هواية عربية أصيلة تمتد جذورها إلى 4 آلاف سنة، أدرجتها اليونيسكو ضمن لائحتها كتراث ثقافي غير مادي للبشرية، الصقارة أو المقناص، رياضة تختص بتربية الصقور وتسخيرها للصيد، نشأت الصقارة منذ زمن بعيد، واعتمدت عليها البشرية لفترة طويلة قبل اختراع الأسلحة، للصقارة مكانة رفيعة وخاصّة بالمجتمعات لما تحمله الصقور من رمزيات القوة، السلطة، النفوذ والمجد. وعُرفت الصقور كأفخم أنواع الهدايا المتداولة بين الملوك والأمراء.
تلقى الصقارة إقبالاً كبير في الخليج العربي الذي استطاع الحفاظ على موروث أجداده الصقارين وإعادة إحيائه، تتنوع مسابقات الصقور بالخليج العربي بين الملواح التي تسمى بالتلواح في الإمارات والدعو في قطر. وهناك كذلك مسابقات مزاين الصقور، حيث يتم اختيار الأجمل منها وفق مواصفات ومعايير معيّنة، حيث يُخصص لكل مسابقة منهم جوائز بالملايين وتحصل الصقور الفائزة على ألقاب تزيدها قيمة.
يمارس الصقارين هوايتهم في السعودية عبر المسابقات المحلية في حفر الباطن والنعيرية، وتطوّر الأمر بعد تأسيس نادي الصقور السعودي في 2017، وانطلاق مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور في 2018 ليضمّ سباقات دولية ونجاحات عالمية بدخول موسوعة غينيس مرتيّن بأكبر عدد صقور مسجلّة بالمسابقات.
هيمن الرجال على مهنة الصقارة عبر التاريخ، لكنّ عدداً من النساء نجحنّ بإبراز أساميهنّ ولفت الأنظار لهنّ كصقّارات، ريف هميجان سهو، 22 عاماً، شابّة سعودية جمعتها بالصقور علاقة استثنائية منذ طفولتها. التقيت ريف لأعرف أكثر عن حياة الصقّارات التي تحلّق بين أرض وسماء.
VICE عربية: مرحباً ريف، بداية أخبريني، كيف أصبحتِ صقّارة؟
ريف هميجان سهو: بالوراثة أولاً، أنا ابنه البر، نشأت في الصحراء، في قرية تتبع لمدينة الرياض (لا أرغب بذكر اسم القرية) والدي وجدّي صقّارين وجدّة والدتي كذلك. أنا الشابة الوحيدة من أحفاد العائلة التي أحبّت التعمّق بالصقارة. كنت أرافق والدي بجميع رحلات القنص منذ السادسة، وتعلّمت اصطياد جميع الحيوانات والطيور. قلّت رحلاتنا للقنص بعد انتقالنا لمدينة الرياض وافتتاح المحميات الطبيعية التي حدّت من عمليات الصيد للحفاظ عليها من الانقراض.
هل لديك صقر مفضل؟
لدي صقرين حاليًا. صقري المفضل اسمه "هادي" ونوعه حر مثلوث طرح (تم طرحه أي اصطياده من السماء) وعمره سنتين، هو هادي فعلاً ، قليل الحركة ومطيع لأوامري. هو الآن في المربط حيث يقضي فترة "المقيض." في مارس من كلّ عام نرسل طيورنا إلى المرابط وهي أماكن لإيواء الصقور والاعتناء بها في الصيف داخل غرف عازلة ومزودة بأجهزة تبريد، يستمر المقيض حوالي سبعة أشهر يجدد الطير فيها ريشه ويحصل على طبابة كاملة. ولكن تخرج الصقور من المرابط متوحشّة ولهذا علينا أن نقوم بتدهيلها (مؤانسة وتدريب الطير) من جديد استعداداً لموسم الصيد في الشتاء.
