Untitled_Artwork (4)
طعام

الكنافة والقطائف التي تزداد جمالاً في رمضان

شكل الكنافة وهي غارقة في العسل وداخلها الجبن، والفستق مرشوش على وجهها، أجمل من وجه القمر ومونيكا بيلوتشي مجتمعين

إليكِ اشتياقي يا كنافة زايد .. فمالي غنى عنكِ كلا ولا صبر 
وقطايف محشوة بلطايف .. طافت بنا أكرم بها من طايف

بمثل هذه الأبيات كان الشعراء يتغزلون في طعم الكنافة والقطائف.. وكم كنتُ أتمنى أن تكون أبيات الشعر هذه من تأليفي، فعشقي للكنافة والقطايف لا يضاهيه عشق، وفي عشق الكنافة أنا صرت نابليون. فشكل الكنافة وهي غارقة في العسل وداخلها الجبن، والفستق مرشوش على وجهها، أجمل من وجه القمر ومونيكا بيلوتشي مجتمعين. وطعم القطايف وهي ذائبة في فمك لا يُقارَن بأي حلوى غربية، لا سوفليه ولا إكلير، فالقطايف تستطيع نزع قلبك من مكانه مع أول قضمة.  

إعلان

وفي رمضان، من الصعب أن أتخيل اكتمال اليوم بدون الكنافة. بداية من محلات الكنفانية في الشوارع والحارات، ثم رائحة خيوط الكنافة التي تأسر الطوابير الواقفة قبل الأذان، وشكل القطايف على النار وهي كالبدر المكتمل. في أي شهر آخر، لو أننا أشترينا نفس الكنافة والقطائف من نفس المكان، قد لا نشعر بنفس التفاصيل. في رمضان تُصبَغ الأشياء برُوح أخرى، كأنها تُولد من جديد. 

لنتحدث بداية عن أصل الكنافة

يعود أصل كلمة الكنافة، عند بعض الآراء، إلى مصدر الكلمة (كَنَف)، والكنف هو الحماية والرعاية. وهذه التسمية قد تتماشى مع الرواية الخاصة بكنافة معاوية، فقد كانت الكنافة كنفـاً لمعدة الخليفة أثناء صومه. ويقول رأي آخر أن أصل كلمة كنافة يعود لليونانية، ولا علاقة له بالعربية. وهناك رواية أخرى تقول إن الكنافة أصلها شركسي، واسمها هو "تشنافة" وهم -الشراكشة- مَنْ حملوها إلى نابلس، بعد أن هاجروا من بلادهم بعد انتهاء حرب القوقازية.

ويُروى أن القطائف (قطايف) أسبق في الظهور عن الكنافة، وأن ظهورها جاء في العصر الأندلسي. لكن روايات أخرى تقول إن الكنافة ظهرت أولًا، وذلك في عهد الدولة الأموية، بدمشق، أثناء حكم معاوية بن أبي سفيان، أول الخلفاء الأمويين، والذي كان يشعر بجوع شديد أثناء نهار رمضان، فطلب من أحد أطبائه طعاماً يسد جوعه، فأشار طبيبه عليه بطعام الكنافة في السحور. ومنذ ذلك الحين ارتبطت الكنافة باسم الخليفة (كنافة معاوية). نفس رواية الجوع الملوكي، تنسبها إحدى القصص للخليفة الأموي الخامس عبد الملك بن مروان.  وقد وصل الأمر في حب الكنافة بتأليف كتاب خاص عنها، ألفه العلامة المصري جلال الدين السيوطي (1445 – 1505) وسماه "منهل اللطائف في الكنافة والقطايف."

