27-04-2022 (1)
رمضان

فاتن أمل حربي: قضية عادلة غرقت في بحور النمطية

إذا كانت الحكومة والقومي للمرأة والقضاة وضباط الشرطة والجيران والأصدقاء والعائلة في صف النساء، وإن كان عنف الرجال سببه أمهاتهم، فمَن يُدين إبراهيم عيسى؟

أطلّت علينا الفنانة نيللي كريم هذا العام بمسلسل "فاتن أمل حربي" ويُناقش أزمة امرأة مصريّة بعد الطلاق وينتقد تعثّر سُبل التقاضي أمام النساء بسبب قانون الأحوال الشخصية. رغم الاحتفاء بجرأة العمل (الذي كتبه الصحفي إبراهيم عيسى) لمناقشته أزمة قانونية بشكل صريح في مُناخ سياسي صعب، إلا أن المعالجة الدرامية للعمل نمطية وسطحية. في هذا النص، نُقدّم لكنّ/م نقدنا النسويّ والدراميّ للمسلسل.

العنف الأسري
تبدأ كل حلقة بفلاش باك لحياة فاتن قبل الطلاق والمليئة بالعنف الأسري. يظهر العنف الأسري في أكثر من مشهد: امرأة مُعنّفة في مركز الاستضافة، صديقة فاتن التي ضربها زوجها، وصديقة أخرى ضربها أخوها للاستيلاء على ميراثها. رغم هذا التكثيف لظهور العنف الأسري، إلا أنه ولا مرّة تم تسميته باسمه.

إعلان

الغالبية العظمى من المصريات يتعرّضن للعنف الأسري، ولا يوجد نص قانوني لتجريمه. عندما تذهب فاتن مع صديقتها للإبلاغ، يرفض قسم الشرطة تحرير المحضر لأنه لا يوجد شهود، رغم تصوير الواقعة صوتًا وصورة، لأنهنّ نساء وشهادة المرأة بنصف شهادة الرجُل. يُخالف ذلك الواقع، لأنه عادة ترفض الشرطة تحرير المحاضر، ايمانًا أن من حق الأسرة تعنيف النساء. يحاولون إثناء المُبلغات عن الإبلاغ بالتخويف من المبيت في النيابة والحجز، أو يستدعون المُعتدين ويتوسطون في جلسات عرفية للتسوية غير الرسمية، أو يتم استدعاء المُعنفين لاستلام النساء، وإعادتهن للمنازل بالإكراه. أما لو كنّ مسيحيّات، تتدخل الكنيسة لاستلام النساء، وفي حالات كثيرة، يتم تأديبهنّ باحتجازهنّ في الأديرة.

يحدث ذلك بسبب عدم وجود قانون يُجرم العنف الأسري، وتجاهل الدولة مطالبات النسويات بضرورة وجود قانون موحد للعنف ضد النساء. كما أنه لم يظهر ولا مرة تأثير العنف الأسري الذي تتعرض له فاتن على طفلتيها، كما ظهر تأثير الطلاق. يُعد ذلك تقديمًا للعنف الأسري على أنه أهون من الطلاق.

إعلان

مساواة الحب بالعنف
بالحديث عن الطفلتين، تقول إحداهما لفاتن أنها تكرَه أبيها لأنه طردهن، لكن فاتن "تُصحح" لها الأمر بأن الأب يحبهما. هذه العبارة إشكالية على مستويين. المستوى الأول أنه يضع على الأمهات المُعنّفات عبء إبقاء صورة الأب مثالية أمام الأطفال، مما يُخلي مسؤولية الرجال من الحفاظ على صورتهم بأنفسهم بإيقاف العنف. وتلك صورة نمطية عن المُطلقات اللواتي يتم تحميلهنّ مسؤولية الحفاظ على علاقة الأب بالأطفال حتى لو كان هذا الأب مُرتكبًا لجرائم العنف. أما المستوى الثاني، فهو تأثير هذا العبء على الأطفال نفسيًا وعقليًا.

عندما "تُصحح" فاتن صورة الأب أمام الطفلة، فهي تُساوي الحب بالعنف في وعي الطفلة. هذا النوع من التشويش الإدراكي (Gaslighting) تُمارسه الأمهات على الأطفال لأن هؤلاء الأمهات أنفسهن مُبتزّات بضرورة الحفاظ على الصورة المثالية للأب، للهروب من وصمة "تشويه صورة الأب."

هذه الوصمة تُحرر الرجال من مسؤولية إيقاف العنف، وتؤثر سلبًا على الأطفال الذين/اللاتي يتم إنكار تأويلهم/ن للواقع، واستبداله بفكرة تُخالفه. هذا تدريب غير واعي للأطفال على عدم الثقة في مشاعرهم/ن وتفسيراتهم/ن للأذى. وهذا الخلط بين الحب والأذى، يُعيد إنتاج العنف مرة أخرى. فعندما يكبر الأطفال ويدخلون/ن شراكات عاطفية وجنسية يتعرضن/ون فيها للعنف، لا يستطعن/ون تأويله بأنه عنفٌ، لارتباطه في اللاوعي بالتعبير عن الحب. وبذلك ينتقل العنف من جيل لجيل، (Generational Trauma). هذه معالجة ضعيفة من صناع المسلسل، تُكرّس للصورة النمطية عن أن النساء مسؤولات عن تجميل عنف الآباء، ويدفع ثمنها النساء والأطفال معًا.

