رسوم مات روتا
عندما كنتُ في الرابعة أو الخامسة من العمر، اعتدت دخول غرفة نوم جدتي وأجدها تبكي دائما. تكون جالسة إلى جانب السرير، وبين يديها عُلب محارم. لا أعتقد أنها شاركت هذا الجانب من شخصيتها مع أناس آخرين؛ لربما شَعَرَت أن بيننا رابطة كونية لأني حملتُ اسم والدها كإسمي الأوسط وكنتُ أملكُ ملامحه الشقراء. كانت تبكي على ابنتها مارثا التي ماتت بسرطان الجلد في عمر الثامنة والعشرين. بعدها بعشر سنوات، توفي عمي نورمان أيضا، وهو ابنها الأصغر، في عمر الثامنة والعشرين أيضا، وكانت تنوح عليه أيضاً.
كان الناس دائماً ما يموتون حول جدّتي ( أطفالها، أزواجها، صديقها الحميم ) لذلك كانت حالة الحزن التي رافقتها طوال حياتها مفهومة نوعاً ما. أن تراها غارقة في فراشها المرتفع الناعم، تلفّها عتمة العلّيّة، محاطة برائحة الجلد والبصاق التي ترافق الشيخوخة، وأشعر أنها كأم لا تستحق ذلك. اليوم، عندما أعيد التفكير في ذلك، لا أتساءل إن كانت قد حصلت على ما تستحق كأمّ، بل أتساءل إن كانت نالت ما تستحق كقاتلة.
قبل بضعة أشهر، أخذتُ زوجتي وأولادي بالسيارة وذهبنا لزيارة الجدّة. كنت لم أرها لما يزيد على السنة ونصف، وفي ذلك الوقت كانت قد انتقلت من منزلها إلى دار مسنّين ثم إلى دار أخرى. لم يكن هناك مبرّر لغيابي – أظنّ أني لم أستطع التعامل مع الطريقة التي تركتُ فيها المنزل. كانت كارثية. كان البيت مليئاً بالأغراض. وأكد لنا المشترون بأنهم سيعتنون به، وقد فعلوا ذلك: لقد هدموا المكان، سوّوه بالأرض. كان لأخي صديق في الحيّ (في لونغ أيلاند المعروفة بلاونغ أيلوند) وقد أخبرنا أنها كانت فضيحة العام.
كان ذلك المنزل، الذي قضيت فيه الكثير من طفولتي عند زيارتي للجدّة، مقزّزاً. أذكرُ في أواخر التسعينيات، أنني خصصتُ وأخي من وقتنا ثلاثة أيام لتنظيفه. كان جـو، آخر صديق حميم لجدّتي، قد توفّي للتو وكانت أغراضه ما تزال هناك. كان واحداً من خمسة أموات بقيت أغراضهم هناك، في كل مكان. أغراض عمتي، أغراض خالي، أغراض جدّي، وملأت أغراض زوج جدّتي الثاني في تقديري حوالي نصف مساحة المنزل الكلّيّة. رخص سواقة وأوراق هامة ومشاريع غير منجزة وتذكارات، مثل براغي عمي نورمان الصدئة التي استخرجها من حطام السفن في رحلات الغوص التي خاضها طوال حياته. أثناء تواجدنا في مكتبة القبو، اكتشفنا وجود قارورة من سائل أحمر لزج. كانت القارورة مسدودة بشمع صلب أو بلاستيك، مصنوعة يدوياً وجميلة حقاً، في صندوق خشبي مصنوعٍ بإحكام. اعتقدنا أن ذلك الشيء قد يكون ثميناً. توقعنا أن تكون القارورة قديمة جداً – لم نكن متأكدين. لذلك حاولنا بيعها لمتجر أغراض غريبة في إيست فيلدج، لكنهم اقترحوا علينا أن نقوم بالتخلص منها بالاستعانة بمركز مراقبة السموم.
