جرافيتي الغضب والمقاومة: شباب تونس يرسمون أحلامهم المُجهضة على الجدران

شاب تونسي خلال رسم جرافيتي على أحد الجدران - جميع الصور من حنان جابلي

FYI.

This story is over 5 years old.

مجتمع

جرافيتي الغضب والمقاومة: شباب تونس يرسمون أحلامهم المُجهضة على الجدران

"لو وجدنا من يسمعنا لتركنا جدرانكم بيضاء"

"الحلمة ما تموتش يا ردادية" وتعني "الحلم لن يموت يا ردادية - أهل المنطقة". عبارة مرتجلة بالتونسية العامية، نطقت بما يجول في صدر أيوب عمامي، 24 سنة، حاصل على شهادة تقني فلاحي وعاطل عن العمل، على سور الوحدة المحلية للشؤون الاجتماعية (مؤسسة تُعنى بمساعدة العائلات الفقيرة) في قلب المدينة، حيث يمر كل المشاة وتعبر كل العربات.

اعتاد أيوب الهروب إلى الجدران كلما ضاق به الواقع، ليكتب ما تجود به قريحته، حتى يقرأه رفاقه أو أبناء بلدته - مدينة منزل بوزيان الفقيرة التابعة لمحافظة سيدي، بوزيد جنوبي تونس، ليشاركونه إحباطاته بدلًا من أن تبقى حبيسة صدره. يقول أيول إنه كلما عجز عن التعبير عن شئ ما لجأ ليلاً إلى جدران مدينته ليطبعه عليها، ويضيف أنه دائمًا ما يجد من يساعده في مهمته السرية التي يغطيها سواد الليل، من أصدقائه أو أبناء عمومته.

إعلان

وقال أيوب إنه تعرض للتوقيف مرة على الأقل بسبب رسومات طبعها على جدران محافظة صفاقس، أين أفقدته حماسة الشباب هناك، حرصه المعهود على حماية نفسه من عيون الشارع، و من الأمن، لكن مدة الإيقاف لم تتجاوز الساعات، ثم تم الإفراج عنه، بعد توبيخه وتعهده الالتزام بعدم تكرار ما يفعله. وقع لكنه لم يتوقف بالطبع.

وفسر أيوب معنى عبارته التي خطها أكثر من مرة بالقول إن مدينته التي شاركت بشجاعة أبنائها في الثورة التونسية والتي قدمت الشهداء في سبيل تغيير الأوضاع في حراك 17 ديسمبر 2010، بقيت فقيرة، محرومة من كل حقوقها، وأن حلم مدينته أن يُعترف بجميلها وأن تتغير أوضاعها نحو الأفضل.

وبما أن مرور أيوب لم يكن يومًا عاديًا، فإنه ترك وراءه، على جدران مدينته الجريحة التي لم تشفى بعد من حب تونس، والتوق إلى الحرية الكثير من المخطوطات بعضها تعلق بالقضية الفلسطينية التي حضرت في أغلب الجداريات، وبعضها الآخر تعلق بتاريخ تونس، وعادات البلد، فيما ركز في باقي كتاباته، التي أكد أن وجودها لا يستمر أكثر من شهر قبل أن تتم إزالتها، على مبادئ الحرية والدفاع عن المعطلين عن العمل.

هذا ليس جديداً على شباب تونس الجديدة، فبعد أن خفت صوت الثورة مع مرور أكثر من سبع سنوات، على أحداثها، لم يستسلم شبابها بعد، ولأن الصورة أبلغ من الكلام، فإن الشباب التونسي الثائر واصل المشوار بأكثر بلاغة، فمر من الشوارع والمظاهرات والمسيرات، ومن المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، الى الرسم على الجدران الذي يُعرف بـ"الجرافيتي".

ليس من المستغرب أن تجد في كل الشوارع وأغلب محطات النقل، في العاصمة أو حتى في المدن الداخلية، جدرانًا تملؤها العبارات والرسوم المنقوشة، تروي كل واحدة قصة خاصة أو قضية ما تسعى لمعالجتها، أو مجرد طرحها ورغم فوضويتها، إلا أن الشارع قد تقبلها حتى باتت وكأنها جزء لا يتجزأ منه.