إعلان

دعم غير واقعي للمطلقات
تتلقى فاتن دعمًا من المُحيطين/ات بها، وهو أمر غير واقعي ويجعل الشخصيات أحاديّة، فإما خيّرة وداعمة، أو شريرة وعنيفة. تتعرض أغلب المُطلقات للوصم بأنها "خربَت بيتها" ويبتعد عنهن حتى أقرب الصديقات بسبب الوصمة الشائعة أن المُطلقة تبحث عن زوج جديد، لم يحدث ذلك مع فاتن. أما الرجال، فيجدون المُطلقات "مطمعًا" لممارسة الجنس بدون زواج. لا تتلقى المُطلقات عروض زواج يوميًا كما حدث مع فاتن، وأغلب هذه العروض يكون إما رجل يبحث عن زوجة ثانية، وغالبًا دون إعلام الأولى، أو أرمل أو مُطلق ولديه أطفال يبحث لهم عن أم بديلة. وفي ذلك، يتم النظر للمُطلقات على أنهنّ أدنى من غير المتزوجات، لأنه سبق لهنّ الزواج.

ترفض عائلات كثيرة أن تُقيم معهم الابنة وأطفالها بعد الطلاق لأنها مسؤولية مالية كبيرة. والبعض لا يتعاون في التربية كما تفعل صديقات فاتن. ثم تجد رجُلًا ليس حتى من عائلتها، يدعمها ماليًا ومعنويًا دون أن يرغب في مقابل (سبحان الله). تدفع النساء ثمن الطلاق عنفًا وتمييزًا اجتماعيًا يصل إلى إنكار حق المُطلقات في الحصول على مسكن بالإيجار، حيث يرفض مُلاك/مالكات العقارات المُطلقات والنساء المُستقلات. ولو حدث وحصلت المُطلقة على مسكن بالإيجار، فإن عيون الجيران والحي تُلاحقها وتترصد تحركاتها وملابسها وضيوفها، بسبب وصم المُطلقات بأنهن يُمارسن الجنس بلا حدود مع الرجال بدون زواج. أما جيران فاتن، فيقدمون لها المساعدة والدعم. المسلسل إما يُقدم صورًا نمطية دون معالجة درامية نسوية، أو صورًا خيالية لا تمت للواقع.

إعلان

شخصيات نسائية سطحية
كُتبت الشخصيات النسائية بسطحية شديدة. فعندما تقول فاتن لنظيمة حماتها: "أنا مشكلتي مش مع سيف. مشكلتي مع تربيتك له" تُعيد إنتاج نمطية صورة الحماة التي تؤلب ابنها ضد زوجته، وهو ما ظهر من مشاهد نظيمة نفسها. لم يُعطنا صناع العمل مُبررًا منطقيًا لموقف نظيمة: هل تعرضت نظيمة للعنف وتعتبره عاديًا؟ لماذا تتخذ نظيمة موقفًا عدائيًا من فاتن؟ ولماذا يقول لنا المسلسل أن عنف سيف يرجع لتربية أمه وكأننا ننفض أيادي الرجال من ارتكاب العنف؟ تلك صورة نمطية وذكورية تُرجع سبب العنف ضد النساء إلى نساء أخريات. وأيضًا معالجة درامية ضعيفة تؤصل لفكرة أن "العنف مصدره امرأة" بدلًا من التركيز على أن "العنف مرتكبه رجُل."

أما رجاء، وتلعب دورها بثينة كامل، لو حذفنا دورها لن تتأثر الحبكة. بثينة كامل مذيعة مصرية جريئة ولها باع من العمل السياسي، حتى أنها كانت تجمع توكيلات عام ٢٠١٢ لخوض سباق رئاسة الجمهورية كامرأة لأول مرة في تاريخ مصر الحديث. فمن غير المفهوم قبولها دور ثانوي تظهر فيه حاملة كلب وتسأل الشيخ هل الكلب حرام أم حلال! يُعد ذلك تراجُعًا لا يليق بامرأة اتخذت خطوات رسمية للترشح للرئاسة والآن تسأل عن حرمانية اقتناء الكلاب. هل نرجع للوراء؟

الدين محور الأحداث ومرجعها
هناك إقحام لفكرة تجديد الخطاب الديني – لواء يحمله كاتب المسلسل - على حساب جودة العمل. أدوار الشيوخ والتناحر بين شيخ أصولي وآخر مُستنير، ومشاهد الترتيل، وجدالات بين شخصيات ثانوية حول حرمانية الخلوة بين الرجال والنساء وسماع الأغاني واقتناء الكلاب، وتصحيحات للأحاديث الضعيفة والمُتحيزة ضد النساء، جميعها مُقحمة ومملة لدرجة أثارت سخرية المتابعين/ات.

