FYI.

This story is over 5 years old.

صحة نفسية

متى يمكن أن يكون الاكتئاب معديًا؟

طوّرت الأبحاث والدراسات مفهوم الاكتئاب من مرض نفسي إلى عقلي تشترك فيه عوامل جينية وبيئية ونفسية و البيولوجية يُمكن أن تكون سببًا في انتقاله بالعدوى
الاكتئاب

كان منزل صديقي في البناية المقابلة لبنايتي في إحدى ضواحي العاصمة المصرية، القاهرة. ولظروف سفر والده كنا نعتبر بيته بيتنًا، نجلس عددًا كبيرًا من الساعات نلهو ونلعب، نأكل ونُغني ونتعارك. كانت والدته تقلق من فكرة عدم وجوده في المنزل، كانت تخاف عليه من الشارع وأهواله، لكن تأثيرنا كان أقوى من الخوف، فكنا نستأذنها في نزوله معنا للعب الكرة، وكانت توافق لأننا سنكون معه وسنعتني به. في الشارع، كنا - أنا وصديقي - الأكثر بدانة بين الأطفال، فكانوا يفرقوننا في فريقين مختلفين حتى نزن كفّة الفرق، وكان قائد الفريق يختار لنا عادةً مركز حراسة المرمى، لكنني كنت اتمرد عليه بسوء المستوى، حيث أمنح الكرات القادمة نحوي سبيلًا للمرمى، حتى يوافقون على نزولي إلى الملعب، صديقي لم يكن يفعل ذلك، كان يُحاول حراسة مرماه باجتهاد شديد، حتى لو أحرزنا عشرات الأهداف.

إعلان

بعد سنوات من اللعب واللهو، تفرّقت بنا السُبل وذهب كلٌ منّا في طريق مختلف، ولم أعلم عن أخباره شيء، إلى أن قابلته بعد أكثر من 12 عامًا، لم أعرفه للوهله الأولى، نحف وجهه وجسده، لكنه قابلني بنفس الابتسامة رغم السواد البادي أسفل عينيه. تبادلنا الأحاديث عن فترة ما بعد الدراسة والعمل، حكى لي عن فشله في السفر، وعمله في إحدى الشركات الخاصة، وزواجه حديثًا، وامتنانه لزوجته وعائلتها على مساعدته، لكنه يشعر بالآسى تجاهها تحديدًا لأن عليها التعامل مع نوبات اكتئابه، ويخاف من أن ينتقل لها بشكلٍ أو بآخر. لم أفهم معنى الكلمة وقتها، لم أكن أعرف ماذا يعني الاكتئاب، كنت أظنه الحزن وأنه خائف من أن ينتقل الحزن لها، فقررت نصحه بكلمات اعتيادية:"كل شيء سيمر، لا تقلق، لا تحزن، لا تيأس" فابتسم وقرر مصارحتي بإنه مصابٌ باكتئاب سريري، لم أفهم أيضًا، لكنني شعرت وكأن حجرًا كبيرًا رقد على صدري، صديقي القديم مصاب بشيء لا أفهمه، ففضلت السكوت إلى أن شرح لي أن الاكتئاب أنواع، وأن النوع المُصاب به هو "الاكتئاب السريري - Clinical Depression" أو ما يعرف أيضًا باسم (Major Depression).

لابد أن نُفرّق بين الشعور بالكآبة أو الحزن الشديد والانكسار، وبين مرض الاكئتاب السريري الذي يُغيّر في كيمياء المخ ويقلل نسب هرمون السيروتونين المعروف باسم هرمون السعادة