كيف يتدرّب الشخص ليصبح صقّاراً؟ وهل التعامل مع الصقور خطير؟
لا أشعر بالخوف من الصقور سواء كانت متوحشّة أو مدرّبة، لدي بعض الخدوش والجروح التي بقيت آثارها على يديّ، الأمر ليس خطيراً، ولكن تدريب الصقور على الصيد متعب ويحتاج للصّلابة وقوة الصبر والتحمّل.
بخصوص تعلم الصقارة، يجب أن يتدرب الصقّار أولاً على التدهيل كما أشرت في السابق فهي الفترة الأساسية من تدريب الطير، وهي مرحلة بناء الثقة بين الصقر والصقّار لكي يألف على صاحبه، من خلال ترويضه وتعويده على صوت واسم معين، معاملته برفق ولطف شديد، ومرافقته لساعات طويلة يومياً، تتطلب تلك المرحلة الصبر وطولة البال والهدوء. بعد ذلك، يتعّلم الصقّار كيفية حمل الطير ونقله دون إيذائه. بعد سلسلة تدريبات على اختيار الفرائس الصحيحة، يطلق الصقّار طيرُه ليقنص الفرائس ويجلبها له، قد تطرح الصقور فرائسها بأماكن بعيدة في حال لم تدرّب بشكل صحيح.
لحظة طرح الطير هي الأصعب والأكثر خطورة ولا يجيد كافة الصقارين التعامل معها، حيث يحاول الصقر ضرب وإيذاء نفسه ومن حوله بمنقاره ويصدر أصوات فحيح عند لمسه، وقد تتسبب الحركات الخاطئة بقتله. لم أتعرض لأيه مواقف خطيرة سابقاً لأني تدرّبت جيداً على التعامل مع الصقور المتوحشة المطروحة. يمكن تدريب كافة الصقور على القنص ما عدا الوكريّة، أي العادية المباعة بأسعار رخيصة فهي تستخدم عادة لتدريب الأطفال فقط ولا تدخل في السباقات، وتعدّ صقور الشاهين، الجير، والحر من أشهر صقور الصيد.
ولكن يجب الإشارة إلى أن الصقور حساسة جداً ولا نسمح لغير الخبراء بحملها خوفاً من كسر أجنحتها أو تضرر منطقة الصدر كونها رقيقة جداً. ثم على الصقار أن يتعلم كيفية إطعام الصقر من خلال تعويده على طريقة أكل معينة. يفضّل البعض وضع الصقر على وكره (قاعدة أسطوانية يعيش وينام فيها الصقر)، أو وضع الطعام على كفّ اليد، أو على الأرض. أنا شخصياً أفضل إطعام طيري على يدي لتقوية العلاقة بيننا.
كيف يُطرح "يُصطاد" الصقر في البداية، ولماذا تُغطى عينيه؟
نضع الحمام أو السمّان في الشباك كطُعم للفريسة، ثمّ ينقضّ عليها الطير فنمسك به، في هذه الحالة يسمّى الطير "طرح" لأنه طُرح من السماء، ويكون "وحش" أي متوحّش وغير مدهّل (مُدرّب). تتسبب الضوضاء بإزعاج الصقور، وقد تؤذي نفسها ومن حولها إن شعرت بالانزعاج أو الخوف، لذلك نغطي رأس الطير بعد اصطياده بغطاء جلدي يسمى "البرقع" نستخدمه عند تدريب الطير لترويضه، وفي أماكن التجمّعات لحماية عينيه وحفاظاً على هدوءه عند الاقتراب منه حتى لا يبدأ بالمقاومة. بشكل عام، تنتهي مقاومة الصقر عند تلبيسه البرقع ووضعه في "مهاد أبيض" لتهدئته، وهو يشبه تماماً مهاد الأطفال المُستخدم لنفس الغاية.
