، قبل أن يتبين أن تلك الغرفة هي في الواقع.. ثلاجة الموتى. 

وتقول الروايات أن المستشفى لم يكن يبدو مهجوراً عندما دخله هؤلاء الشباب، بل على العكس، كان يبدو وكأنه جديد وجاهز لاستقبال المرضى. ولكنه فارغ تماماً. ولكن في لحظة ما، سمع هؤلاء الشباب خطوات مسرعة تقترب منهم، وفرّوا بأقصى سرعة، حتى أوقفهم حارس أمن المستشفى عند البوابة، وقالوا له ما رأوه، ونصحهم بعدم العودة مجدداً. بعد دقائق من مغادرتهم، أوقفتهم سيارة شرطة استغربت وجودهم بالمنطقة في هذا الوقت، وعندما أخبروه بأنها ليست مهجورة وأن فيها حارس، قال لهم: عن أي حارس تتحدثون؟! هذا المستشفى مهجور تماماً ولا حارس له. 

 مع تعدد وتنوع هذه الروايات، قرّر بعض السعوديين قطع الشك باليقين، واتفقت مجموعة من الشباب على اقتحام المستشفى ليلة الإثنين العاشرة مساءاً من 21 مايو ٢٠١٢ وأطلقوا عليها "ليلة غزو الجن." استعدّ الشباب لتنفيذ الاقتحام الذي كان يترقّبه الآلاف على مواقع التواصل، كما تجمّع أكثر من 200 شاب في ساحة المستشفى مرتدين أقنعة مخيفة، وحاملين أجهزة إضاءة وكشافات وشعلات النار. وتجمهر حولهم المئات لتصويرهم

إعلان

دخلت أول مجموعة من الشباب البوابة الرئيسية وهم يصرخون بصوت عالٍ "أظهروا أيها الجن لقد جئناكم" بينما كان الشباب بالخارج يشجّعونهم بالتصفيق والصفير. صعد الشباب، الذين كانوا يرتدون زيّ شخصية Ghostface المرعبة، كافة الطوابق محدثين الفوضى والشغب، دخلوا كل الغرف وكتبوا على الجدران عبارات تخويفية وأشعلوا النيران كي يظهر الجن، ووثقوا كل لحظة بكاميرات هواتفهم.  وصلوا إلى السطح ولوّحوا لأصحابهم بفلاشات الجوالات. وبدأت الهتافات والأصوات ترتفع من المتجمهرين. وخلال دقائق، انتشر الخبر الخبر على برودكاست البلاك بيري: "عاجل: تم بحمد الله تحرير مستشفى عرقة من الجن وطردهم على يد شبابنا الأبطال."

لم يستمر الاقتحام طويلاً، وصلت سيارات الشرطة، فأشعل الشباب النيران في أرجاء المستشفى داخله وخارجه لمنع دخولهم، ولكن الشرطة تمكنت من القبض على "مطاردي الجن" كما أسمتهم الصحف الإعلامية حينها. بقيت الشرطة تُحاصر المستشفى لعدّة أيام حتى هدأ الوضع. انتشر الخبر بشكل واسع بين الصحف والقنوات الإخبارية وأثارت القضية جدلاً كبيراً على البرامج التلفزيونية وبرامج اليوتيوب الساخرة. وتصدّر حينها هاشتاغ مستشفى_عرقة التويتر السعودي، وأصبح هؤلاء الشباب أبطالاً بنظر البعض ومخرّبين بنظر آخرين.

إعلان

لم يجد هؤلاء الشباب أيّ أثر للجن، كان المكان مُعتماً، موحشاً ومهجوراً. ولكن هذا لم يمنع البعض من الاستمرار بتصديق قصة الجن، واعتبروا أن الجن هربوا لحظة الاقتحام. تتذكر صفّية، 22 عاماً، هذا اليوم حتى الآن: "في اليوم التالي من الحادثة، عدت من مدرستي وكان صوت سورة البقرة يملأ أرجاء المنزل. وعندما سألت والدتي عن السبب، قالت: في شباب طايشين هجموا على الجن وحرقوهم، والجن هربوا وخايفة يجون يسكنون في بيتنا."

حمود، 24 عاماً، يقول أنه فخور بابن عمه بدر الذي كان أحد أفراد ليلة الغزو، ويخبرني بالتفاصيل: "حدث الاقتحام في فترة اختباراتي النهائية. وصلتني رسالة على هاتفي تتحدث عن اقتحام مستشفى عرقة، توقّعت أنها مزحة، ولكني اكتشفت أن ابن عمي شارك بالاقتحام، وعلمنا بذلك بعد أن قامت الشرطة باحتجازه. بعد عودة ابن عمي من المغامرة المجنونة كان يردد"سأقول لأحفادي إن جدكم شهد غزو الجن في مستشفى عرقة."

