بين الشوارع المزدحمة داخل ما يعرف بمنطقة وسط البلد في العاصمة الأردنية عمَان، رأيت العديد من بوسترات الأفلام القديمة المهترئة، صوراً باهتة لممثلي الزمن الماضي على حوائط بعض المباني القديمة، ولافتات قديمة تحمل أسماء كلاسيكية. هذه هي المؤشرات الوحيدة التي تبيّن أن هذه المباني المهجورة الآن، كانت وحتى أواخر تسعينات القرن الماضي لا تخلو من الأضواء، الموسيقى ،والحياة.
الحسين، فلسطين، رغدان، بسمان، الحمرا، الرينبو، ريفولي، هي أسماء لبعض من دور السينما التي بدأ إنشاؤها في ثلاثينيات القرن الماضي في الجزء الشرقي من العاصمة عمّان، إستمرت رقعة الإستثمار في قطاع السينما حتى فترة السبعينيات. ولكن دور السينما المشهورة سابقاً، أغلقت أبوابها الآن وربمّا للأبد، لأن التاريخ والذكريات لا تستطيع بالضرورة مجابهة التكنولوجيا والحداثة.
يقول من اعتاد على حضور عروض الأفلام في دور السينما هذه أنها كانت تحرص على مواكبة كل ما هو جديد من أفلام عربية وغربية،وأن الذهاب إلى السينما كان جزءاَ أساسياً من حياة الناس الإجتماعية آنذاك. كانت دور السينما تنقسم إلى ما هو شعبي وأرستقراطي، فكانت تختلف أسعار التذاكر من سينما إلى أخرى بحسب مكانها ونوعها، و لكن أسعار التذاكر كانت تتراوح ما بين الثلاثة قروش والعشرة قروش أردني، أي ما يعادل أقل من 10 سنتات. كان موقع دور السينما هذه يلعب دوراً في إقبال الجماهير عليها، حيث كانت العائلات تبدأ سهرتها بمشاهدة فيلم، ثم تكمل باقي ليلتها في أحد المطاعم المنتشرة في شوارع قاع المدينة.
في داخل هذه السينمات التي سمح لنا أن ندخلها لإلتقاط بعض الصور، كل شيء باقي مكانه وكأن الحياة توقفت فجأة منذ إغلاق السينما، فماكينات البوشار القديمة لا زالت مكانها، وشباك التذاكر لا زال يحتفظ بأوراقه وأقلامه التي كانت تستخدم لإصدار تذاكر بدائية، صالة العرض باقية بكل تقنياتها، لكنك لن تتوقف عن العطس وانت داخلها بسبب كمية الغبار التي كست الكراسي والستائر. داخل غرفة تشغيل الأفلام، لا تزال أشرطة أفلام نادية الجندي مكانها.
أمسكت بإحدى بوسترات الأفلام لسعاد حسني فبدأت بالتمزق من شدة ضعفها و قدمها، أخبرني سعيد، الشاب المصري الذي يملك مفتاح السينما التي تفتح فقط لأغراض صحفية، أن بإستطاعتي أن أخذ هذا البوستر كهديّة، كنت سعيدة بهذه الهدية التي تنبعث منها رائحة الغبار، ولكن الذكريات الجميلة التي تنبعث منها لا تقدر بثمن بالنسبة لي.
مع نهاية التسعينات تغير الوضع تماماً، فلقد كان دخول الستالايت، وبدء شراء جهاز تشغيل الفيديو بشكل فردي بمثابة الضربة الأولى التي وجهت لدور السينما هذه، فلم يعد الجماهير بحاجة إلى الذهاب إلى السينما لحضور آخر الأفلام، إذ بات بإستطاعتهم مشاهدتها في منازلهم. مع مرور الوقت، بدأ عدد رواد هذه الدور بالتناقص شيئا فشيئا، حتى بدأت الدور بإغلاق أبوابها واحدة تلو الأخرى.
في بداية القرن الواحد و العشرين، بدأت عمّان الغربية في النهوض كجزء ارستقراطي من المدينة، وبدأت المجمعات التجارية في الإنتشار شيئا فشيئا، فبدأت السينما بالعودة بقوّة، ولكن هذه المرة بطريقة حديثة تواكب آخر التقنيات التكنولوجية، فأصبح بإستطاعة الجمهور أن يشاهد الأفلام داخل قاعات مكيّفة وحديثة.
مؤخراً، قامت سينما الرينبو التي تم إغلاقها في أواخر القرن الماضي بفتح أبوابها مجدداً، ولكن هذه المرة عادت لتعمل كمسرح ثقافي، وأيضاً عروض لأفلام وثائقية عربية واجنبية بشكل مجاني، في محاولة من مالك الدار لإبقاء هذه الصرح الثقافي مفتوحاً. ولكن باقي دور السينما لا تزال غارقة في الماضي.