رحلة الاكئتاب من العصور الوسطى إلى محيطي الشخصي
ظهر مصطلح السوداء أو "الملنخوليا - Melancholia" من خلال اللغة الإغريقية القديمة عن طريق كلمتي "Melas" بمعنى أسود و"Khole" بمعنى نكد أو مرارة، ووصف ابن سينا السوداء في كتابة قانون الطب في القرن الـ 11 الميلادي، باعتبارها نوع اكتئابي من اضطراب المزاج، مما يؤدي إلى تطوّر بعض أنواع الفوبيات في النهاية. ظل مصطلح السوداء مستخدمًا حتى ظهر مصطلح الاكتئاب في القرن الـ 14 الميلادي من الكلمة اللاتينية "Deprimere" والتي تعني الضغط إلى الأسفل. وقبل أن نتخطى مرحلة التعريف، لابد أن نُفرّق بين الشعور بالكآبة أو الحزن الشديد والانكسار، وبين مرض الاكئتاب السريري الذي يُغيّر في كيمياء المخ ويقلل نسب هرمون السيروتونين المعروف باسم هرمون السعادة، عكس الشعور بالكآبة الذي يُمكن أن يُعالج برحلة أو نزهة لطيفة، الاكتئاب السريري مرض يجب أن يُشخّص عن طريق طبيب متخصص، ويُعالج إما بجلسات الدعم النفسي أو الأدوية بحسب رؤية الطبيب.

إعلان

ويتنوّع الاكتئاب بين الاكئتاب السريري والاكتئاب الجزئي والاكتئاب ثنائي القطب والاكتئاب الموسمي وغيرهم، وتتشابه أعراض جميع أنواع الاكتئاب في فقدان الشهية والوزن أو اكتسابه، صعوبات النوم والشعور بالإرهاق والنُعاس في نفس الوقت، فقدان المتعة في جميع الأنشطة، الشعور بعدم القيمة والاحساس بالذنب تجاه الجميع، مما قد يفسر خوف صديقي من تأثّر زوجته بالاكتئاب السريري، لكن هل الاكتئاب السريري مرض معدٍ بالفعل؟

هل ينتقل الاكتئاب بالعدوى؟
طوّرت الأبحاث والدراسات عبر السنوات مفهومنا عن الاكتئاب، من مرض نفسي إلى مرض عقلي تشترك فيه الكثير من العوامل الجينية والبيئية والنفسية والحيوية أو البيولوجية، والأخيرة كان لها نصيبًا من البحث عِند د. تورهان كانلي، أستاذ مساعد في علم الأعصاب التكاملية في جامعة ستوني بروك الأمريكية، الذي قدّم ورقة بحثية عام 2014 في جريدة بيولوجيا المزاج واضطرابات القلق، تحدث فيها عن أن الاكتئاب يمكن أن تُسببه الطفيليات والبكتيريا والفيروسات التي تؤثر في السلوك والمِزاج. قبل أن نحاول سرد ما قدمه "كانلي" في ورقته البحثية التي أثارت الجدل، علينا أن ندرك أننا نتحدث عن انتقال الاكتئاب كمرض عقلي وعضوي من المُصاب إلى الآخرون، لا عن انتقال الشعور بالكآبة كما أسلفنا، فحديث كانلي دار حول إمكانية تسبب الطفيليات والبكتيريا والفيروسات في الالتهابات المختلفة التي تؤدي في النهاية إلى الإصابة بالاكتئاب السريري.

قال كانلي إن الالتهابات يمكن أن تأتي من مصادر مختلفة ولا يُشترط أن تكون منقولة عن طريق العدوى، لكنه ركّز على فكرة أن تكون الطفيليات والبكتيريا والفيروسات مصدرًا لالتهابات المخ التي تؤدي إلى الاكتئاب في النهاية. وأضاف أن العلماء تعاملوا مع الاكتئاب في الـ 60 عام الماضية باعتباره مرضًا يؤثر سلبًا على النواقل العصبية ويعبث بكيمياء المخ، وحددوا بعض المناطق في المخ التي يمكن أن تتأثر بالاكتئاب، وتوقفوا عند هذا الحد ولم يكتشفوا جديدًا حتى الآن.

