بعد تأخير أكثر من نصف ساعة عن الموعد المحدد، صعد المغني برفقة فرقته الموسيقية على المسرح، بدا عليهم التعب والإرهاق بعض الشيء، لكنهم انطلقوا في عزف موسيقى الرُوك الخاصة بهم، الجمهور لم يكن متفاعلاً كثيراً في البداية لكنه بدأ الاندماج بعض الشيء، توقف المغني عن الغناء أكثر من مرة خلال قرابة ثلاثون دقيقة قضاها على المسرح، والسبب توجيهات من مندوب -بلباس مدني- يتبع للأجهزة الأمنية بمنعه من استكمال بعض الأغاني والانتقال لأخرى.
هذا بعض ما حدث مع مغني فرقة "خطأ مطبعي" محمد زهد، 27 عاماً، من قطاع غزة، أثناء غنائه في اليوم الثاني من مهرجان عَ السطح، الذي نظمه ملتقى شباب بلا حدود ورؤيا فلسطينية بتمويل من الاتحاد الأوروبي، على شاطئ البحر أعلى سطح صالة البيدر جنوب غرب مدينة غزة. المهرجان انطلق في 1 سبتمبر واستمر ثلاث أيام بمشاركة 3 فرق غنائية و3 فرق للفنون الشعبية. إنطلاقاً من فكرة عقد الأفراح والمناسبات السعيدة في قطاع غزة قبل أكثر من 20 عاماً، فوق أسطح المنازل، قرر منظمو المهرجان إقامته على سطح صالة البيدر، بمشاركة فرق فنية تقدم الغناء والفنون الشعبية.
وعمل المنظمون على إعداد الفكرة، وتوفير التمويل، من ثم توجهوا للحصول على ترخيص إقامة المهرجان من قبل وزارة الداخلية – وفقا للقانون السائد في غزة - وبالفعل بعد تقديمهم الأوراق اللازمة ومعلومات عن الفرق المشاركة في المهرجان، وتأكد الداخلية أنها فرق وطنية، تم الموافقة بمنحهم الترخيص، حسب ما قال المنسق الاعلامي للمهرجان، إبراهيم أبو ريدة لـ VICE عربية والذي أكد على أن هناك بنود معينة يجب توفيرها للموافقة على منحهم الترخيص من قبل الداخلية، من ضمنهم "الفصل بين الجنسين، عدم تفاعل الجمهور مع الغناء، كالرقص والتمايل،" مضيفاً "احنا كجهة منفذة أخدنا التعليمات بشكل جدي ووفرنا أمن من شركة خاصة للحفاظ على الشكل العام للمهرجان."
بداية المشكلة
فور حصول المنظمين للمهرجان على الترخيص من قبل وزارة الداخلية، أطلقوا الاعلانات والدعوات للمشاركة في المهرجانات عبر صفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي لاقي اهتمام كبير من المواطنين. لكن، بعد اتمام التجهيزات وقبل يوم واحد من المهرجان، كتب الأستاذ الدكتور صالح الرقب أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة في الجامعة الإسلامية التابعة لحركة "حماس" في غزة، والمعروف بتشدده، عبر صفحته الشخصية على الفيس بوك "نشكر لوزارة الداخلية بغزة جهدها الطيب حيث أوقفت مهرجان المسخرة (رقص وطرب) على السطح.. شباب بلا حدود في إشاعة الفساد والمنكر بدعم من الاتحاد الأوروبي الذي يساهم في حصار غزة وله شروط قاسية.. لكن يدعم الرقص والفساد.. فلنحذر الوقوع في شرك المفسدين". الأمر الذي أحدث ارباك لدى العامة.
وسارع المنظمون للتأكد من وزارة الداخلية حول صحة إلغاء المهرجان، الأمر الذي نفته الوزارة، وأعلن المنظمون عن ذلك. بل إنه وفي اليوم الأول للمهرجان زار المكان اللواء، توفيق أبو النعيم، مدير الشرطة في قطاع غزة، وأكد على عدم وجود أي معيقات طالما أن الوزارة منحتهم الترخيص.

وحول تواجد مندوب الأمن، والدور الذي قام به، قال زهد: لـ VICE عربية "تواجد شاب يتبع للأجهزة الأمنية، طلب منا قائمة الأغاني قبل صعودنا للمسرح، والتي اشتملت على 26 أغنية، حذف منها أكثر من 20، وبعد نقاشات وحوار وافق على 10 أغاني فقط، وبينما كنت على المسرح، تم إيقافي عدة مرات بشكل واضح وملحوظ من جميع الحضور، مع العلم أنه كان موافقاً على تلك الأغاني."