هل للصقارة فوائد أم هي مجرّد هواية ترفيهية؟
للصقارة منافع مادية ومعنوية كثيرة، أولها إحياء إرث أجدادنا، خلق الله الصقور لتصطاد فرائسها، وسخّرها لمساعدة الإنسان، كانت الكلاب والصقور وسيلة القنص الوحيدة عند العرب لاصطياد الغزلان والأرانب وتوفير الطعام، مع الوقت انتشرت الأسلحة وتركت الناس الصقارة مع استمرار البعض بتفضيلها كونها أرخص من الأسلحة. كما تخلقُ عِشرة الصقور سمات شخصية مشتركة بينها وبين الصقّار، تطبّعتُ بطباع الصقور من عزّة النفس، الجرأة، الصبر، وقوّة العزيمة، جعلني الصقارة أدرك الحكمة من ورود ذكر الرماية نصّاً بالحديث النبوي الذي حثّ الأهل على تعليم أبنائهم رياضة الرماية (الرماية مقصود بها الصيد أو القنص، وهو يشمل الصيد بالأسلحة أو بالصقور). وأنا فخورة للاقتداء بذلك.
لماذا يعتقد المجتمع بأن الصقارة حكراً على الرجال، وهل أصبح للمرأة بصمة فيها؟
لا تقتصر الصقارة على جنس معين، لكنّ القيود المفروضة على النساء بمنعهنّ من إبراز هوياتهنّ، شكّلت عائقاً كبيراً. هناك عائلات وقبائل منعت نسائها من ممارسة الصقارة وهناك من يَنظرن لنا نظرة نقص ويقللون من قدراتنا ويحسبون إننا ما نقدر نصير صقّارات. اختلف الوضع مؤخراً بعد جهود كبيرة لتمكين النساء بالمجال الذي سيطر عليه الرجال طويلاً، كما أتيحت لنا فرص المشاركة في مسابقات مزاين الإبل التي أتابعها سنوياً بعد أن كانت خاصة بالرجال فقط. للنساء وجود قوي في الصقارة منذ القدم، تجمعني معرفة شخصية بنساء صقّارات بأعمار مختلفة ومن أقدمهنّ جدّة أمي، لم يظهرن بالإعلام بسبب سلطة عادات وتقاليد القبيلة التي تختلف من قبيلة لأخرى، بالنسبة لقبيلتي فهي فخورة بنسائها الصقّارات المتمسكات بتراثهنّ الأصيل.
كيف تكون ردة الفعل الأولى بعد معرفة أنك صَقارة؟
والداي فخوران بكوني صقّارة من قلّة النساء في المجال، وأحظى بدعم وتشجيع من الصقّارين السعوديين الذين يسعون لازدهار المجال بوجود الجنسين. ولكن بالمقابل أتعرض للعديد من المواقف المزعجة على الصعيد الشخصي عند معرفتهم أنني صَقارة، كالاستهزاء بقدرتي وتعليقات تهكميّة من نساء يستنقصنّ كوني صقّارة، أو رجال غير متقبلين لوجودي بينهم. مثلاً عندما ذهبت لشراء صقر برفقة والدي قبل أعوام، قال البائع "الحرمة مكانها في البيت مو تشتري طيور وتربيها" وآخر قال: "آخر الزمن صارت الحرمة صقّارة." هناك جرأة غريبة بتنصيب الناس نفسهم لتحكيم مصيرنا كنساء وتحديد خياراتنا بدلاً عنّا، اللي جابتك على الدنيا امرأة، شجّعها وادعمها بدل إحباطها. الصقارات المعروفات بمختلف الدول شهرن أسامي عائلتهنّ عالمياً، عندما تساند المرأة لتبرز بالصقارة فأنت تضع اسم قبيلتك بين قوسين فخر.
هل تشاركين في المسابقات أو المزادات الخاصة بالصقور؟
لم يسبق لي ذلك، وأخطط للمشاركة في مسابقة الملواح للعام القادم، أحب القنص جداً لكنّ حبي لحماية الحياة الطبيعية أكبر، توقفتُ عن ممارسة القنص لأمنح الحيوانات فرصة بالتكاثر، بدأنا نفقد التوازن البيئي بعد انقراض معظم الحيوانات البرية التي يتسابق الهواة لاصطيادها سنوياً. للمحميّات دور أساسي بالحفاظ على الحياة الفطرية، وقد ساهمت بالحدّ من عشوائية قتل الطيور المهاجرة والحيوانات البرية، وأنا داعمة لوجود تصاريح مشددة لاصطياد أعدادٍ محدودة من الحيوانات على فترات زمنية بعيدة.