إعلان

هناك أسباب بيولوجية يُمكن أن تؤدي إلى تحول الاكتئاب إلى مرضٍ مُعدٍ ينتقل بين البشر عن طريق البكتيريا المعوية من استخدام نفس أدوات الطعام واستعمال نفس الحمّام

وأوضح كانلي أن أجسام البشر تحتوي على أكثر من 1،000 نوع من البكتيريا المعوية في الجهاز الهضمي، وهذه البكتيريا تُساعدنا على الهضم لكنها أيضًا تؤثر في الحالة المزاجية، لذلك يرى أنه من الممكن التحكم في تلك البكتيريا حتى تُساعد عن تقليل الأعراض الاكتئابية وحاليًا يعمل كانلي على تعديل البكتيريا المعوية في الفئران المعملية المُعقمة تمامًا، والتي يُعرّضها إلى الضغط العصبي حتى يتمكن من التحكم في البكتيريا المعوية لتحسين حالة الفئران المزاجية. يُعارض كانلي فكرة أن أسباب الاكتئاب يجب أن تكون عضوية فقط، فمن وجهة نظره توجد الأسباب البيئية على سبيل المثال، لكننا نتحدث هُنا عن أسباب بيولوجية يُمكن أن تؤدي إلى تحول الاكتئاب إلى مرضٍ مُعدٍ ينتقل بين البشر عن طريق البكتيريا المعوية من استخدام نفس أدوات الطعام واستعمال نفس الحمّام، وأضاف كانلي أن العلاج سيكون عن طريق علاج الكائنات الدقيقة الكامنة في جهازنا الهضمي.

تأثر شعوري لا عضوي
حتى الآن، لم تثبُت صحة بحث د. كانلي فيما يخص انتقال الاكتئاب عن طريق العدوى، ولم يُصاب أحد الأشخاص بالاكتئاب لأنه انتقل له من أحد القريبين منه، لكن هذا لا يمنع من أن الاكتئاب السريري يمكن أن يكون مُعديًا، لكن ليس بمعنى إصابة النواقل العصبية وكيمياء المخ، وإنما بمعنى انتقال الشعور بالكآبة والأفكار السوداوية إلى القريبين من المصاب.

تحدثت د. إيلين هندريكسن، طبيبة نفسية في مركز جامعة بوسطن الأمريكية للقلق والاضطربات ذات الصلة، في مقال لها بعنوان "هل الاكتئاب معدي؟"، عن دراسة أُجريت عام 2014 على الوافدين الجدد من الطلبة الذي سكنوا الغرف مع مصابي الاكتئاب السريري، وفحص العلماء الطلبة قبل السكن وبعد فترة من ثلاثة إلى ستة أشهر، حيث فحصوا ميلهم إلى التشابك مع مشاعرهم من عدمه وشعورهم بعدم الرضا بشكلٍ عام. أظهرت الدراسة أن الطلبة أصابهم ميل إلى عدم الرضا بشكلٍ عام، مما يُوضّح تأثرهم شعوريًا بالكآبة، لكن ليس المقصود هُنا - كما أوضحت سابقًا - الإصابة بأعراض الاكتئاب عن طريق خلل في النواقل العصبية في المخ، وإنما المقصود فقط طريقة التفكير، فأعراض انخفاض الرغبة والإرهاق الدائم تأتي أيضًا مُصاحبة لطريقة التفكير الاكتئابية، لكنها لا تُصيبهم بالاكتئاب السريري.

وتساءلت د. هندريكسن، هل هذا يعني قضاء وقت أقل مع المُصابين بالاكتئاب السريري؟ وأجابت أن هذا يرجع إلى كل شخصٍ على حدة، لكن إذا قررت التواصل عليك أن تعبر لهم عن مدى حبك وامتنانك لوجودهم في حياتك، بلا نفاق أو شعور بالشفقة، لأن الشعور بالشفقة سيُزيد الأمر سوءًا، شجعهم على طلب المساعدة من طبيب مختص، وهو أمر يتطلب شجاعةً كبيرةً منهم وصبرًا كبيرًا منك، وتذكر أنك -على الأرجح- لن تتمكن من علاجِهم وحدك، فأنت أمام مجموعة من المتغيرات يصعب السيطرة عليها، لذلك إذا شعرت بأنك بحاجة للمُساعدة أو ظهرت عليك أعراض الاكتئاب المذكورة أعلاه عليك زيارة الطبيب المختص وطلب الاستشارة، فطلب المساعدة ليس عيبًا، لكن الاكمال في طريق لا تقدر عليه لن يكون مفيدًا لكليكما.