إعلان

حكاية أخرى تأتينا من عصر الدولة الفاطمية. فعندما دخل المعز لدين الله الفاطمي لمصر، أراد أهل البلاد أن يحتفلوا بقدومه وصنعوا له الكنافة، وبعد ذلك انتقلت الكنافة لبلاد الشام عن طريق التجار. وتتردد رواية أخرى أن الكنافة ظهرت في العصر المملوكي وكانت باهظة الثمن بالنسبة للفقراء وكذلك الشعراء الصعاليك، لدرجة أنهم كانوا يذكرونها في أبيات الشعر الخاصة بهم لأنها طبق الصفوة، فقال عنها الشاعر أبو الحسين الجزار: 

سَقى اللَه أكنافَ الكُنافة بالقطرِ
وجادَ عليها سُكَّرٌ دائمُ الدَّرِّ
وتَبا لأوقات المُخَلَّلِ إنها
تمُرُّ بلا نَفعٍ وتُحسَبُ من عُمري

وإذا تحدثنا عن الكنافة، بات لزامًا علينا أن نتحدث عن صانعها، الكنفاني، الذي يقال أنه ارتبط بالملوك والأمراء، فهذه الوجبة اللذيذة اقتصرت على الحكام ثم انتشرت بين المواطنين -وفق بعض الروايات- في العصر الفاطمي، حيث سمح الحكام بوضعها على موائد الرحمن في رمضان، فبدأ هذا الطبق ينتشر بين العامة، وأصبحت مهنة الكنفاني أكثر انتشارًا وسط الناس.  

باتت الكنافة سببًا في تحقيق المودة بين الناس، بل وإعادة الزوج لزوجته، فيُروى أن زوجان تشاجرا في إحدى الليالي، وقررت الزوجة أن ترحل عن بيت زوجها، ومع مجئ شهر رمضان، أرادت الزوجة أن تصلح ذات البين، فأحضرت طبق الكنافة إلى المنزل ثم عادت لبيت أهلها. ومع عودة الزوج للمنزل، اشتم رائحة الكنافة، فذهب فورًا إلى زوجته وصالحها.  

وطرق صناعة الكنافة متنوعة، منها الكنافة اليدوي، والكنافة الآلي، وكذلك يوجد كنافة ناعمة وأخرى خشنة. والكنافة اليدوي توضع داخل قُمع معدني تحمله اليد، ويخرج منه خيوط الكنافة الرفيعة التي تُرش على الدائرة المعدنية الساخنة. ويبدأ الكنفاني الرش بشكل دائري حتى تمتلئ الصينية، وبعد مرور دقائق قليلة تُرفع الكنافة. أما ماكينة الكنافة الآلية، فهي لا تحتاج إلى مجهود بشري سوى في عملية ملء إناء الكنافة بالسائل، ثم يعمل الأمر كله بشكل ميكانيكي، حيث ينزل السائل المكون للكنافة على الصينية المعدنية الساخنة التي تدور حتى يرفع الكنفاني خيوط الكنافة وتصبح جاهزة للبيع. 

إعلان

تتنوع الكنافة مابين فلسطينية نابلسية، وسورية، ومصرية..إلخ. ولكل منها طريقة طهي مختلفة. وتظل الكنافة النابلسية هي الأشهر بين قريناتها، ومع كل رمضان يأتي، نجد أصحاب محلات الحلوى يبتكرون (تقليعة) نوعـًا جديدًا من الكنافة، مثل الكنافة بالمانجو، أو الكنافة بالنوتيلا (جربتها ولم تبهرني أبدًا، خاصة أنها كانت ناشفة جدًا)، وكنافة المارشميلو، وكنافة الريد فيلفت، والآيس كريم، لكن تظل الكنافات التقليدية باقية في مكانتها لا تتزحزح (مالها كنافة الجبنة، والزبيب وجوز الهند).  

فالكنافة الأفضل بالنسبة لي هي الأبسط، بدون فذلكة ولا تقاليع فارغة، فالكنافة والحداثة دونت مكس. كيف يمكن أن تأكل الكنافة داخل كب كيك؟ الكنافة تُقطَع بالسكين على شكل مربع أو مثلث، هكذا تعلمنا، وتؤكل وسط العائلة أو في المطبخ من وراء العائلة، لأنك تعلم جيدًا أن حربًا قد تقوم بينك وبين أفراد العائلة بسبب قطعة الكنافة المتبقية في الفرن. والكنافة مهما كانت حلوة من المحلات، فحلاوتها تزداد أكثر عندما تصنعها أمك في المنزل، ويا سلام لما تخرجها من الفرن وتضع عليها الشربات أو القطر بنفسك.  

