آبار الموت: مغاربة يقتاتون من تحت الأرض

تصوير: إبراهيم كريم

FYI.

This story is over 5 years old.

مجتمع

آبار الموت: مغاربة يقتاتون من تحت الأرض

عندما يتم توفير بديل اقتصادي لي غداً، أقسم لك أنني لن أعود لهذا المكان مجدداً

بعيداً عن العاصمة المغربية الرباط بأكثر من 500 كيلوميتراً في اتجاه الشرق وحوالي 60 كيلوميتراً على عاصمة الجهة الشرقية للمغرب توجد مدينة جرادة والتي تقطن بها 43 ألف نسمة المعروفة بمدينة "الأرامل والأيتام". هذه المدينة المنجمية التي تحتوي أعماقها على الفحم الحجري والمعادن، تعتبر إحدى أكبر المدن المنجمية في المغرب والتي كانت تشكل قطباً اقتصادياً في مجال الطاقة والمعادن قبل قرار إغلاق المنجم الرئيسي للفحم من طرف الحكومة المغربية سنة 1998 بعد اتفاق مع النقابات العمالية الكبرى في المغرب بعد أن أصبح ثمن الفحم الحجري أرخص على المستوى الدولي وأصبح يكلف الشركة تكلفة أرخص من إنتاجه في مدينة جرادة.

إعلان

منذ ذلك الحين وحتى اليوم يعاني أبناء المدينة من الشباب من تفشي البطالة التي تبلغ 32% في إقليم جرادة وهي أعلى نسبة في الدولة، حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط، مما يضطرهم للعمل بطريقة عشوائية غير آمنة في آبار الفحم أو ما تسمى "آبار الموت. من السهل أن تعرف سبب تسمية جرادة بمدينة "الأرامل والأيتام" حيث "تستهلك" آبار المدينة العديد من الأرواح بداخلها وتُيتم أسراً كثيرة. بعد فقد أزواجهن أو أباءهن في هذه الآبار، تضطر الكثير من النساء إلى العمل في آبار الفحم، تلك التي لا تزال تحوي رفات موتاهم، حيث أنهن يتوجهن إلى هذه الآبار من أجل مساعدة الرجال في تصفية الفحم وتجميعه، وتجمع ما يستطعن ويُقمن ببيعه للعائلات في المدينة لاستخدامه في التدفئة. التقينا في أحد مواقع التنقيب إحدى السيدات التي تبلغ من العمر 55 عاماً، تقول بصوت منخفض وتخفي وجهها:"أجمع ما تيسر من الشربون (الفحم الجري) منذ عشر سنوات عندما توفي زوجي داخل أحد الآبار الملعونة. لم أجد بديلاً آخر، لا يمكنني مصارعة الرجال في البحث عن عمل، ألتقط بعض الحجيرات من الفحم حتى أملأ دلوي الصغير وأتوجه إلى بعض المنازل من أجل بيعه للأسر التي تشتريه من أجل التدفئة، أحصل في ذلك بعض الدراهم التي تمكنني من العيش بكرامة."

تصوير: ابراهيم كريم

وصلت إلى جرادة في صباح يوم غائم ماطر، ما جعل المدينة تبدو أكثر سوداوية. تحركت برفقة بعض العاملين في آبار الفحم وصعدت برفقتهم إلى واحد من الجبال التي تحوي أكثر من أربعين بئراً، وكانت الأمطار تتهاطل بشدة. في كل بئر، كان يعمل بين أربعة وثمانية أشخاص، ينزل أربعة أو خمسة تحت الأرض ويبقى آخرون فوقها من أجل مساعدتهم على النزول والصعود وكذلك استلام الفحم الذي يتم استخراجه من الأرض، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه عند وقوع كارثة. ينزل العامل بوجه نقي وبعد قضاء بضع ساعات داخل المكان يخرج من البئر ووجهه غامق السواد من شدة الفحم الملتصق على بشرته. معظم العاملين هناك لا يرتدون الملابس المناسبة وليس لديهم الأدوات والآلات المتقدمة اللازمة للتنقيب، فلا يزال هناك من يستعمل المطرقة التقليدية من أجل التنقيب وحبلاً ورافعة يدوية من أجل النزول والصعود، أما اولئك الأوفر حظاً فلديهم معدات كهربائية تسهل عليه عملية دخول البئر واستخراج الفحم. ويحفر هؤلاء اباراً بشكل عمودي يتراوح طولها بين 10 و 60 متراً تحت الأرض ثم يقومون بالحفر بشكل أفقي من أجل استخراج الفحم الحجري.