في ورشة الخشب بالقبو، عثرنا على ملاعق منثورة من الهيروين النصف ذائب (يبدو أن الجدة كانت تسمح لأشخاص مريبين أن يقضوا وقتاً معها)، ووجدنا في الفناء الخلفي كيس قمامة أسود كبير مليء بالحيوانات الميتة. كان سهلاً علينا أن نلاحظ أن الكيس مليء بالحيوانات، كان يمكن رؤية أشكال الجثث من الخارج. استرقنا النظر وكان الأمر خاطفاً لدرجة أننا استطعنا تأكيد وجود جثث، لكن لم نحدد نوعها. يقول أخي أنه رأى سلاحفاً، ويبدو ذلك منطقياً إذ امتلكت والدتي نصف دزينة من السلاحف التي هلكت في حادث مفاجئ لم نجد تفسير له وقتها. رأيتُ بوماً، وهو أمر مستبعد لكنه ممكن لوجود طيور البوم في لاونغ أيلوند. استنتجنا أن الكيس في الأغلب مليء بالقطط وحيوانات الراكون التي اعتادت نبش قمامة الجدّة. كانت تصرخ عليها من الشرفة الخلفية. آخر مرة رأيت فيها الكيس هي عندما كان موضوعاً على المرج بانتظار سيارة جمع القمامة. كان لا يزال بإمكانك رؤية الأشكال المستديرة لأفخاذ الحيوانات من خلال البلاستيك الأسود اللامع.
في ذلك المنزل، حتى الأغراض التي تستحق أن نحتفظ بها تبعث على الكآبة. الكراسي الهزازة من خشب البلوط والمكاتب المصنوعة من خشب الكرز والتي كانت يوماً ما جميلة، مُغطاة الآن بدهان الشرفة الأبيض. مخلّفات المكاتب التي أكلتها الجرذان تصطف على رفوف الكتب. كان السجاد مغمّساً بالعفن. كانت الأطباق ملطّخة أو مرقّطة بطعام جاف. كانت المراحيض طافحة، غير ممسوحة، ومغبرّة ببودرة الأطفال. كانت الجدّة تقول أن عدم استخدام الماء يوفّر النقود، لكن كل ما أرادته حقيقة هو تذكيرك أن كل شيء كان يتمحور حول توفير النقود.
دفاعاً عن الجدّة، لقد تكوّنَ وعيها خلال فترة الكساد الكبير ولم يغادر تفكيرها تلك الحقبة. عندما أصبح الاقتصاد رديئاً في التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، كانت تشير لأوجه الشبه عارضة إياها جميعاً: خلال أوقات القلّة تجد توجهاً نحو التفكير الروحاني، مساعدة-الذات، وأمور ما وراء الطبيعة، هذا ما أخبرتنا به. لا شك لدي أنها كانت محقة. لقد كانت مٍطلعة وذات بصيرة حتى في سنوات شيخوختها. كانت تثرثر في أرجاء منزلها المقرف فيما يصدح الراديو العام في كل غرفة. كانت تعرفُ كلَّ شيء، على سبيل المثال أن عصير البرقوق يمكن استخدامه كصبغة للشعر (إلى يومنا هذا، لون شعرها بني بلون كالبرقوق). كانت قد سمعت نصيحة طبيب أسنان على إذاعة NPR، أن مضمضة الفم بالماء واستخدام الخيط هو حاجة غاية في الأهمية، حتى إن لم تتح لك الفرصة لتنظيف أسنانك بالفرشاة، وها هي في العام 94 وقت كتابة هذا النص، ما زالت تحتفظ بجميع أسنانها. لكنها جميعاً تتخلخل. يبدو كامل فكّها متخلخلاً في فمها.