إعلان

تلجأ فاتن للدين مع كل أزمة، ويظهر مُرتل القرآن بلا داعي مهوّنًا عليها بآيات قرآنية. يُرجعنا ذلك لسنوات انتشر فيها ما يُعرف باسم "فقه المرأة المسلمة" بقيادة شيوخ أصوليين. نحنُ كنسويات وكنساء، تجاوزنا هذه الفقرة من حصر حيواتنا في الدين وتحليلها وتحريمها كأننا كائنات نورانيّة ولسنا مواطنات ولنا حقوق مدنيّة. خطواتنا وأزماتنا قانونية بحتة. معركة فقه المرأة صفرية بالنسبة إلينا، لن نحصل فيها على أية مكاسب حقيقية لأن ما يحكم النظام الاجتماعي هو القانون. هذا المسلسل زَجَ قضية عادلة مثل معركة النساء مع قوانين الأحوال الشخصية، لتكون واجهة نسائية وديكور لشيء لا يصلح إلا للعرض على القنوات الدينية المُتخصصة.

 مراكز الاستضافة وظهور خاص للمجلس القومي للمرأة
ظهر المجلس القومي للمرأة لمساعدة فاتن، وذلك يتماشى مع دور المجلس خلال السنوات الأخيرة من التدخل في قضايا النساء التي تتحول لقضايا رأي عام، مثل وقائع الاعتداء الجنسي وأشهرهما واقعتي: جريمة اغتصاب الفيرمونت ومنة عبد العزيز. في قضية فيرمونت، نشر القومي للمرأة دعوة للشهود بالتقدم للإدلاء بشهادتهم/ن أمام النيابة تحت حماية المجلس، بما أن المُعتدين من عائلات نافذة. إلا أنه تم القبض على الشهود ولم يتدخل المجلس للإفراج عنهم/ن.

إعلان

أما قضية منّة عبد العزيز والتي اشتهرت بفيديوهات تيك توك ونشرت مقطعًا تطلب فيه الدعم لأنها تعرضت للخطف والاغتصاب، تم إيداعها مركز استضافة من منطلق "حمايتها وإعادة تأهيلها نفسيًا" وهو ما استنكرته ونددت به المبادرة المصرية للحقوق الشخصية واعتبرته احتجازًا رغم الإرادة. يجعلنا ذلك نتساءل عن دور مراكز استضافة المُعنفات في مصر واستخدامها كأماكن احتجاز للنساء.

احتفى البعض بمراكز استضافة النساء المُعنفات التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي المصرية، وانتقد الكثيرون/ات الصورة التي ظهر بها مركز الاستضافة وكأنه فندقًا خمس نجوم ويسمح باصطحاب الحيوانات الأليفة. تقول أ. عزة سليمان المحامية الحقوقية وعضوة مجلس أمناء مؤسسة مركز قضايا المرأة المصرية (سيولا)، أن النساء والفتيات يعانين في مراكز الاستضافة ويتم وضع شروط قهرية للإقامة ووصفتها بأنها "غير إنسانيّة، وتُعامل المقيمات كمُذنبات" الأمر الذي يضطرهن للهروب. المسلسل يُقدم المجلس القومي للمرأة كأنه الجهة الوحيدة المهتمة بحقوق النساء، وهو تجاهل مقصود لجهود المنظمات النسويّة والناشطات النسويات.

مَن نُدين؟
هذا "التلميع" المقصود لمؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية، والجهات المفترض أنها غير حكومية لكنها توالي الحكومة مثل القومي للمرأة، تفترض أن أزمة النساء مع قوانين الأحوال الشخصية هي أزمة تأويل وفقه. ليست أزمة أجهزة تنفيذية تتواطأ مع الجناة ضد النساء، أو مُشرعين يتعامون عن واقعهن العنيف، أو قضاة يرون الظلم لعقود في أروقة محاكم الأسرة ولا يزال العمل بقانون الأحوال الشخصية جاريًا. ولا أزمة مجتمع يرى المطلقات "خاربات بيوت" و"فاضحات أسرار" ويُعاقبهن على الطلاق والخروج من علاقة عنيفة. ولا أزمة إلقاء الأطفال على كاهل الأمهات بعد الطلاق. 

هذا المسلسل رغم طرحه شديد الأهميّة، إلا أن تصوير الأمور سلسة وسهلة ووحده قانون الأحوال ما يحتاج لتغيير يعتبر تزييفًا للحقيقة. هذا كما ينفض أيادي الرجال من العنف، ينفض أيادي الدولة ومؤسساتها ويُقدم طرحًا خياليًا عن دولة مُسادنة للنساء، لكنها تحتاج "زقة."

فإذا كانت الحكومة والقومي للمرأة والقضاة وضباط الشرطة والجيران والأصدقاء والعائلة في صف النساء، وإن كان عنف الرجال سببه أمهاتهم، فمَن يُدين إبراهيم عيسى؟ يترك عيسى خلفه كل هذا التعقيد والتراكم، ويُدين الفقه والخطاب الديني لأن ذلك ما يعتقد أنه سبب المشكلة. وفي رأيي، سحَب ذلك من رصيد العمل لدى المشاهدين/ات، وجعله قاصرًا محدودًا ونمطيًا.