أما الكنافة النابلسية فسرها يأتي مع الجبنة العَكَّاوي، وطريقة عملها بسيطة لكنها تحتاج حرفية ومهارة من الكنفاني. فهو يمزج الكنافة ببعض السمن والزبد، ويضع مُلوِن الطعام البرتقالي ويخلط كل شيء. بعد ذلك يدهن صينية الكنافة بالقليل من السمن ويبدأ بوضع الكنافة بشكل متساوي في أنحاء الصينية بسُمك معتدل، حوالي نصف سنتيمتر حتى لا تكون الكنافة سميكة. توضع الجبنة العَكَّاوي على الكنافة بعد أن يتم نقعها لمدة كافية حتى نتخلص من ملحها، ثم نرش بعض الكنافة على الجبنة ونضعها على البوتاجاز أو داخل الفرن. وبمجرد حصول الكنافة على اللون المناسب نرفعها من على النار ثم نضع عليها القطر/العسل بالمقدار الذي تحبونه. 

إعلان

ولا تختلف الكنافة السورية عن النابلسية في طريقة الصناعة، ربما يختلف فقط نوع الجبن، وتوضع طبقة أكبر من الكنافة على الجبنة. في لبنان، هناك خيار إضافي للفطور وهو عبارة عن كنافة بالكعك حيث يتم فتح خبز الكعك ووضع الكنافة بالجبنة في داخله مع اضافة بعض القطر حسب الرغبة.

أما الكنافة المصرية، فالفرق الأساسي بينها وبين الكنافة النابلسية أن الجبن ليس أمرًا معتادًا فيها. ففي مصر نضع المكسرات مثل الزبيب وجوز الهند أو السوداني، وأحيانـًا أخرى نضع القشدة أو الكسترد. وتبدأ عملية التحضير بفرك الكنافة إلى قطع صغيرة ووضع بعض السمن عليها، ثم دهن الصينية ببعض السمن كذلك، ونضع طبقة من الكنافة وفوقها المكسرات التي تفضلونها، ثم طبقة أخرى من الكنافة. وبعد ذلك توضع الصينية داخل الفرن لمدة كافية ودرجة حرارة ملائمة، وبعد الوصول إلى اللون المناسب، نسكب العسل/الشربات/ القَطر الذي يُصنع من السكر والماء وملح الليمون على الكنافة.

ماذا عن القطائف؟
يتردد أنها سميت بذلك الاسم لأن ملمسها يشبه قماش القطيفة، وهناك قول آخر يعود إلى إنها كانت حلوى مصنوعة بهدف أن توضع في الطبق وتُقطَف من قِبل الضيوف، فسميت بفطيرة القطف، وبعد ذلك تحول اسمها لما نعرفه اليوم. 

في حين تصنع القطائف بشكل أبسط، فعجينة القطائف قد تصنع في المنزل، حيث تتكون من الدقيق واللبن والذي يوضع عليه بعض الملح وبعد فترة من الاختمار نسكب سائل القطائف في شكل دائري على سطح ساخن، وبمجرد أن يصل لدرجة النضج نرفعها من على النار ونضعها لبعض الوقت كي تبرد. نحشو القطائف بعد ذلك بالمكسرات المفضلة أو القشدة، ثم نقليها في الزيت، وبعد إخراجها نغمسها في العسل بالكم المحبب لكم.  

خلال الأشهر الأخيرة تعذبت كثيرًا بسبب امتناعي عن تناول الحلوى، وكانت الكنافة واحدة من بين هؤلاء الضحايا. فبعد أن كنتُ أتناول صينية كنافة كاملة وحدي في ليلة رمضانية مبهجة، صرتُ الآن أتخيل رائحة السمن البلدي السايح على وجه الكنافة المشرق كقرص الشمس، ولا أستطيع الاقتراب منها كي لا نحترق سويًا أو أذوب داخلها ولا أخرج للعالم مرة أخرى.