عندما ذهبنا لزيارتها في دار المسنين، قمتُ بإصلاح جهاز الصوت المساعد في أذنها، وذهبت زوجتي لشراء بعض حفاضات الكبار. بالكاد تعرف الجدّة من أكون، وعندما سألتها عن أولادها لم تستطع تذكر مارثا بتاتاً. في الحقيقة، أنا لم أفتقدها في الأشهر التي لم أزرها فيها، لذلك لم أتوقع أن تضايقني الزيارة. لكن عدم تعرّف الجدّة على اسم مارثا، واستلقاءها في الفراش وهي تمصّ فكها ذو الأسنان المتخلخلة، كل الأسنان التي على وشك السقوط، قاربتُ أن أفقد صوابي. جلس الأطفال هناك، مبحلقين وأفواههم مشدوهة برعب مُخدِّر. بالنسبة لهم، كانت السنة المنقضية عبارة عن جولة على أسرّة الموت: جيجي بوب، الجدّ، أبوليتا، صديق الجدّة. والآن الجدة. لقد كان متوقعاً، هي التالية.
تمكنوا من تمالك أنفسهم عندما طلبت منهم الجدّة أن يغنوا. كانوا يعرفون بعض الأغاني الألمانية من المدرسة وانضمت للغناء معهم. قالت إن الغناء يعيدها إلى طفولتها. قالت إنها تعيشها كما لو كانت في الوقت الحاضر. وربما في عقلها، عندما تغني فإن طفولتها تحضر - لكني لا أعتقد أنه يوجد الكثير هناك. أحياناً تشير إلى رأسها وتلقي نكاتاً عن "خرفها".
من الغريب رؤية شخصية قديرة تتحول إلى ما هي عليه. عندما كنتُ طفلًا، كنت أمكث في بيت جدّتي ليحصل والديّ اليانعين على استراحة، لعدة أسابيع في أغلب المرات. كانت تخبرني أن اليهود يخترعون الأشياء، أنهم لا يحتسون الخمر، أنهم أذكياء لأن فلسفتهم تقدّر التفكير وأنه يفترض بي ألا أناديهم بلفظة يهود. كانت تقول: "حتى عندما نتجادل، إنك تمتلك عقلاَ جيّداَ." عندما أعلنتُ خطبتي على مسيحيّة، نزلت الجدة على ركبتيها وتوسلتني ألا أتزوج في كنيسة. فأقمنا الزفاف على أرضية ملعب تنس، وكانت الجدّة حسناء الحفل وكانت أيضا تتغزل في أعمام زوجتي الذين كانوا يصغرونها بعشرين عاماً. دائماً ما استمتعت الجدّة بوقتها، لكن فقط عندما لا تكون المضيفة وليست مسؤولة عن الطعام، كانت تشعر بأنّ ثقلاً وقد رُفع عن كاهلها، ويغمرها شعور بالحرية.
رسوم مات روتا
تعود خبرة الجدة في أمور التغذية إلى الستينيات. بحلول منتصف السبعينيات كانت قد ألفت ونشرت بنفسها عدة كتب قصيرة عن المحتوى الغذائي والفيتامينات. أظن أنها في ذلك الوقت أو ربما قبلها، بدأت بتسميم الناس. لا أستطيعُ أن أجزم بدقة ماذا فعلت وما هي المركبات التي استعملتها. لا أستطيع التأكد من أنها قامت فعلاً بما أعتقد أنها ارتكبته. كل ما لديّ حقيقةً هو أجزاء من أدلةّ ظرفية وحدساً على مدى السنين. في وصفي لشكوكي، فضّلت جدتي في البداية استخدام فيتامين أ (الذي بإمكانه أن يسبب النعاس، ضبابية الرؤية، والغثيان، وأعراض كثيرة أخرى)، ثم قامت باستخدام مليّنات الأمعاء، ثم مع تكاسلها وتقدمها في العمر، انتقلت لاستخدام الأدوية الموصوفة طبياً.