عبد الله، 23 عاماً، تابع لحظات الاقتحام لحظة بلحظة: "كان عمري 14 سنة عندما تلقّيت البرودكاست عن ليلة الغزو، لم أرغب بالمشاركة خوفاً من إغضاب الجن وقلقاً من أن تحلّ لعنتهم عليّ. ولكني تابعت تفاصيل الاقتحام على منتديات كانت تنشر فيديوهات فوريّة للاقتحام. بالحقيقة لم أتوّقع أن يخرج أي شاب حيّا أو سليماً من أذى الجن. ولكن يبدو أن الجن هربوا قبل وصول الشباب لحسن الحظ."

يقول عبد الله أنه يؤمن تماماً بوجود الجن ويضيف: "خالي دخل منزل جدي المهجور بالقرية وتلبّسه جنيّ، ولم يخرج منه سوى بعد أن قرأ الشيخ عليه الرقية. لازلت مرعوباً من هول الحالة التي كان فيها خالي عندما تلبسه الجن، لم يكن هو نفسه. مواجهة الجن فكرة مجنونة، أذكر أنني كتبت للشباب أنّ ما تقومون به ليس مسّلي. أوكي فهمنا إنكم جريئين بس ما توصل إنكم تلعبون مع الجن." 

إعلان

عبد، 31 عاماً، من سكّان حي عرقة، يصف تلك الليلة بالحرب: "توقّعت أن هناك إرهابيين اقتحموا الحيّ، فوضى، صراخ، حرائق وأعداد بشرية هائلة وطائرات مروحية تدور فوق الحي والشرطة في كل مكان. كنت دائماً ما أسمع أصوات وتحركات داخل المستشفى بحكم أنه قريب من بيتي، لكني لم أؤمن يوماً بالروايات المتناقلة. اللي سووه الشباب شي مجنون، لكني اعذرهم لانعدام وسائل الترفيه، فاخترع الشباب شي يسليهم."

في تلك الفترة من الزمن لم يكن هناك أية وسيلة ترفيه متاحة للشباب بالسعودية. حتى المجمعات التجارية كان دخولها حكراً على العائلات. فقد اشتهر حينها الهاشتاغ الساخر عرقه_لاند على غرار ديزني لاند. انتقد فيه الشباب الوضع الترفيهي الذي جعل من المباني المهجورة أماكن ترفيهية.

طالب أهالي الحيّ بترميم المستشفى وإعادة تشغيله لحاجتهم له، في 2018 ناقش أمير منطقة الرياض مع مسؤولي وزارة الصحة إعادة تأهيله وزيادة طاقته الاستيعابية إلى 330 سرير، لكنه لم يصدر أيّه قرار. وفي 2021 صرّحت وزارة الثقافة بأنها تعمل على تحويل المستشفى المهجور إلى مركز ثقافي شامل

يقول عبد الله أنه ضد تحويل المكان لأي مشروع آخر، والأفضل أن يتركوه كما هو. ويضيف: "هناك قصص مرعبة عن أماكن مسكونة ومهجورة تم إعادة استخدامها وفتحها، ستبقى روح الجن تحيط بالمكان، وقد تعود لتنتقم بوحشية مما قد فعله هؤلاء الشباب."

في المقابل، يرى عبد أنه لا يجب تصديق قصص الجن، ومن المهم إعادة تشغيل المكان كمستشفى: "نحن بحاجة لمستشفى في هذه المنطقة. قد تبقى الروايات تدور حوله بلا شك، فلا يمكن فصل المكان عن التاريخ الذي شهده، ولكن هذا لا يجب أن يكون عاملاً في عدم تطوير الأماكن المهجورة."

أما صفيّة فلديها فكرة أخرى: "المكان تحفة فنية جميلة، ولا أريد أن يهدموه أو يقوموا بتغييره. كنت أفضّل لو تبنّت هيئة الترفيه المشروع وحوّلته لمتحف رعب أو فعاليات مرعبة باسم البيت المسكون أو عرقة لاند كما نسميه. لا أحد يستطيع ذكر اسم المكان دون ربطه بالجن، حتى وإن لم يكن هناك جن فعلاً."

من فندق لمستشفى لمركز ثقافي لمتحف رعب. هل سينجح أي من هذه المشاريع في إعادة الحياة للمبنى المهجور أم أن الجن سينتصر؟ بكل الأحوال ستبقى أحداث مستشفى عرقة أشهر قصّة تُروى في تاريخ أدب الرعب السعودي، حتى يفاجئنا الشباب في مغامرة أكثر رعباً تكشف غموضاً جديداً في عالم الماورائيات.