قال المخرج الفرنسي جان لوك جودار إن السينما أجمل عملية احتيال في العالم، يوافقه الرأي المخرج المصري داوود عبد السيد، حيث قال في أحد حواراته التليفزيونية إن السينما هي شيء يشبه الواقع لكنه ليس الواقع، لذلك يتحرك المبدع داخل مساحة أوسع من مساحة الواقع، حتى يتمكن من رسم فكرته أو إيضاح مشاعره بصريًا عبر عدسة الكاميرا. يستخدم صُنّاع الأفلام الأساليب السينمائية مثل زوايا التصوير والمونتاج/التحرير في ما يمكننا تسميته بالـ "النصب اللذيذ"، حيث يمكنهم التلاعب بالمشاهدين والتواصل معهم في نفس الوقت، وهو ما يجلعنا نتفاعل مع ما يحدث على الشاشة، حتى لو كنا نعلم أنه "تمثيل" وليس حدثًا حقيقيًا.
ومع ذلك، يمكننا أن القول بأن السينما خلقت بعض الأحداث المكررة "الكليشيهيّة" المستخدمة في الكثير من الأفلام، على الرغم من كونها غير حقيقية أو خرافة أو حدث مُضخّم من أجل دراما أقوى وأفضل، بالطبع يمكننا تقبل كل ذلك ضمن سياق الخدعة المتفق عليها بين الجمهور وصُنّاع الأفلام، ولكن يمكننا أيضًا -في بعض الأحيان- أن نتعامل مثلما يتعامل من يكشفون الخدع السحرية، حيث نسرد ما يمكن أن يكون حقيقيًا وما يمكن أن يكون خرافة ونكسر الإيهام قليلًا، هل معنى ذلك أننا لن نستمتع بها بعد ذلك؟ بالطبع لا، سوف نستمتع، لكننا سندرك أن ما يحدث غير صحيح على الرغم من كونه ممتعًا.
الكلوروفورم للتخدير السريع
في أحد مشاهد بعض أفلام الأكشن أو الكوميديا أو الأفلام الجامعة لكليهما، يمكنك أن تشاهد أحد أفراد العصابة واقفًا في مكانٍ مظلم، منتظرًا، يضع بعضًا من الكلوروفورم على منديل، وحين يمر البطل/ صديق البطل بالقرب منه، يضع المنديل بكل قوة على أنفه وفمه فيفقد وعيه في ثوانٍ. على الرغم من كون المشهد يبدو واقعيًا، واستخدام الكلوروفورم صحيح تمامًا، لكن ثمة خطأ يجعل الأمر غير منطقيًا من الناحية العلمية.
الكلوروفورم مركّب عضوي استخُدم قديمًا كمُخدّر في بعض العمليات الجراحية أواخر القرن التاسع عشر. لكنه حاليًا لا يستخدم في العمليات الجراحية نظرًا لخطورته الشديدة على الكلى والكبد، وقد يؤدي إلى الموت إذا ما استُخدم بجرعات كبيرة ومكثفة، أما استخدامه بجرعات بسيطة فقد يؤدي إلى الغثيان وعدم التحكم في حركة الجسم والقيء وصعوبة التنفس، إذًا استخدامه صحيح، فما الخطأ في طريقة الاستخدام؟
أولًا، تفاعل الكلوروفورم مع الأكسجين الموجود في الهواء يُفقده قدرته على التخدير، لذا وضعه على منديل وانتظار الضحية لن يكون في صالح المُعتدي أبدًا. ثانيًا، يجب على المُعتدي إحكام وضع المنديل على فم وأنف الضحية لمدة لا تقل عن خمس دقائق، حتى يتمكن الكلوروفورم من العمل بشكلٍ سريع، إذًا ففكرة وضع المنديل لمدة ثوان وفقدان الضحية لوعيها هي فكرة خاطئة تمامًا، وبالطبع مشهد مدته خمسة دقائق كاملة عبارة عن محاولة تخدير عن طريق وضع منديل على الفم والأنف سيكون طويلًا جدًا وقد يصيب المشاهدين بالملل.