كانت الجدّة لا تكرر ما تطبخ، وغالباً ما كانت اختراعاتها حقاً غريبة ومليئة بالدهون فوق التصور. على سبيل المثال: دجاج مشوي مع المشمش والطماطم المعلبة، أو خليط من اللحمة المفرومة مع البرقوق، أو مخللات غريبة. كانت ذائعة الصيت لدى متجر البقالة المحلي. كانوا يحتفظون بـكبد سمك القرش من أجلها. في السنوات اللاحقة، بدأت وجباتها تتكون من أطعمة جاهزة أو شبة جاهزة، وفي نهاية المطاف أصبح ذلك منهجها المفضل للأكل. كانت لها استراتيجة فعّالة في إيجاد طعامك الأكثر تفضيلاً، ابتياعه بكميات خرافية، وإطعامك إياها بلا كلل. كان عليك أن تتناوله، المستورد منه والمثلج. وكان ليغمى عليك على الأريكة، أو على متن القطار في طريق عودتك للمدينة. بالطبع، كلما مكثت فترة أطول مع الجدّة، كلما كانت احتمالية حدوث أمر سيء لك أكبر. إن قمت بزيارتها لمدة أسبوع، ستعاني الويل، وستكون مرهقا،ً وستبدأ رؤيتك بالتشوش.
في باديء الأمر، كانت أمي هي الوحيدة التي ترفض تناول الطعام الذي تحضره الجدّة، وكنتُ أعتقد أنها كانت تشعر بالارتياب. ثم بدأتُ ألاحظ كيف كنت في كل مرة أزور فيها الجدة أفقد الوعي على الأريكة أو على متن القطار في طريق العودة للمدينة. عندما توقفت عن تناول طعام الجدّة، اعتقد أخي أنني مرتاب أيضا. لكن ما حصل أني لم أعد أفقد الوعي، وبعدها توقف هو الآخر عن تناول طعام الجدّة.
لكن إليكَ ماهية الأمر: أنتَ لا تريد التصديق بأن جدّتك ممكن أن تقوم بتسميمك. أنت تعلم بحبها لك - لا شك في ذلك - وهي تقوم بدورها كجدة حنونة بشكل عجيب. كما وتعلم أنها قطعاً لا تريد أن تسمّمك. لذلك رغم تقديرك الأفضل للأمور، فإنك تذهب باتجاه تناول الطعام حتى تفقد الوعي في الكثير من المرات ولا يعود بوسعك أن تشكك نفسك. كنا نذهب لزيارة الجدّة وقت الأعياد محمّلين بالبقالة والطلبات الجاهزة، وكانت تبدو مرتاحة لكوننا لم نكن ندعها تلمس أطباقنا. في ذلك الوقت كانت قد بدأت تفقد بصرها، لذلك لم تكن تلاحظ طبقة البودرة البلورية على سطح السمك المدخن الفاخر الذي كانت تقدمه لك.
لذلك أصبحَ السؤال: كيف نشرح للضيوف، الأغراب، أنه ينبغي ألا يتناولوا طعام الجدّة؟ في مرة، ربما في عيد الفصح، جلب أخي حبيبته الجديدة، كانت ممثلة. وعدتنا الجدّة ألا تقوم بتحضير أي طعام وبدا لنا أنها التزمت بكلمتها، لذلك لم نذكر أمر التسمم للفتاة، لكن بعد تناولنا للغذاء، خرجت الجدّة من المطبخ مع بسكويت الشوفان والزبيب الذي بدا مريعاً. كان مليئاً بالفقاقيع، كما لو كانت الخميرة قد جنّت بداخله. أكلت الفتاة قطعتين من البسكويت، من باب التهذيب. راقبناها مذعورين. كان لديها تجربة أداء في المدينة، لكن أغمي عليها على الأريكة وفوّتتها.
إذاً، لماذا تقدم الجدّة على تسميمنا؟ حسناً، افتـرَضَت والدتي لبعض الوقت أن الجدّة مصابة بمتلازمة مونخهاوزن بالوكالة، وهي حالة يقوم فيها الكبار بتسميم أو إيذاء من في كنفهم. بالنسبة لي، أنا متأكد أن الجدّة لم تكن تحاول إيذاء أي أحد. إن كان أسلوبها حاداً معك فذلك لأنها تريدك أن تغادر - وأحيانا أحبّت أن تجعل الناس يتأخرون على قطارتهم. كانت تكرّر: ابق لليلة، فقط الليلة".