إعلان

رحلة النزول إلى هذه الآبار هي خطيرة جداً. في شهر ديسمبر من السنة الماضية أثيرت ضجة كبرى في إقليم جرادة بعد وفاة أخوين داخل أحد الآبار بمدينة جرادة غرقاً بعد أن اجتاحت المياه البئر وهما بداخله، ليتأجج الوضع ويخلق بالمدينة حراك اجتماعي جعل للساكنة مطالب اجتماعية واقتصادية تجاوبت معها الحكومة المغربية والسلطات العمومية عن طريق اتخاذ حزمة من القرارات من بينها خلق مجموعة من المشاريع الاقتصادية من أجل تنمية الإقليم وخلق فرص شغل للشباب الذي يشتغل داخل آبار الفحم. ولكن الاحتجاجات لا تزال مستمرة ودخلت شهرها الرابع الاسبوع الماضي، في الوقت الذي قالت فيه السلطات المغربية إنها ستتعامل بحزم مع هذه المظاهرات.

وفاة الأخوين ليست الأولى داخل آبار الموت بل أودت هذه الآبار بحياة أزيد من أربعين عاملاً، حيث يلقون مصرعهم داخل الآبار بعد تدفق المياه بداخلها أو تسرب الغاز أو نزول التربة والأحجار على العاملين. تحدثنا الى عدد من العاملين داخل آبار الموت، من بينهم أحمد، شاب يبلغ من العمر 32 عاماً، متزوج وأب لطفل ويعيش رفقة والدته يقول أنه: "يودع عائلته في كل مرة يتوجه نحو تلك الآبار": "لا أعلم إذا ما كنت سأصعد مرة أخرى أم لا، أنزل للتنقيب عن الفحم من أجل بيعه والحصول على المال لكنني لا أضمن أنني سأفعل ذلك في كل مرة."

أحمد - تصوير: ابراهيم كريم

لم يجرؤ الكثير من الصحفيين الذين زاروا المكان على النزول إلى هذه الآبار، ولكني قررت أن أتشجع وأعيش تجربة النزول الى هذه الآبار. عشر دقائق فقط، اكتشفت فيها مدى الخطر الذي يعيشه رجال آبار الموت داخلها، طريقة النزول لوحدها تشعرك أنك تتوجه إلى مكان غير آمن حيث أنك تضع رجليك بين حبل وتمسك به جيداً وتنزل بشكل عمودي قبل أن تتوقف وتضطر للزحف كالثعبان داخل ذلك البئر، بعد أن رأيت أنهم يثبتون بعض الخشب بين السقف وقاع البئر لمنع السقف من الانهيار على العمال، زادت جرعة الرهبة والخوف من كارثة. في داخل البئر، في مساحة صغيرة كان العمال يزحفون كالأفاعي من أجل التنقيب عن الفحم واستخراجه، ينبشون السقف للحصول على الفحم فيتساقط بعضه على الأرض والنصف الآخر على وجه المنقب، ودون التنقيب عن أي شيء، غير حقيقة ما يعيشه هؤلاء داخل تلك الآبار، نلت حصتي وصعدت ملطخ الوجه بالفحم.

إعلان

بعد خروجي بنجاح وبقليل من الخوف، توجهت الى في بئر مجاورة وتحدثت الى رابح، أربعيني يشتغل من عشرين سنة داخل هذه الآبار، والذي أخبرني كيف انتشل من أسبوعين جثة أحد العمال: "كنت أشتغل في البئر خاصتي، عندما سمعت صوت انهيار وصراخ بعيد، حينها علمت أننا فقدنا أحدهم مرة أخرى، فهذا الأمر يحدث بشكل متواصل. توجهت مسرعاً وطلبت المساعدة، نزلت لإنقاذه لكنني انتشلت الجثة فقط." لماذا يعملون في هذه الآبار رغم كل هذه المخاطر، سألت رابح مع أن الجواب كان واضحاً: "إن لم أخاطر وأنزل الى البئر ماذا سيأكل أبنائي؟ ليس هناك من بديل ولا أستطيع التوقف عن هذا العمل الذي يضمن لنا لقمة عيش حلال. هذه الآبار تُعيش عشرات الأشخاص بالإضافة إلى الآبار الأخرى المنتشرة في كل أرجاء الإقليم، لو عددتم العمال ستجدون المئات." أما العامل يونس الذي يبلغ 18 عاماً فيقول: "لم اتوفق في دراستي ولم أجد فرصة عمل آمنة فالفرص في المنطقة قليلة إن لم أقل منعدمة، ولم أستطع الهجرة لهذا قمت بما يقوم به أغلب أبناء المنطقة، وتوجهت نحو هذه الآبار لأشتغل بها." يونس يشير إلى أنه لا ينزل الى الآبار حالياً، لأنه لم يكتسب الخبرة اللازمة من أجل النزول بعد لكنه يساعد في تصفية الفحم من الأتربة وجمعه في الأكياس." وبخصوص كم يكسبون من وراء عملهم هذا، يقول رابح: "يمكن للفرد أن يكسب بين 150 و 300 درهم في اليوم (15 و 30 دولار) حسب الموسم وثمن بيع الكيس من الفحم الذي يباع بين 35 و 60 درهماً (3 و 6 دولار)."

