11-05-2021
مجتمع

هَنا وزيزي..حين تحكي المسلسلات عن المشاهدين 

وجدنا أنفسنا في حكايات تقترب من الحقيقة، وجوه عادية، وتجسيد شبه كامل لنماذج رأيناها في حياتنا على اختلاف مراحلها

في دراما رمضان ٢٠٢١، لدينا شخصيات نسائية ربما نشاهدها للمرة الأولى، نموذج نسائي معبر ملايين من النساء في العالم العربي. نحن أمام دراما ترصد للمرة الأولى أمراضًا نفسية، دون أن توصم أصحابها، بل تغوص في حياة آلاف المشاهدين. في مرآة لعبة نيوتن و"خلي بالك من زيزي" وجدنا أنفسنا، حكايات تقترب من الحقيقة، وجوه عادية، وتجسيد شبه كامل لنماذج رأيناها في حياتنا على اختلاف مراحلها، الخوف والقلق، التوتر والجرأة، الأمان المفقود، الشعور الدائم بعدم الاستحقاق، معاناة آلاف من النساء جسدتها حلقات نيوتن، وزيزي، الطلاق الشفهي، المرض النفسي وكيف تؤثر خطايا التربية على تشكيل شخصياتنا وتشويه صورتنا عن أنفسنا كذلك. 

إعلان

مؤنس: أنا خايف عليكي
هَنا: أنا مبحبش الكلمة دي..ماتقوليش الكلمة دي تاني

هَنا:لسه بتحبني؟
حازم: هو لمسك؟

من أجل التخلص من لعنة الخائفين عليها، خاضت هَنا (منى زكي) في مسلسل "لعبة نيوتن" رحلة الكشف عن نفسها، ضربت أول كرة في لعبة نيوتن، باحثة عن الأرض الموعودة، كي تضمن لوليدها حياة بلا خوف بعد حصوله على الباسبور الأمريكي، أما حياتها هي فقد استنزفت فيها كل أرصدتها من القلق والتوتر، في سعي دائم لتثبت للجميع أنها ست "ناصحة" ولم تعد الفتاة الصغيرة الـ"مش فالحة" كما تخبرها أمها، ولا الزوجة الضعيفة التي لا تستطيع فعل شيء بسيط كأن تتحمل إنقطاع الكهرباء، أو تتوقف عن رعبها من كلاب الشارع.

هَنا، التي تعاني من غياب للأب، أم متسلطة، زوج لا ينظر لها كزوجة بل كإبنة، مسئول عنها وعن حياتها، لا تساويه ولا تشاركه، رغم كل ما فعلته من أجله، مشاعره تتلخص في جملته لها حين سألته "لسه بتحبني؟ فيجيب حازم: هو لمسك؟" انتفاضة هَنا لم تكن فقط في مواجهة أمها وزوجها حازم (محمد ممدوح) بل طالت الكل، أضحت تستطيع أن تتغلب على الجميع، يقتلها شعورها بعدم الاستحقاق.

ببعض المواءمات استطاعت هَنا أن تتلاعب  بزوجها المتدين مؤنس (محمد فراج) وأن تواجه حماتها السابقة وتخرج من الجانب المظلم في منزل عائلة حازم، لتجلس في الجانب المضئ. لا يهمها زواجها الشرعي ولا الورقي، ففي الحقيقة هي لم تذهب ولا مرة لشيخ لتسأله عن شرعية زواجها من مؤنس، ولم تتحدث مع محامي، ليخبرها عن مدى قانونية موقفها مع حازم، هي تريد أن تكون قادرة على أن تسيطر على الجميع، ولا يسيطر عليها أحد. 

زيزي: أنا مش بهزر ..انا بقيت بتعالج بسببكم. انتوا السبب انا ليه غضبانة..انتوا السبب إني ع طول غضبانة،  بوظتوا حاجات كتيرة جوايا.

إعلان

زيزي: أنا ماما عمرها حضنتني 
مراد: إزاي يعني في أم عمرها ما حضنت بنتها 
زيزي: كان حضن كروتة كده، اللي هو مش طبطبة ولا حضن عميق، اللي هو خلاص يا حبيبي خدت اللى أنت عاوزه اسكت بقى

تأتي زيزي (أمينة خليل) في مسلسل "خلي بالك من زيزي" من مكان مختلف عن َهنا. ربما للمرة الأولى تطرح الدراما العربية المشاكل النفسية بهذه الطريقة، الأمر بعيد كل البعد عن التنظير النفسي، ودوائر النقاشات البرامجية، التي لا يستمع إليها أحد. لدينا شخصيات من لحم ودم، زيزي التي لا تخرج من غرفتها، لا تغير ملابسها، تبدو هوجاء، عصبية، حادة الطباع في أغلب الوقت. لكن تصرفاتها لا تأتي من فراغ، هي ببساطة لم تجد من يفهمها ويقف معها وليس ضدها. الأب والأم يعانيان في علاقة لا تنال رضاهما "عشان العيال" وفي سبيل التضحية من أجل الأبناء، يفشلان في منحهم أبسط ما يحتاجونه: الحب والأمان. 