في أحيان أخرى، كانت أسباب قلق الجدّة تبدو أكثر عمليّة. عندما انتقلت والدتي للعيش في منزل الجدة لفترة قصيرة، كان لدى الجدة الكثير من الحيوانات الأليفة -سلاحف، كلاب، هامستر، قطط -وكانت تمرض وتموت على التوالي. وكان هناك جو أيضاً، الجندي السابق الذي كان آخر صديق حميم للجدّة. اعتاد جو على صرف راتب تقاعده في أتلانتيك سيتي ثم التسكّع عند الجدّة لحين وصول الراتب التالي. بعد فترة من الزمن، كسرت ساقه، ثم بدأنا نتلقى الكثير من المكالمات الهستيرية من قبل الجدّة تقول فيها أنها مجبرة على رعايته طوال الوقت، وفي النهاية سمعنا أنه قد توفي.
وماذا كانت الجدة تقول؟ حسناً، لا أعتقد أنها كانت قادرة على أن تبوح بما حصل حتى لو كانت تميل لذلك، أو في وضع يسمح لها أن تخبرني عن السبب وراء ما فعلت. لطالما كانت الجدةُ لغزاً، حتى على نفسها. كانت تخبرنا بهذه القصة: عندما كانت طفلة صغيرة جداً، حاول ولد أن يقبّلها في خزانة، فدفعته بعيداً وركضت نحو البيت وأجهشت بالبكاء. كنا نتساءل: لماذا يا جدّة؟ وكانت ترد: لأني كنت واقعة في حبّه".
رسوم مات روتا
كان والد الجدّة رجلاُ متقدّماً في السن، طويلاً ووسيماً، أرملاً وكان فارسا ً أيضا، عندما كان في روسيا. كانت والدتها في عمر السابعة عشر عندما تزوجته. أنجب الثنائي أربع بنات وولد، أحدهم توفّي في عمر صغير جداً. عندما حلّ الكساد العظيم، تم استدعاء الوالد إلى مكتب مصنع بروكلين حيث كان يعمل كرئيس للعمال: لم يكن لديهم خيارات، كانوا مجبرين على تسريحه. توسّل للحفاظ على عمل، أي عمل كان، ليعيل عائلته، وهكذا أصبح وقّادا يرفش الفحم في أتون الفرن. وبعد ذلك حصل انفجار، اشتعال كبير، على ما أعتقد، أصابه بشكل بليغ، ولم يعد للمنزل بعدها. لقد اختفى. بعد الحادث بثلاثة أسابيع، خرجت جدتي للحديث مع رجل كان يجلس على عتبة المنزل المقابلة لمنزلهم. كان وجهه مغطى بالضمادات. سألته لماذا لم يعد للبيت وقال: "كنت أخشى أن تتوقفي عن حبي". لقد كانت ندوبه أبدية. لم ألتق يوماً بجدّي الأكبر بينجامين، الذي أحمل اسمه.
كان زوج جدتي الأول إرفينغ -الذي تزوجته في فترة الخمسينيات والستينيات -محبوبا ً لدى الجميع، تماماً مثل والدها. كان لديه عمل مع بعض الإيطاليين. بعد 20 عاماً من الزواج، قامت بتطليقه، ولم يمض الكثير من الوقت قبل أن أستنبط بأن الطلاق كان بسبب وجود جانب مرعب لدى إيرفنغ.
في عام 1982، كان في السبعين من عمره وتعرض لحادث سيارة. حيث اندفع بسيارته الكاديلاك خارجاً عن الخط السريع. لربما استسلم للنعاس، أو لعلها كانت غلطة مفك البراغي الذي تم اكتشافه في عمود المقود. تهشّم رأسه في الحطام، لكنه كان عجوزا يهوديا صلباً، بعد 4 سنوات استيقظ من غيبوبته، وأمضى 10 سنوات في مجابهة الشلل الذي حلّ به قبل أن يتوفى في أواخر الثمانينيات. في هذا الحين، أضحت أمواله محطّ دعوى قضائية معقدة كانت نتيجتها أن استحوذ شركاء إيرفنغ في التجارة وزوجته الثانية (التي تولت العناية به) على أغلب ثروته. وخلال ذلك، كانت الجدّة تتحسر على تركها له. كانت تقول: "مع كل الأشياء التي كان يقوم بها خلال النهار، لا يمكن لشخص مثله العودة للمنزل ليلعب دور السيد اللطيف. لا يمكن".