يونس- تصوير: ابراهيم كريم

هذه الأسعار عادة ما يحددها ما يطلق عليهم "بارونات الفحم" وهم المقاولين الذين لديهم تراخيص التنقيب عن الفحم واستغلاله، ولكن غالبيتهم يكتفون بشراء الفحم الذي يستخرج بطريقة عشوائية بسعر زهيد من الشباب العاملين. تمنح وزارة الطاقة والمعادن المغربية تراخيصاً لمجموعة من الأشخاص من أجل استغلال آبار الفحم إلا أنهم يشغلون سكان المنطقة دون تحمل الأعباء المرتبطة بذلك مثل توفير أي تأمين صحي أو اجتماعي لهم حسب تصريحاتهم، وبعد هذا الحراك قررت الوزارة في إطار مجموعة من الإجراءات الاستعجالية سحب رخص الاستغلال والبيع من أصحابها حتى تتمكن من حل الإشكال وتخلق تعاونيات يستفيد منها بشكل أول سكان المنطقة المشتغلون داخل هذه الآبار. وحتى بعد هذه الضجة لازال يشتغل أبناء المدينة داخل الآبار، حيث يرون أن ابتعادهم عنها بشكل نهائي مرتبط بتوفير فرص شغل آنية تضمن لهم كسب لقمة عيش حلال على الرغم من الخطر والمشاكل الصحية التي يتسبب بها. فالكثير من العمال، إن نجوا من بئر الموت، فإنهم سيصابون لا محالة بمرض الانسداد الرئوي المزمن الناتج عن الاشتغال في مناجم الفحم والتعرض لغباره والذي يَتسبب بإنسداد الشعب الهوائية وقصور في وظائف الرئة.

إعلان

بعد هذه التجربة، رجعت الى المدينة وقمت بزيارة لبعض البيوت القريبة، التف حولي بعض الأطفال، براءة ظاهرة على محايهم تجعلهم يرسمون ابتسامة خفيفة على وجوههم ويتهامسون فيما بينهم حول أن غريباً حل بالمكان، يرتدون ملابس شتوية ثقيلة خوفاً من التقاط لسعة برد، اقتربت منهم ثم سألتهم عن رغبتهم في الاشتغال داخل هذه الأبار ليجيب أحدهم بعد تردد: "لا نريد ذلك، إنه خطر على حياتنا، أنا أريد أن أدرس وأشتغل في إحدى المدن الكبرى." يعي هنا الجميع أن عملهم الغير النظامي خطير، لكنهم يبحثون عن بدائل اقتصادية من أجل مغادرة المكان وتوديع الآبار، ولكن المشكلة في البديل، كما يقول رابح: "عندما يتم توفير بديل اقتصادي لي غداً، أقسم لك أنني لن أعود لهذا المكان مجدداً، نرغب في مصدر رزق آمن لا يعرض حياتنا للخطر."

رابح أثناء تواجده في قلب البئر

عامل مغربي يقوم بجمع الفحم الذي تم تنقيبه بطريقة يدوية. -تصوير: ابراهيم كريم

واحد من العمال بعد خروجه من البئر. -تصوير: ابراهيم كريم

حامد (اسم مستعار) أحد المنقبين وابنه مباشرة بعد صعوده من أحد الآبار (يعمل هو ابنه وشقيقه وابن شقيقه في آبار الموت) تصوير: ابراهيم كريم

واحد من العمال بعد يوم عمل مجهد. تصوير: ابراهيم كريم

الى داخل البئر برافعة بسيطة قديمة. تنصوير: ابراهيم كريم