هل معنى ذلك أن الكلوروفورم لا يمكن استخدامه؟ بالطبع يمكن استخدامه حتى في القتل، فإذا تمكن المعتدي من خِداع الضحية وحملها على شربه فستموت بالتأكيد. أما إذا قرر استخدام الكلوروفورم عن طريق الرش، فيجب عليه أن يعلم أنه مادة متطايرة، بمعنى أنها تتبدد في الهواء بسرعة، وسيكون تأثيرها ضعيفًا جدًا، وأيضًا إذا لم يكن يضع كمامة أو قناعًا على أنفه وفمه فقد يستنشقه أولًا ويشعر بألم شديد في أنفه ومجرى التنفّس وتضيع الخطة ويفشل في خطف الضحية، وعندها سيواجه خطر القتل أو التسريح من رئيس العصابة المفترضة في الفيلم.
سحب صمام القنبلة بالأسنان
في أفلام الحروب والأكشن والكوميديا، قد تجد البطل أو أحد أبطال الفيلم يقتربون من وكر الأشرار/ الأعداء، فتقوم الحرب الضارية بينهما، ويتبادلان إطلاق النار، حتى يشعر البطل بتهديد حياته، فيُخرج قنبلة يدوية، ويُمسكها بيد وسلاحه الآخر باليد الأخرى، يمسك صمام الأمان الخاص بالقنبلة بين فكيه ويسحبه، يرفع يديه ويرمى القنبلة فتُحدِث انفجارًا كبيرًا وتقتل عددًا من أعدائه، مما يسمح له بالتجوّل داخل الوكر وقتلهم جميعًا. لكن هل هذا هو ما يحدث في الحقيقة؟
في البداية، يجب أن نقول إن القنبلة اليدوية تؤثر بالأساس على مساحة صغيرة نسبيًا، فلن يتأثّر بها من يقف على مبعدة منها، وأنها لا تُخرج اللهب من داخلها، فقط تُحدث دويًا وقد يظهر معه ضوءٌ ساطع، لكنها لا تُطلق النيران كما يظهر في بعض الأفلام. أما النقطة الأهم في حديثنا، فهي عدم إمكانية سحب صمام الأمان بالأسنان أبدًا. تعتمد القنبلة بالأساس على صمام أمان ذو قوة متوسطة، بمعنى أنه ليس ضعيفًا حتى تنفجر من أقل حركة، ولا قويًا حتى يصعب فتحه.
صمام الأمان يختلف من قنبلة إلى أخرى، بعضها يمكن فتحها بقوة نسبيًا بسيطة، والأخرى لا يمكن سحب صمامها إلا بقوة كبيرة، وفي الحالتين لا يمكن سحبه بالأسنان، فإذا افترضنا أن بطلنا قرر سحبه بأسنانه لصعوبة استخدام يديه، فسيستحيل فمه إلى خرابٍ فارغ فورًا، وعِندها - بالتأكيد - سوف يخسر الحرب.
الغرق الصاخب
عُرض مسلسل "Baywatch" الأمريكي عام 1989، وظل يعرض حتى عام 2001، وعبر ما يقرب من 250 حلقة كانت الحبكة الرئيسية تعتمد على فريق منقذين يعملون في ولاية لوس أنجلوس. يدخل أحد المشاركين في الحلقة إلى البحر/ المحيط، يتعرض للغرق، يطلق صيحات الإنقاذ عالية، ويبدأ في ضرب الماء بكلتا يديه، تجري أحد حسناوات الفريق بالتصوير البطيء لإنقاذه، تنجح في النهاية وتعُم السعادة أرجاء الشاطيء. لكن هذا المشهد واقعي؟
في البداية، نتمنى، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فالحسناوات لا يمكنهن سماعُك وأنت تغرق لأن الغرقى لا يُطلقون الصيحات، بل لا يتمكنون بالأساس من التحدث، كل ما يفعلونه هي بعض محاولات إنقاذ أنفسهم قبل أن تدخل المياه إلى جوفهم فيعجزون عن التنفس، لذلك قد لا يلتفت أحد إلى من يغرق على الرغم من اقترابه منهم لأنهم قد لا يعلمون أنه يغرق. إذًا ماذا يفعل المنقذون؟ يراقبون عن كثب كل ما يحدث في البحر حتى يسرعون إلى الإنقاذ إذا ما لاحظوا حركة غير عادية من أحد رواد الشاطئ. لذا يُنصح دائمًا بارتداء جميع أنواع الحماية من الطوق حتى سترة النجاة، خاصةً الأطفال لأن أوزانهم أقل من البالغين، وفرصة غرقهم أكبر.