أتابع مزادات الصقور المحلية والدولية بشكل مستمر، وتزعجني المبالغ الطائلة التي ينفقها المزايدين، ما يحدث اليوم غير منطقي مقارنة بالماضي، تُنتج المزارع صقور مثالية وعالية الجودة بالفعل، لكن ذلك لا يبرّر إنفاق الملايين لشرائها كما يحدث في مزاين الإبل التي وصلت أسعارها إلى 500 مليون ريال للإبل الواحد. قد يموت الطير لحظة ما وتخسر أموالك المهدرة وهناك غيرك بأمس حاجة لها. وبالنسبة لمسابقات الصيد كالملواح، فأنا أدعو الصقّارين لإطلاق الطيور بعد الانتهاء من القنص وعدم حبسها بالمرابط للأبد حتى وإن كلّفهم شرائها وتدريبها مبالغ طائلة، الطير انخلق ليعيش حُر، مو عشان تحسبه.
ما هي خططك المستقبلية في مجال الصقارة؟
أشعر باعتزاز بوجود صقّارات سعوديات برزن بالمجال، كالصقّارة عذاري الخالدي، أول سعودية شاركت في مسابقة الملواح والصقّارة هديل المطيري التي أقدمت على احتراف الصقارة رغم إعاقتها الحركية، الصقارة تزيدني فخراً كامرأة وسوف أستمر في ممارستها بلا شك.
أشارك حالياً في المعارض الدولية لتثقيف الزوار وتعريفهم على النساء الرائدات عالمياً في الصقارة، وأحضّر لإطلاق برنامج توعوي يُنظّم داخل الجامعات لتوعية الجيل الجديد بأهمية الحفاظ على إرثنا الحضاري. كما سأبدأ قريباً بتدريب مجموعة نساء يرغبن بتعلّم الصقارة. يهمّني أيضاً نشر الوعي بوضع الصقور داخل المرابط، تموت الصقور في معظم المرابط بسبب معاملتها السيئة وعدم توفير الفحوص الطبية، الأدوية، والأغذية الجيّدة بالرغم من تلقّي المسؤولين عن هذه المرابط مبالغ كبيرة مقابل العناية بها. لا يمتلك أصحاب المرابط الأمانة تجاة الصقور ولذلك أطمح بإنشاء مربط يحمل اسمي لحماية الصقور. رح أبيّض وجوه كل الصقّارين والصقّارات في السعودية.
هل هناك توجه من قبل حقوق الحيوان لإنهاء الصقارة وما رأيها بذلك؟
يقول المثل السعودي الشعبي"اللي ما يعرف الصقر يشويه" وبالفعل هناك جهات لا تقدّر أهمية ثقافة الصقارة بتاريخنا وتسعى للحدّ من انتشارها بشتى الطرق لعدم اطلاعهم الكافي، وتقوم مواقع التواصل بحذف المنشورات التي تخص الصقارة بشكل دوّري مبررين ذلك بأنه ينافي حقوق الحيوان.
هناك فجوة كبيرة يجب أن نعمل جاهدين لسدّها، أعتقد بأنّ منظمات حقوق الحيوان ومن يرفض وجود الصقارة قد قرأوا المشهد بصورة خاطئة وغير متكاملة، نحن لا نعنّف الصقور ولا نقبل بذلك إطلاقاً، بعض الصقارين يقدّسون الصقور أكثر من عيالهم من شدّة غلاوتها عندهم. نحن نخصص لها المرابط، ونطعمها ونرعاها وندفع مقابل عنايتها وطبابتها وتدريبها مبالغ طائلة. أنا أعامل صقري "هادي" كطفلي، أضعه ليلاً بجانب سريري يومياً من خوفي عليه، فأين الخطأ بكلّ ذلك؟ محاولات إنهاء الصقارة هو دفن لتُراثنا وتراث أجدادنا، وقطع لأرزاق الكثير من العاملين بهذه المهنة. أنا كصقّارة سأستمر بممارسة ونشر موروثي العريق.