زيزي التي تعامل والديها مع نوبات غضبها بحبسها في غرفة الغسيل، اكتشفت في النهاية أنها ضحية لمرض نفسي، ADHD أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، وهو من أكثر اضطرابات النمو العصبي شيوعًا، وغالبًا لا يتمكن المصاب به من السيطرة على سلوكياته المندفعة ونوبات الغضب. العلاج النفسي لهذا المرض لا يكتفي بالشخص المصاب به فقط، بل يستلزم مشاركة عائلته في خطوات العلاج وتقديم كافة وسائل الدعم.

سلط "لعبة نيوتن" و"خلي بالك من زيزي" الضوء على الكثير من القضايا المهمة والتي نوقشت درامياً بشكل غير سطحي، من بينها قضية الطلاق الشفهي التي طرحها مسلسل "لعبة نيوتن" والتي أثارت جدلاً واسعًا عبر مواقع التواصل الإجتماعي. شخصياً، أعرف عشرات القصص في محيط عائلتي وأصدقائي ممن عانين من لحظات غضب الزوج، وإلقاءه يمين الطلاق مرة وإثنين وثلاثة أحيانًا، وفي كل مرة تذهب فيها النساء لدار الإفتاء، يراجع الشيخ الزوج، وهو يبحث عن وسيلة ما لدرء الكارثة، فمرة الغضب، ومرة اليمين عبر الهاتف، وحتى صيام الزوج كان عذراً احتسبه الشيخ لعدم وقوع الطلاق.

إعلان

منذ سنوات تثار قضية الطلاق الشفهي في مصر، يقره الأزهر وتريد الدولة إنهائه، وبين خلافات الدين والدولة، تستمر المصريات تحت رحمة نوايا الأزواج، ضحايا لكلمة "إنتي طالق" دون توثيق، ورجعة دون موافقة، تحكي إحداهن: "بابا طلق ماما 3 مرات، ولأنه كان طلاق شفهيًا عشنا أيام سودة، هو بينكر إنه طلقها، وهي بتقوله أنا متحرمة عليك، دي مأساة حياتنا لحد ما ماما تشجعت وقدرت تخلعه، بعد 30 سنة من طلقتك وما طلقتكيش."

منعًا للجدل خرج شيخ الإفتاء السابق علي جمعة، بفتواه بشرعية زواج الحامل المطلقة بعد ولادتها، وأن الطلاق ثابت بعد إنقضاء عدة الحامل بالولادة، وزواج بطلة نيوتن جائز شرعاً، أجاب جمعة عن شرعية علاقة متلفزة، بينما تنتظر آلاف العلاقات إثبات شرعيتها بكلمة من شيخ في دار الإفتاء، أو ورقة مأذون.

هل كانت هَنا ضحية؟ أم هي في الواقع تشبهنا؟ تشبه تأرجحنا بيت الخير والشر، بين ما نفعله وبين ما نريده؟ الحقيقة أنني في أحيان كثيرة فقدت تعاطفي معها، كنت أراها واعية تمامًا بما تفعل، بل وتقصده، هي من كانت تحرك كرات نيوتن، وفقا لما تريده. لكنني في أحيان أخرى كنت أجدني أمام المرآة، أري تحولات شخصيتي كما تحولت هَنا، القوة بعد الضعف، السيطرة بعد الهوان.

لست أنا فقط من وجدت نفسي في هذه الشخصيات، كثير من النساء تحدثن عن ذلك. تقول هبة، 28 عاماً، أنها ترى أن "هَنا في لعبة نيوتن مسؤولة مسؤولية تامة عن أفعالها، الجمهور لا يعترف بالمرض النفسي، هي كانت تعاني من سيطرة أمها ثم زوجها، ثم أصبحت تستمتع بأن تجعل الجميع تحت سيطرتها.  الأغلب يراها شريرة ومتلاعبة سواء عن قصد أو عن غباء. في الحلقات الأخيرة بدأت بفقد تعاطفي معها، برغم اقترابي منها في بداية المسلسل."

وتشير ميسا، ٢٧ عاماً، أنها في كثير من الحلقات كانت ضد هَنا وتستغرب من "هَبل" تصرفاتها، ولكنها تعلم أنه من السهل التنظير من بعيد: "هَنا، حازم، مؤنس، جميعها تشبه شخصيات حقيقية نعرفها، لقد نجح المسلسل بخلق شخصيات تشبهنا، وفتح الكثير من الجروح، وجعلنا نعيد التفكير بكل قناعاتنا الجاهزة، ونسأل أنفسنا كيف سنتصرف إذا اضطررنا يوماً ما لاختبارها."

إعلان

هَنا منهارة تحدث نفسها : ششششششش اسكتي. بس بس ..
متعيطيش. 