أصيبت مارثا، خالتي وأكبر أبناء الجدّة، بالسرطان في العشرينات من عمرها. وكانت الجدة تعتني بها. لربما كان مرض مارثا قد قتلها، لكن… لا أعلم. زوج الجدّة الثاني، أرون، مات هو الآخر بسبب السرطان في السبعينات من عمره. كان أصماً، ويكره التلفاز، وكان يصرخ على الأطفال – قالت الجدّة انها تزوجته لأنه" كان الوحيد الذي قبل بي". كان يدخن الغليون. لعب معي تنس الطاولة بعد أن أجرى أول عملية جراحية لاستئصال سرطان الحلق، بدا سعيداً ولم يبد لي بتلك الوحشية. كان يتولى أمور البستنة. لكن بالرغم من إكثاره في الأكل، واصل فقدان المزيد من الوزن حتى تلاشى. أو… مجدداً، يمكن أن السرطان كان السبب.
الشخص التالي في سلسلة الجنائز هو نورمان، أصغر أبناء الجدّة والذكر الوحيد. فلنتحدث عنه: لقد كان نورمان حثالة. كان يكبرني بثماني سنوات فقط، وكان يعذبني عندما كنت طفلاً. كان يمتلك الضحكة الأبشع: مثل صرير الخنزير. ليس صوت خنزير ضاحك، بل خنزير يتألم. كان يهددني بالسكاكين وكان يسرق ويكسر أغراضي. كان يحاول إقناعي أنه سيقوم باختطافي في منتصف الليل ليقوم ببيعي لأناس آخرين. ربما كان يغار مني، كان مكتنزاً ويهوديَّ المظهر، لذا فإن الجدّة، ذات العينين الزرقاوتين والشعر الأشقر، كانت تجده منفّراً. وعلى النقيض تماماً من نورمان الفاشل البدين، كنتُ رياضيّ البنية وكانت ملامحي غير يهودية، لذا كنتُ المفضلَ لديها. ذات مرة رأيتُ الجدة تعاقب نورمان بجعله يقف أمام الموقد المفتوح مشعلةً النيران الملتهبة وكانت تهدده بحرق قضيبه. كان تقريباً في الثانية عشرة من عمره وقتها. كما كانت تطبخ له كميات هائلة من الطعام وتعرضها عليه. كان يرفض لأنه لم يرد أن يصبح أكثر بدانة، لكنها كانت تواصل دفع الطعام في وجهه حتى يأكله، ثم كانت توبخه لكونه بتلك البدانة.
كان نورمان يحب الأسلحة. كان يجمع أشياءً يمكن أن تستعمل للقتل، مثل الأسهم والفؤوس، وكان الجميع مرعوباً منه. كان في بعض الأحيان يتجول في المنزل حاملاً سكيناً أو ساطوراً فيما يلجأ بقيتنا إلى غرفهم. عندما كنتُ في السابعة من عمري تقريباً، قام بتغطية ذراعي بالميثان وأضرم فيها النار فقط ليريني مدى قوة الميثان وكيف أن إنارته لن تؤذيني. صراحة ًلم أشعر بالألم، رغم أنه أحرق كل الشعر على ذراعي. في مرة أخرى عندما كنت مراهقاً في زيارة للاونغ أيلوند، أعاقني حفنة من الأولاد وقاموا بركلي مراراً وتكراراً. وقتها اعتقدت والدتي أن نورمان هو الذي أرسلهم لفعل ذلك.
