FYI.

This story is over 5 years old.

فيلم

"The Mule" عن الجيد والسيء والقبيح في عصرنا

فيلم كلينت ايستوود الجديد يشكل عودة مجيدة لأحد أهم صانعي الأفلام الاميركيين
كلينت ايستوود

.Warner Bros

عشر سنوات بالتمام والكمال منذ آخر عملٍ أدى فيه كلينت ايستوود دوراً مزدوجاً أمام وخلف الكاميرا. نهاية الـ 2018 وبداية الـ 2019 شهدت فيلماً لأحد أهم الكلاسيكيين المخضرمين في هوليوود، هو من القلة الباقية هناك والتي لا تزال تقدم للسينما، أسطورة حية لا تبخل على الشاشة بأي شيء. مع ذِ ميول" (The Mule) عاد ايستوود الذي نعرفه: غاضب، باسم، بسيط وعميق مع النظرة الحادة نفسها التي اشتهر بها. إنّها العودة المجيدة على طرفي الفيلم لأحد أهم صانعي الأفلام الاميركيين.

إعلان

قصة ليو شارب خرجت إلى العلن عام 2014 في مقال في صحيفة "نيويورك تايمز." قصة قد تبدو خيالية عن محارب قديم في الحرب العالمية الثانية، أصبح بستانياً مشهوراً، لديه مزرعة صغيرة، يزرع ويبيع الزنابق ومحل احترام في هذه المهنة. في بداية هذا القرن توقفت الأعمال عن تحقيق الأرباح، تراكمت عليه الديون فوصلت به الأحوال إلى الإفلاس وفقدان كل شيء. هي لحظة تحوّل، أسس الرجل من خلال علاقاته لعملٍ مع "كارتل سنالوا" هو بات أحد أبرز سائقيهم، ينقل المخدرات من مكان إلى آخر. "تاتا" أو "الأب" نسبة لكبر سنّه، نقل آلاف الكيلوغرامات من المخدرات على مدى عشرة أعوام. قبض عليه وقد ناهز ال 87 عام 2011 مع أكثر من 100 كيلوغرامٍ من الكوكايين في حقائب في صندوق سيارته.

ما الذي جعل رجلاً مسناً هادئاً نوعاً ما ينخرط في أحد أخطر الأنشطة غير القانونية في العالم؟ حول هذا السؤال المعضلة بنى كلينت ايستوود فيلمه الجديد "ذِ ميول". منذ فيلم "غران تورينو" عام 2008 أخرج ايستوود سبعة أفلام دون أن يكون الممثل فيها، بينما أدّى أعمالاً تمثيلية مع عدة مخرجين في أفلام روائية ووثائقية. لماذا هذا الفيلم إذاً؟ إنّها قصّة فُصّلت على قياس ايستوود، رجل دفعه الشعور بالوحدة إلى الهاوية، والإفلاس إلى الاكتئاب والرغبة بالموت، يرتد إلى الوراء ويقارن، يرى كيف تغيّرت الأزمان وكيف بات العالم. هذه لعبة ايستوود التي يتقنها ليس فقط لتقارب عمره مع عمر شارب حين ألقي القبض عليه، بل لأنه أيضاً لعب هذا الدور سابقاً ونجح به والآن يعيده بنجاح أيضاً. أتحدّث هنا عن فيلم "غران تورينو" آخر فيلم أخرجه ومثّل فيه في الوقت عينه منذ 10 أعوامٍ.

من المشاهد الأولى يظهر ايستوود الكلاسيكي، في تسلسل يرسم خطوط الشخصية التي يلعبها. كئيب، متجهم الوجه، غاضب، عنيد، لا يثق بأحد ومكتفٍ ذاتياً. شخصية رجل عنيف وقاس يحاول العودة إلى المسار الصحيح، لكنه غير قادرٍ على التكيّف مع المعايير الجديدة للمجاملات والتزلّف، هو يفعل ويقول ما يراه مناسباً حتى ولو كان غير لائق. وكأن كل شخصيات ايستوود السابقة تجتمع من جديد، كما لو أنه يريد أن يثبّت إرثه في هذه الشخصية. رغم أنه في آخر أعماله الإخراجية منذ العام 2008 ابتعدت شخصياته عن الديناميكيات المعتادة وباتت تدور حول شخصيات الأبطال الأميركيين مثل "سولي" عام 2016 و"قناص أميركي" عام 2014. إنّ ايستوود والكاتب نيك تشينك ارتأيا هذه المرّة "بطلا" أو موضوعاً أميركياً من منظار مختلف وهذا ما أوضحه ايستوود بنفسه: "عندما طلب مني أن ألعب الدور، أخبرت نفسي أنه سوف يكون من الممتع لعب دور شخصية أكبر مني في العمر."