إعلان

ما هو الجرافيتي
الجرافيتي فن يتلخص في الرسم والكتابة على الأسطح والجدران، العامة أو الخاصة دون حصول على إذن، يعتبره البعض نوعًا من التخريب، فيما يراه آخرون أحد أشكال الإبداع الفني ووسيلة تعبير. وغالبًا ما تتضمن الرسوم كلمات مقصودة أو مسميات أو عبارات مستهدفة وبتعبير حر يحمل رسائلًا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، وغالبًا تكون من أشخاص مجهولين لأنها تُعتبر بدرجة ما أفعال مخالفة للقوانين، واعتداء على ممتلكات الآخرين، كما يعتبرها البعض عمل تخريبي يهدف إلى تشويه الشكل العام.

وكلمة جرافيتي هي صيغة الجمع من لفظ "جرافيتو" الإيطالي، وتعني "خربشات". وارتبط الفن بالطبقات الفقيرة والمحرُومة، وغرضه للتعبير عن الرأي وتحدي الحكومات بطريقة غير مؤذية.

وفي أوائل عهد هذا الفن كان الجرافيتي مرتبطاً بموسيقى الهيب هوب في نيويورك، وانتشر الجرافيتي منذ 1979 عندما افتتح الفنانان لي كوينس وفريدي أول معرض للجرافيتي في روما ومن حينها تعرف العالم على فن الجرافيتي وانتشر استخدامه في العديد من المجالات كالدعاية والإعلان والتعبير عن الرأي، لينتشر في شوارع البلدان العربية بعد الثورات التي عاشها بعضها أو ما اُتفق على تسميته "الربيع العربي".

فن غربي وهوية عربية
وبعيدًا عن قضايا البطالة والتمرد على السلطة يدافع محمد الرحموني، 24 سنة، أحد فناني محافظة القصرين المتخصص في النحت على الحديد، عن هويته العربية عبر الرسومات باعتماد الخط العربي على الجدران والتي لا تخلو هي الأخرى من رسائل مضمونة الوصول الى أكبر عدد ممكن من أهالي المحافظة.

يقول محمد إنه يحاول تغيير الواقع في محافظته عبر توجيه رسائل الى القائمين على الشأن الثقافي فيها، متأسفًا على عدم وجود فضاءات ثقافية تهتم بالشباب الموهوب، وتساعده في صقل موهبته وتنميتها. ويؤكد أن بيته محاط بالرسومات التي خطها، وأن من بين ما كتب في منزله "حلمك ما تسلمش فيه" (لا تترك حلمك). يحلم محمد بأن ينظم أحداث عالمية حول فنون الرسم في مدينته ويستدعي إليها شخصيات معروفة للتعريف بها.

إعلان

محمد لم يسلم هو الآخر من المضايقات الأمنية، رغم أنه لا يكتب عبارات ضد السلطة، ولا يوجه رسائل واضحة، بل يعبر عنها عن طريق الرسم، ويؤكد أن الأمن أوقفه 4 مرات متتالية بسبب رسوماته.

كوّن محمد مجموعة Brotherhood أو "الأخوية"، والمتخصصة في رسم الجرافيتي، فيما أسس آخرون مجموعة باسم "زواولة" وتعني في اللهجة التونسية "فقراء"، وعلى عكس اعتاد هؤلاء كتابة ورسم أفكارهم على الجدران ليلاً، لما تحمله من رسائل سياسية.

لو وجدنا من يسمعنا لتركنا جدرانكم بيضاء
خُطت هذه العبارة على أحد جدران مدينة سيدي بوزيد، ربما تعود إلى مجموعة من الشبان العاطلين عن العمل والذين ملوا الاحتجاجات والهتاف لمطالبة السلطات بحقوقهم التي يُفترض أنها وُلدت معهم، أو ربما تعود لهواة الشغب الذين اتخذوا من الليل ستاراً ليمارسوا صرخاتهم على جدران الأنفاق وجسور المشاة. في جميع الأحوال تقبلت الجدار رسائلهم الجدارية، وتعاطف الشارع معها؛ خاصة إذا ما اعتبرنا أن هذه الخطوط نوعا من التمرد على القوانين والمؤسسات الثقافية ومعارض النخبة.

كان الجرافيتي في السابق محصورًا على شباب الطبقات الفقيرة في تونس، اتخذوا منه وسيلة للتعبير عن أحلامهم وإعلان رفضهم لبعض القوانين والسياسات، لكنه أصبح اليوم وسيلة الشباب في التعبير عن الغضب من بعض السياسات، وناطقا بمطالبهم، التي يدعمهم فيها الشارع التونسي بمعظم أطيافه.