الحوار الذي دار بين هنا القوية، وهنا الضعيفة أمام مرآة الحمام، بعد وصول ورقة طلاقها من حازم، كان هو لحظة انكشاف أن تلك السيدة التي "لبست بدلة باتمان" هي أخرى غير التي تقف عارية باكية أمام المرآة. تقول نهى، 32 عاماً، إلى أنها مرت بلحظات مشابهة: "تقريًبا مفيش ست ما وقفتش تصرخ قدام المراية، وتضرب نفسها وتقولها اسكتي، أنا شوفت نفسي في هنا في اللحظة دي. هَنا مش ضعيفة، دي الصورة اللي بتحاول تقنع بيها الجميع عشان تكون مرتاحة، لكن هي عكس كده، وده أنا برضه، بحاول أقنع الكل بقوتي وأنا في الأصل هشة وضعيفة." 

على الرغم من ادعائنا المستمر بوضوح الصح والخطأ، إلا الحياة شديدة التعقيد، وهذا ما ظهر في دراما هذا الموسم الرمضاني، كان علينا أن نواجه أشخاص حقيقيون، ليس بينهم ضحية كاملة، تستحق التعاطف وتنتهي القصة.. نهاية تليق بانتصار الحق والخير، كما اعتدنا. هل نحن بصدد تغيير مفاهيم المجتمع عن تقبل حق الزوجة في الرفض؟ هل ستجرؤ الدراما العربية لمناقشة أن المرأة التي ترفض معاشرة زوجها لا تبيت ليلتها تلعنها الملائكة، وأن من حقها أن تقول لا، ومن حق هَنا أن تقول لا للكثير من الأمور، حتى وإن كان البعض يراها متلاعبة ومتسلطة. 

نيللي: أنا بقيت مش طايقة نفسي بسبب موضوع الخوف، حاسة ان صورتي بتتهز قدام نفسي كل يوم
زيزي: فكرتي تروحي لدكتور يعني؟ الدكتور النفسي مش غلط ..لازم تروحي

حياة زيزي التي تشبه حياة العديد من الفتيات، ممن فقدن الدعم العائلي، وغاب عنهم الأمان في حجرة الغسيل، أو تحت سلم مهجور، أو في شارع مظلم مملوء بالحصى، دون أن يجدوا يدا تمتد لهم تمنع عنهم مشاعر الخوف والقلق، فصاروا دائمي الارتباك والعنف، لا يجيدون التعبير عن مشاعرهم، بعضهم وصل بالفعل لبداية الطريق، كما وصلت زيزي، وقرروا ايجاد أنفسهم في الطب النفسي، بحثًا عن راحة مفقودة.

إعلان

تقول ياسمين، 32 عاماً، أن مشاعرها خلال مشاهدة مسلسل "خلي بالك من زيزي" كانت تترواح بين الألم والفرحة في نفس الوقت، وتضيف: "شعرت بالألم عندما رأيت في عائلة زيزي صورة طبق الأصل لعائلتي، وطريقة تعاملهم معي، بنفس الوصف وبنفس الكلمات. شعرت بالظلم الواقع علي زيزي وافتقادها الحنان والأمان، وبحثها الدائم عمن يفهمها ويشعر بها."

تحكي ياسمين عن مشاعرها أثناء متابعة الحلقات: "أنا أيضا تألمت كما تألمت زيزي، ولكنني أعاني كما  تعاني ابنة خالة زيزي نيللي (نهى عابدين) من الخوف والقلق المرضي. مشاهد خوف نيللي غير المبرر تؤلمني بعض الشيء، فهي في نظر الجميع القوية والجدعة والشاطرة، لا أحد يعرف أنها كل يوم تعاني من الخوف من كل شيء، وأنها لا تشعر بالأمان إلا في وجود أحد معها. لقد ذهبت للعلاج النفسي، لأتمكن فقط من الخروج من المنزل بمفردي، أو حتى البقاء في المنزل دون أن تفقد صوابها من شدة الخوف."

مثل زيزي، تقول خولة، ٣١ عاماً، أن العلاج النفسي غَير حياتها: "لم أكن لأتمكن من الاستمرار بدون العلاج النفسي، وفهم لماذا كنت أتصرف بعدوانية ولامبالاة مع الجميع. كان من الرائع رؤية التحول الذي حصل في شخصية زيزي، وكيف تحولت من شخص مزعج لنفسها ولمن حولها إلى شخص أكثر راحة مع نفسه، لا شيء يعلو على شعورك بالراحة مع نفسك."

زي: غريبة أنا مكنتش متخيل مؤنس محترم للدرجة دي
هَنا: لا انت مش فاهم يا زيي..ده بيحترمني و يقدرني أوي أوي 
زي: هَنا ..العادي إن الناس تحترم بعض
هَنا: لأ ده مش العادي..أو أنا يعني مش متعودة على كده 

هذا الحديث بين هَنا وزي كان متقنًا حقًا، نحن نشعر بالامتنان تجاه من ينصفنا ويعاملنا باحترام ويجد لنا أعذاراً ولا ينتقدنا باستمرار. ولكن أليس ذلك هو الطبيعي كما يقول زي؟ أو أن الحقيقة كما قالت هَنا..احنا يعني مش متعودين على كده؟