إعلان

هذه المرّة كان السنّ جزءٌ من حبكة الفيلم وتفاصيله، عن كبار السن في المجتمع، عن الجمود الذي يصيبهم وصعوبة النجاة في نظام رأسمالي متوحّش

الجريمة هي شريان الحياة بالنسبة لـ إيرل ستون (إسم شخصية ليو شارب في الفيلم) حياته تتحسن ولكن من ناحية أخرى هي تنهار، هو يذهب إلى القاع، إنسان هذا الزمن عليه أن يواجه عواقب الأفعال التي قام بها". ستون من قدامى المحاربين في الحرب الكورية، يبلغ التسعين من العمر، منفصل عن زوجته ماري (ديان ويست)، بعيد عن ابنته آيرس (اليسون ايستوود) وعلى علاقة سرية حذرة مع حفيدته جني (تايسا فارميغا). هو على شفير الإفلاس، يحاول التقرب من عائلته ثمّ يغتنم فرصة علّه ينقذ نفسه، فيبدأ ارتباطه بمكسيكي مشبوه يقدّم له المال، لكن ستون بات طرفاً في أعمال إجرامية لصالح كارتل مكسيكي، وفي الوقت عينه يبذل الطرق تقرّباً من زوجته السابقة وابنته لعلّها تُسجّل في ميزان أفعاله الحسنة. تبدأ المصاعب بداية من لعبه على حبال وجهي شخصية واحدة، ثمّ مع ترصّد رقابة إدارة مكافحة المخدرات له بسبب شكوك كولن بيتس (برادلي كوبر – جيف مور) ومساعيه لإثبات كفاءته عبر مكافحة آفة المخدرات في منطقته.

الشعور بالوحدة، الألم، المغفرة، الموت والعنصرية، مواضيع محببة ومألوفة لايستوود في أفلامه لكنّه أضاف طعماً فكاهياً باتخاذ الشيخوخة درعاً ومهرباً. هذه المرّة كان السنّ جزءٌ من حبكة الفيلم وتفاصيله، عن كبار السن في المجتمع، عن الجمود الذي يصيبهم وصعوبة النجاة في نظام رأسمالي متوحّش. فيلم عن الأسرة، عن الأبوّة والهوّة بين الأجيال المتعاقبة مع تشكيك بالجيل الجديد، عن التوازن والحدود بين الخير والشر وعن مكانتهما داخل كلّ شخص. الأحمال التي على كتفيّ ايرل مادية وأسرية أيضاً فهو يراهن على إصلاح كلّ ما دمّره قبل الإختفاء عن وجه الأرض، لا بل إنّه يشعرنا أنّ موته أو ذهابه إلى السجن لا يؤثران به بقدر سعيه لإصلاح ما أفسده. ذلك الرجل العجوز الذي كرس حياته لإخراج الحب من بين جدران بيته يحاول الآن أن يعوض ذلك عبر اتمام الواجب الاجتماعي "للوصاية الأبوية" هو قديم الطراز يريد أن يخمد شعور الذنب الذي يعتريه عبر تركة لعائلته. يطرح ايستوود مفهوم الواجب الذي على الرجل حمله دائماً، هذا "الدين العاطفي" تجاه الأحباب قبل الوداع. إنها فوضى عاطفية عارمة يجتازها الفيلم الأميركي بخطىً ثابتة.

إعلان
1546933150426-mule3

.Warner Bros

يحافظ "ذِ ميول" على شعور دائم بالخطر مقابل لامبالاة ملفتة من ستون، لقد استطاع ايستوود بحنكته أن يجعل الشخصية مقاومة، حادة، جذابة ولامعة حتى في أحلك الظروف بمزيج من الدراما الشبيه بأفلام السبعينيات والثمانينيات مع رشة عصرية. هذا تمثيلياً، أمّا خلف الكاميرا فمهارته فطرية كذلك، لقطاتٌ صورت ضخامة الحِمل الذي يجثم على كاهل الشخصية وأطنان الوحدة التي تعيشها. مشاهد أحجار المغزة في الصحراء، غروب الشمس على الطرقات، اللقطات الواسعة للغسق الغربي التي تعيدنا إلى أفلام الويسترن التي اشتهر بها.

هو كلينت ايستوود تلك الأيام، هو لا يزال موجوداً يحمل الفيلم على كتفيه لأن الشخصيات الأخرى بدت ثانوية، نحن نرى ما هو ضروري فقط ما يريده هو حصراً وليس المطلوب أكثر من ذلك. وهنا تكمن المشكلة الأساس، لا تجاري الشخصيات الأخرى عمق شخصية ستون، وهذا أدّى لجمود غير مقصودٍ للفيلم في أكثر من مرّة، عندما نكتشف ماهية عمل ايرل الجديد، توقّف النص مؤدياً للمشاهد المتكررة اعتباطياً لملء فراغ كان يمكن تجنبه والاستغناء عنه. لقد كان بالإمكان الاستغناء براحة عن عشرين دقيقة من الفيلم لأن هذه المساحات الفارغة المضمون والمجهولة طوّلته دون طائل. والملفت أيضاً أننا شعرنا بأننا لم نشاهد فيلماً كاملاً فالنهاية أتت مسرعة غير متقنة كأنها كُتبت بسرعة ولغاية عدم تطويل الفيلم أكثر.

لكنّ هذا لا ينفي حقائق في تاريخ السينما الحديث، كون ايستوود من المخرجين الذين يُعدون على أصابع اليد الواحدة لأنهم استمرّوا في تقديم الأفلام عن أعمارٍ تناهز التسعين. مع كلينت إيستوود ودّعنا عام 2018 واستقبلنا عام 2019 بطريقة جميلة ومدهشة، وجه ايستوود على الشاشة الكبيرة بات فيه شيءٌ من القدسية السينمائية، هو الذي يبقى سحره، نظرته، مشيته، طريقة كلامه، الذي يبقى كل ما فيه سينمائياً بشكل سحري.