فن المتمردين
معاذ الحرباوي، 31 سنة، حاصل على الماجيستير في المالتيميديا، اعتاد على الاستيقاظ على الساعة الثالثة فجرًا ليتوجه إلى قلب مدينة الكاف حيث يعيش، ويبدأ في تسجيل الرسائل التي يريد توجيهها الى المسؤولين بمساعدة رفاقه، على جدران المؤسسات الحكومية. يقول الحرباوي: "لأن تونس عادت مؤخرًا إلى سياسة التضييق على الحريات، لجأت ورفاقي إلى الكتابة على الجدران وتبليغ رسائلنا عبر أسوار المؤسسات العمومية، خاصة أن السلطات لم تعد تعبأ بما نطالب به خلال المسيرات والمظاهرات الشعبية.

إعلان

ويضيف أن الهدف من ذلك أن يستمر المسؤولون في قراءة ما كُتب على جدران مؤسساتهم يوميًا حتى يستوعبوا ما نريده منهم، وأن تستمر هذه الجدران في مخاطبتهم أن يعوا ما نريد أن نقوله لهم. وأوضح معاذ أن ظاهرة "الجرافيتي"، والكتابة على الجدران هي تصرفات شخص متمرد، مل الأوضاع التي يعيشها، مشيرا إلى أنهم لم يسعوا يومًا إلى تشويه جمال الشوارع، وأنهم لو مُنحوا الوقت الكافي لزينوا كافة المدن. وأوضح أنه تعرض للتوقيف مرتين بسبب كتابته على الجدران بعد أن عثروا لديه على معدات الكتابة والرسم على الحائط، لكن تم الإفراج عنه لاحقًا.

جرافيتي 24
حمزة رانجامو، 23 سنة، أصيل محافظة تونس، متحصل على الإجازة التطبيقية في الهندسة الميكانيكية، اعتاد رسم الحياة بالألوان على جدران تجسدها وجوه نساء جميلات، وعلى كتابة اسمه "Every Where"، على حد قوله، و يكتب أحيانًا بعض الرسائل حول العدالة الاجتماعية والعنف والعنصرية.

وعلى عكس بقية من تحدثنا معهم، يقول حمزة أنه وجد الحرية الكافية لدى ممارسة فنه ويؤكد أن لديه مشروعا أسماه "جرافيتي 24" ويقصد به الرسم على جدران الأربع وعشرين محافظة في تونس. وأوضح أنه تقدم فيه كثيرًا، وتمكن من ترك توقيعه في 16 محافظة حتى اليوم. وقال حمزة أنه يعشق الحياة الى الدرجة التي يريد فيها أن يزرع هذا الإحساس لدى كافة التونسيين، نافيًا وجود فئة من الشعب التونسي ترفض هذا الفن، وهو الذي زار 16 محافظة ورسم على جدران جميعهًا مختلف معاني الحياة.

وأوضح حمزة أن الشارع التونسي يتقبل "فن الجرافيتي، لأن التونسيين يحبون الجمال، وأنه لم يواجه مشاكل مع الأمن، وأن أقصى ما تعرض له، أنْ طُلب منه أن يمكن الأمن من مضمون رسومه. وحسب حمزة فإن تونس قد شهدت تحررًا كبيرا بعد الثورة، وأن "الجرافيتي" قد دخل ثقافة التونسيين، حتى أن السلطات سمحت لهم بالرسم على الجدران العمومية بكل حرية منها، الجسور، والملاعب مثلا.

فلسطين في قلب الجرافيتي
مطالب الحرية والديمقراطية والقضيّة الفلسطينية وصور المسجد الأقصى أو بعض الجمل الثورية، تحضر في أغلب رسومات الجرافيتي، إيمانًا من أصحابها بأهمية دعم القضية، في ظل غياب هذا الدعم عن الخطاب الرسمي. وشكلت هذه الصور الحائطية جسرًا يصل شباب تونس بمشروع المقاومة رغم محاولات دحض مفاهيم المقاومة ومحاولة خلخلتها في الذهنية العامة.

يقول مروان، أحد رسامي الجرافيتي الذين اعتادوا إعلان دعم القضية الفلسطينية على جدران مدينة قفصة، وسط تونس، أن تلك الرسوم ما تلبث أن تتعرض للإزالة عبر مسؤولي البلدية بعد أيام من خطها. وقال إنه وزملائه يحاولون إيصال رسالة للسلطات، مفادها أن الشباب غاضب كشف تجاه الموقف الرسمي من بعض القضايا العربية، في مقدمتها القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن إصرار السلطات البلدية على إزالة رسومهم يزيدهم إيمانًا بأهمية ما يفعلون، ويدفعهم إلى إعادة نقش رسومهم مرة أخرى.