شهر رمضان

الاستراتيجيات الخفية للدعاية الرمضانية

من "أصحابنا.. لمتنا.. عيلتنا" و"يعيش الكومباوند حر مستقر" حتى "هالله هالله ع الفانلة"
Screen Shot 2019-05-19 at 12

يتميز رمضان بالكثير من الأشياء، فهو وقت للعبادة، ووقت للتأمل، ووقت محاولة الشعور بالآخرين، لكنه أيضًا موسم استهلاكي ينتظره كل من له سلعة ترتبط أو لا ترتبط بالشهر الكريم، وأينما حضرت السلع حضرت الدعايات التي تستهدف كل من ملأ بطنه توًا بالطعام فلم تعد لديه قدرة على الحركة؛ إنما يجلس أمام جهاز تلفازه كأنثى حيوان الباندا الحامل في شهرها الخامس؛ ليشاهد سلسلة من الدعايات التي تسوق له سلع لا يحتاج منها شيء.

إعلان

وقد تحولت الدعايات الرمضاني عبر السنوات إلى موسم خاص بها ينتظره المتابعون كل عام، حتى يتم عقد منافسة ضمنية بين الدعايات ويتم تقييمها وانتخاب الأعمال الفائزة، وإعلان فوز بعضها بالجوائز الأولى، والمتنافسون التقليديون هم شركات الاتصالات وشركات المياه الغازية ومؤسسوا المجتمعات السكنية الجديدة المعروفة بـ"الكومباوند"، والجمعيات الخيرية، ومؤخرًا ولأسباب يصعب فهمها، انضم لهم مجموعة من الشركات المتنافسة المختصة بإنتاج الملابس الداخلية!

والدعايات التليفزيونية الرمضانية تستخدم مجموعة من التقنيات التي تتكرر كل سنة حتى أصبحت كالدستورالمكتوب، أصبح لها قواعد وقوانين وتقنيات أهمها طبعًا القانون الأهم "اللي تكسب به إلعب به"، وهو ما يجعلنا نرى الأفكار نفسها عامًا بعد عام، والتقنيات ذاتها، طالما هذه الأفكار والتقنيات تبلى حسنًا في محاصرة المشاهد. ويمكننا أن نلخص بعض أهم تقنيات الدعايا الرمضانية فيما يلي.

أولًا: فن البسترة
لكي يحقق المسؤلون عن تنظيم عرض الدعايات الرمضانية وأعظم تأثير فهم يقومون بتنظيم طريقة العرض على أن تأخذ المشاهد من أقصى درجات الكوميديا حتى أقصى درجات البؤس في غضون ثوان، ثم تعود لتأخذه على نقاط الضحك ثم تعود لتهبط به إلى أكثر نقاط بئر الحزن انخفاضًا، وهكذا يحرك المشاهد رأسه مستمتعًا بريتم أغنية دعائية لإحدى شركات اتصالات مستمتعًا بصوت المطرب الشاب والمطربة المرحة، ثم تتساقط دموعه على خديه حين يستمع لكلمات الطفل مريض السرطان في دعايات مستشفى أطفال السرطان، ثم يقوم ليرقص مع إعلانات شركة الملابس الداخلية التي استوردت راقصات خصيصًا من الخارج، ثم يعود ليشعر برغبة عارمة في تقطيع شرايين يديه حين يشاهد بعد مهرجان الرقص هذا مباشرة دعاية عن طفل شوهه حريق ولم يجد مستشفى ليتلق فيها العلاج حتى انتقل إلى رحمة الله.

إعلان

هذه التقنية من فن بسترة المشاعر والانتقال بها من شعور لشعور مضاد تمامًا قد تسبب نوع من أنواع الهيستيريا الجماعية للمشاهدين، وحالة من فصام الأحاسيس العميق، لكن في النهاية طالما لم نسمع بعد عن حالات انتحار فيا أهلا بالهيستيريا والفصام الرمضاني كل عام.