هل عليّ أن أذكر بأنه كان عبقرياً؟ حسنا … لقد كان عبقرياً بالفعل، كان بإمكانه عمل أي شيء. عندما كنت في الثامنة، رافقني مشياً إلى شارع كانال، على بعد بضعة أحياء من حيث أسكن في ترابيكا، ليريني كيف كان باستطاعته شراء قطع الحاسوب وتجميع آلة عاملة منها في وقت قصير، وقد نجح.
في أواخر الثمانينيات، عندما كان نورمان في الثامنة والعشرين من عمره، وكان لا يزال يقطن مع الجدّة، لكنه كان قد بدأ بتغيير حياته: كان قد فقد الوزن الزائد، وكانت لديه صديقة حميمة، وكان يفكر في مهنة لها علاقة بالحواسيب "شبكات الحواسيب" كما كانوا يسمّونها آنذاك قبل أن تصبح شبكة الإنترنت. كان مهتماً بالغوص. كان ينام في الحوض تحت الماء مرتدياً عدّة الغوص وكان أحياناً يستأجر مركباً ويغوص ليصل إلى ركام السفن ويلتقط الصور.
رسوم مات روتا
في يوم الحادث كانت خطته أن يخرج على متن مركب مستأجر، لكن الجدّة لم ترد له أن يذهب – لطالما اشتكت من غلاء التكلفة – لذلك وضعت له شيئاً خلسة، أعتقد. كان يشعر أنه غير مرتاح ذلك الصباح، وظنّ أنه كان مريضاً. أقنعه شريكه بالخروج على أي حال، ثم حصلت مشكلة في إعدادات أدوات الغطس الخاصة بنورمان عندما كان تحت الماء. ربما كان عطلاً ما، أو أنه ارتكب خطأً، كان قد أجرى تعديلات على عدّته (لأنه كان عبقرياً). سبح شريكه في الغوص نحو السطح وحيداً عوضاً عن مشاركة خزان الأكسجين خاصته مع نورمان في "نظام صعود الطوارئ". لا نعلم حقاً السبب وراء بقاء نورمان في القاع. من الممكن أنه اعتقد أنه لا يملك ما يكفي من الأكسجين ليجرب نظام صعود الطوارئ الذي يقضي بأن تعتمد الزفير طول مسافة الصعود. ومن الممكن أنه علق في حطام القارب الذي كان يقوم باستكشافه برفقة شريكه. ومن الجائز أيضا أنه كان غائباً عن الوعي وغير قادر تماماً على محاولة إنقاذ نفسه. بالإضافة لذلك، لم يستخدم نورمان الإشارات التي يستطيع الغواصون إطلاقها نحو السطح لتنبيه غواص الإنقاذ، الذي يفترض أن يكون على أهبة الاستعداد على ظهر القارب. لكن هذه لاونغ ايلوند حيث لا تُـأخذ القوانين المتعلقة بتواجد غواصي الإنقاذ على ظهر القارب جدياً، ومات نورمان هناك في القاع ناظراً لذلك العلم اللعين وهو يرفرف.
ثم جاء إجهاض زوجتي. هناك أمر مضحك بخصوصه. أو لم يكن "مضحكاً" باعتقادي، لكني كنت نسيت بشأنه إلى أن قررت أن أكتب هذه القصة ومررت ببعض الملحوظات القديمة. عندما أعلنّا حمل زوجتي، فزعت الجدّة بأنه سيكون هناك فم آخر يجب إطعامه، ولم تكن لدينا القدرة لتحمل ذلك. قمنا بزيارتها قبل وقوع الإجهاض بالضبط، ورغم معرفة زوجتي الجيدة أن عليها الابتعاد عن طعام الجدة، إلا أن الجميع يُخفق من وقت لآخر. وحسناً… لقد كانت في آخر حملها والإجهاض أمر مستبعد. كانت التواريخ متوافقة. لكن يمكن أنها كانت مصادفة.