القتل الصامت عال الصوت
يدخل عضو العصابة منزل الضحية، يتحرك بخفة شديدة بين الأثاث حتى يصل إلى مكان الضحية، يُخرج مسدسه ويُركّب على فوهته كاتمًا للصوت، يُفاجئ الضحية ويطلق النار على الرأس أو القلب، تخرج الرصاصة دون صوت تقريبًا، يُخرّب المُعتدِ غرفة الضحية ويسرقه، حتى يخدع المحققين ويخبرهم عبر الخراب أن الغرض من القتل السرقة وليس القتل العمد. فماذا لو لم تكن الضحية تعيش بمفردها؟ هل سيتغير شيء من السيناريو؟
في الحقيقة كاتم الصوت لا يكتم الصوت تمامًا، بمعنى أن المسدس سوف يصدر صوتًا عاليًا وقت إطلاق الرصاصة، لكنه ليس بنفس درجة الصوت الذي يخرج دون وجود كاتم الصوت، بمعنى أن الصوت الذي يخرج والكاتم موجود يوازي صوت إغلاق باب السيارة بقوة، مما يعني في النهاية أن الأمر لن يكون "مكتومًا" بالقدر الكافي، بسبب إنفجار الغازات داخل المسدس، ما يعني أن الصوت سوف يُسمع على مسافة قريبة نسبيًا من مكان إطلاق النار، وقد يؤدي ذلك إلى الإمساك بالمجرم.
علاج فقدان الذاكرة بصدمة أو ضربة على الرأس
استخدم العديد من صُنّاع السينما هذه الخدعة في رد الذاكرة إلى الشخصية فاقدة الذاكرة، لكنني أتذكر منهم حاليًا المخرج خالد مرعي في فيلم "بلبل حيران" إنتاج عام 2010 لأنني شاهدته مؤخرًا مرةً أخرى. ويحكي الفيلم عن بلبل (أحمد حلمي) الذي يتعرض لحادث مروّع فانتازي قليلًا أو مبالغ فيه لأجل الكوميديا، يخرج منه مصابًا بفقدان الذاكرة بسبب ارتطام رأسه بالأرض بقوة، مما يعني أن فقدانه للذاكرة كان عن طريق تلف الجزء الخاص بها في المخ، عن طريق السحجات أو القطعات التي وصلت إليه.
فحتى يتمكن المخرج وكاتب السيناريو من رد الذاكرة للبطل، فكرا في تعريضه لارتطامٍ آخر يستهدف رأسه، فتعود إليه الذاكرة بشكلٍ سحري وسريع، وهو ما قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة في الحقيقة. أولًا، يمكن بالفعل للإنسان أن يفقد الذاكرة مؤقتًا أو قد يصل الأمر إلى فقدان النظر بسبب "ارتجاج المخ - Concussion"، وذلك يحدث عندما تصاب الجمجمة بصدمة قوية جدًا تؤدي لكسرها وإصابة المخ نفسه بقطع في جزءٍ ما، وبحسب الجزء المصاب تأتي النتيجة، إما فقدان للبصر يسمى "العمى القشري - Cortical Blindness"، أو الإصابة بفقدان الذاكرة. فهل يمكن أن يكون حل الجروح جروح أخرى في نفس مكان الإصابة؟ تخيل أن إصبعك الأصغر ارتطم بالمكتب أو السرير وألمك ألمًا شديدًا، فهل الحل أن نرطمه مرةً أخرى حتى نتمكن من علاجه؟
في النهاية، تبقى السينما فنًا جميلًا يقدم لنا الكثير من المتعة والمشاعر، لكن كما ذكرنا في البداية، لا بأس ببعض المعلومات الأساسية علميًا وعمليًا، على أن نستمتع بها داخل سياق الفيلم، حتى لو علمنا أنها غير حقيقية.