ثانيًا: أصحاب.. صحبتنا.. لمة.. لمتنا.. عيلة.. عيلتنا.. وأنا وانت
من المعروف أن رمضان من مناسبات التجمعات العائلية، فالعائلة التي قد يكون لكل منها جدول يومي مختلف في الأيام العادية نتيجة لاختلاف مواعيد الدراسة والعمل تتجمع كلها حول مائدة طعام واحدة في نفس الموعد المحدد بعد غروب شمس كل يوم، كما أن ليالي رمضان كلها تبدأ في الميعاد ذاته مما يشجع على تجمع الأصدقاء الذين قد تمنعهم مواعيد خروجهم المختلفة عن اللقاء ببعضهم البعض، وقد تلقت ماكينة الدعايا الإعلانية هذه الحقائق وأمسكت بتلابيبها، ووضعت يديها حول رقبتها وأمسكت بخناقها ولم تفلته. كل عام يأتي رمضان وتأتي معه نفس الفكرة، مجموعة من العائلات الفنية أو مجموعات الأصدقاء من الفنانين، ليس بالضرورة أن يكون هناك منطق كبير في هذه الدعايا، على سبيل المثال حين حاول البعض قدح زناد فكرهم ليجدوا علاقة هذا العام بين عمرو دياب ومجموعة أصدقائه الذين ظهر معهم في هذا العام؟ لم يسمع أحد أبدًا عن علاقات صداقة بين عمرو دياب وغادة عادل أو منة شلبي مثلًا، ثم متى بدأت علاقة الصداقة بين عمرو دياب وأحمد مالك، عندنا كان أحمد مالك جنينًا في رحم والدته؟!.. لكن كل ذلك لا يهم، المهم هو الصورة النهائية و الأغنية الراقصة، صحابنا، صحبتنا، عيلتنا، لمتنا، وأنا وانت.

ثالثَا: هالله هالله.. ع الفانلة
قاعدة من القواعد التي لا يمكن تحطيمها في الدعايا الرمضانية هي الغناء، حيث أن كل من له علاقة من قريب أو بعيد بالغناء لابد له أن يغني، فماذا عن كل من ليس له أية علاقة بالغناء؟.. جيس وات؟.. إنه أيضًا سيغني، المطرب سيغني، الممثل سيغني، والشخصية العامة ستغني، وإن كان هذا قد يكون طبيعي حين تكون الدعايات عن مواضيع مرحة مبهجة لا يحيط بها الهم، فماذا عن أطفال مستشفى القلب، وأطفال مستشفى السرطان، وأطفال مستشفى الحروق الذين نجدهم يقومون بالغناء في الدعايات الخاصة بمستشفياتهم؟.. هل توقف المشاهدون عن فهم جمل الحديث العادية ولابد أن نستبدل كل طرق التواصل البشري بالغناء حتى نستطيع فهم بعضنا البعض؟.. على كل حال فقد تسربت موهبة الغناء لكل أطياف المجتمع في رمضان، حتى أننا نجد لواء شرطة سابق تحول مع الزمن إلى معلق رياضي، هو أيضًا يغني في دعايات شهيرة لشركة ملابس داخلية تدخل عامها الثاني بعد نجاحها الساحق العام الماضي الذي تحولت أغنية رمضان الرئيسية فيه من "رمضان جانا" إلى "هالله هالله ع الفانلة."

رابعًا: يعيش الكومباوند حر مستقر
ولسبب آخر غير مفهوم (وما أكثر الأسباب غيرالمفهومة لدعايات رمضان) فقد تحول شهر رمضان إلى الشهر الرئيسي للدعاية للمجتمعات السكنية الحديثة المسماة بـ"الكومباوند" وبينما كانت الدعايات السنوية للكومباوندات تتنوع دوما بين دعوة المشاهد للسكن في مكان أنيق وجميل وهادىء ونظيف، مرورًا بالتسويق العنصري بطريقة "ستكون هناك أنت ومن يشبهونك فقط، أما كل الطبقات الفقيرة الكادحة بفقرها وبؤسها فلا تقلق، ستمنع أسوارنا العالية دخول أيا من أشكالهم إلى حيزك، "وحتى وصلنا هذا العام للحرب العالمية الثالثة التي يبدو أن بعض القوى قد شنتها على الكومباوندات وعلى كومباوند "مدينتي" تحديدًا. حيث خرج علينا صوت "أصالة" في دعايته هذا العام في أغنية حربية أثارت فزع البعض حيث أن أغنيتها العام السابق عن بلدها الواقعة تحت الحرب كانت أقل وطأة بكثير؛ إلا أنه يبدو أن هذه الدعايات قد أدخلتنا إلى عتبات عالم جديد يمكن فيه لـ"مدينتي" أن تكون أشد تأثيرًا وأهمية من "دمشق" أو "حلب" وقد تضطر البعض يومًا ما لأن يرفع شعار:"الله .. الوطن .. الكومباوند."

وهكذا تتنوع و تتعدد تقنيات الدعايات في رمضان، ولا نمل من الإعادة و التكرار والغناء و البكاء؛ طالما نقضي الأوقات معا بين عائلتنا وفي أحضان صحبتنا ومستمتعين بلمتنا، فقد أصبحت تلك هي عادات رمضان، وربنا ما يقطعلنا عادة!