لاحقاً، عندما نجحنا في إنجاب طفل، جاءت الجدة للمباركة حاملة معها هدية للمولود: زوج من المقصات الطبية – حادة، مدببة، مقصات طبية كبيرة. في زيارة أخرى، جلبت لنا علب من الشمندر كانت قد ابتاعته. كانت ردة فعلي: "جدّتي، لماذا تعطينني 15 علبة من الشمندر؟" كان لديها العديد من وصفات الشمندر، والكثير الكثير منها كان باستخدام بذور عباد الشمس أيضاً. كانت فخورة جداً بأحد اختراعاتها: مثلجات الشمندر وعباد الشمس. كانت تقول: لا يمكن أن تجد ما هو أفضل، من ناحية القيمة الغذائية. ابحث عنها. وقد فعلتُ وكتبتُ على جهازي: "بذور عباد الشمس والشمندر المعلب" . وقالها جوجل في وجهي "استعادة طارئة للمنتج". كل ما أعطتنا إياه كان قد تم سحبه من الأسواق.
أحياناً عندما أحكي هذه القصص، يراودني شعور بأن الناس يعتقدون أنه كان علي فعل شيء بهذا الخصوص. حسناً، لقد كان من الصعب نفسياً أن أقوم بالتفكير بهذا كله في وقت واحد، خصوصا عندما كنت طفلاً، لم أكن مدركاً لما كان يحدث. كانت الجدّة تضعني في الفراش أحياناً وتقدم لي كوباً من الشوكولاتة الساخنة الغنية التي بدت خفيفة ودهنية. كنت أستيقظ بعدها بنحو 24 أو حتى 72 ساعة. في ثلاث أو أربع مرّات، أخذوني بسرعة للمشفى في وسط الليل لأني كنت أعاني من صعوبة في التنفس. لم أستطع ربط كل هذا حتى بلغت الثلاثينيات وبدأ يخطر لي أن النوم لثلاثة أيام ليس طبيعياً ولا عادياً، وأن المرّات التي كنت أصحو فيها بمنتصف الليل غير قادراً على التنفس، كانت جميعها في منزل الجدّة.
وحتى عندما أدركت الأمر، ماذا أفعل حينها؟ بعد أن مات جوي، آخر صديق حميم للجدّة، قصدتُ الشرطة وأخبرتهم بما اعتقدت من تورط الجدة في الأمر. قالوا: "وماذا تريدينا أن نفعل بشأن ذلك؟".
والآن، ومجدداً، أشعر أنه يفترض بي أن أضع خاتمة للموضوع. إما أن أطهّر ماضيّ، أسامحها، وأصِل بنفسي إلى مرحلة أعلى من التذبذب، أو أن أجد إثباتاً لما فعلت الجدة على مدى السنين وأن أفضحها للأبد. لطالما كانت لدي فكرة أو خطة بأن أقوم بتفتيش منزلها لمرة أخيرة، لكن المنزل لم يعد موجوداً. ولا أحد سيقوم بنبش الجثث، والجدّة نفسها لا تعلم حتى ما قامت بفعله. ولن تكون ثمة أي نهاية عظمى. وهكذا بينما جلستُ هناك مستمعا للجدة تغني مع أطفالي – لم أكن أبكي، ليس تماماً – أدركتُ أني لا أهتم بما حدث، لا أحد يهتم بما حدث، لأن من عليهم الاهتمام هم الشرطة ومكتب التحقيقات الجنائية والأطباء في مسلسل "إي أر"، وجنود المارين في الأفلام.
منذ وقت ليس ببعيد، كنت أتحدث لصديق سبق وأخبرته عن الجدّة. بكل عفوية ذكر صديقي أن الجدّة كان من الممكن أن تقتلني بالخطأ، مما فاجأني. أجبته أن ذلك غير دقيق. "لكن ألم تعاني من صعوبة في التنفس؟ ألم يسرعوا بك إلى المشفى في منتصف الليل؟ لم تكن تحاول إيذاءك، كانت تحاول الاهتمام بك، لكن كان من الممكن أن تؤذيك". أجبت: "أفترض أن ذلك يمكن أن يكون صحيحاً" وكنت أهزّ رأسي ببطء ووأحاول أن لا أصدق الفكرة، لأن الجدة لم تكن لتؤذيني أبداً، لقد كان بيننا رابطٌ كوني".