أيضاً، طلب مندوب الأمن من زهد غناء أغاني وطنية وتراثية فقط، وهذا ما رفضه بسبب عدم اشتمال أغانيه على هذا النوع من الأغاني: "أنا لست ضد الوطن ولا التراث، ولكن هناك الكثير من الفرق التي تغني هكذا أنواع، ونحن نعبر عن الانسان ومشاكله في كلمتنا.
واستغرب زهد من تصرف الأجهزة الأمنية، معتقداً أن على الأجهزة الأمنية دعمهم لأن ما يقدمونه وقدرتهم على الترفيه والتخفيف من الضغوطات اليومية التي يتعرض لها المواطنون يصب في مصلحة الأمن، وقال: "لو فكروا فيها صح المفروض يعملولنا حفلة كل أسبوع."
أما مغني فرقة "صول باند" حمادة نصر الله، 24 عاماً، الذي وصف نفسه أنه كان منضبطاً أثناء الغناء، رفض التعليق على الموضوع رغم إشارته لبعض المعيقات المشابهة التي تعرض لها زهد، وقال:"هناك بعض المعيقات من قبل الجهات الأمنية وعدم تقبلهم للحفلات الموسيقية ولن أضيف أكثر من ذلك."
وتابع حمادة: "في أغاني كنت حابب أغنيها ولكن للأسف لم أستطع، فرحتي كانت منقوصة رغم تفاعل الجماهير معنا. باختصار وأنا على المسرح، كان شعوري نفس شعور الطالب الذي يقدم امتحاناً ومن حوله 10 مراقبين، لا قادر أقدم بشكل جيد ولا قادر أغش."
الداخلية تنفي
رغم تأكيدات الفنانين على تدخل مندوب الأجهزة الأمنية، إلا أن المتحدث باسم وزارة الداخلية، إياد البزم، نفى لـ VICE عربية تدخلهم في طبيعة الأغاني التي يقدمها الفنانين قائلا: "لا يصل الأمر إلى التدخل في هذه التفاصيل بقدر ما يكون هناك نمط عام يحافظ على عاداتنا وتقاليدنا، لكن بشكل عام لا نتدخل في طبيعة الأغاني وهذا أمر لا يعنينا، وما يعنينا فقط هو الحفاظ على القانون والنظام، عادات وتقاليد شعبنا، أما ما دون ذلك كل التفاصيل هذه تبقى بحرية القائمين على الفعالية."
وتشير المادة "19" من القانون الأساسي الفلسطيني الى أنه: "لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام القانون." وحول التجمع السلمي، نص القانون الأساسي الفلسطيني في المادة "26" على "للمواطنين الحق في عقد الاجتماعات العامة والندوات والمسيرات بحرية، ولا يجوز المس بها أو وضع القيود عليها إلا وفقاً للضوابط المنصوص عليها في هذا القانون".
وحول المعايير التي تتبعها الداخلية في منح التراخيص لإقامة الفعاليات والمهرجانات، قال البزم: "نحن لدينا شهرياً آلاف الطلبات لإقامة الفعاليات والمهرجانات الفنية والشعبية، وفي الغالب نوافق عليها، ونعمل على منح المنظمين التسهيلات اللازمة لعقد فعالياتهم، طالما أنها تحترم النظام العام وعادات وتقاليد الشعب الفلسطيني."
وحول منح التراخيص من قبل الداخلية نصت المادة "3" من قانون الاجتماعات العامة رقم 12 لسنة 1998، على التالي: "يحق عقد الاجتماعات العامة على أن يوجه إشعار كتابي للمحافظ أو مدير الشرطة بذلك قبل 48 ساعة على الأقل من موعد عقد الاجتماع".
وأضافت المادة "4" من ذات القانون على "يقدم إشعار كتابي موقعاً من الأشخاص المنظمين للاجتماع على ألا يقل عددهم عن ثلاثة مبينين فيه المكان والزمان اللذين سيعقد فيهما الاجتماع والغرض منه. في حالة تقديم الإشعار الكتابي من جهة ذات شخصية اعتبارية يكتفي بتوقيع من يمثلها. دون المساس بالحق في الاجتماع، للمحافظ أو لمدير الشرطة أن يضعا ضوابط على مدة أو مسار الاجتماع المنصوص عليه في المادة (3) بهدف تنظيم حركة المرور، على أن يبلغ المنظمون بهذه الضوابط خطياً بعد 24 ساعة على الأكثر من موعد تسليم الإشعار. في حال عدم تلقي الجهة المنظمة لأي جواب خطي حسب ما هو منصوص عليه في الفقرة السابقة يحق للجهة المنظمة إجراء الاجتماع العام في الموعد المحدد طبقاً لما هو وارد في الإشعار."
معيقات متعددة
ما حدث في المهرجان من معيقات أمام الفرق الفنية، لم يكن المعيق الوحيد أمامهم بل هناك الكثير من المعيقات التي تواجهها الفرق بسبب تواجدهم في قطاع غزة، كما يشير زهد: "تلقينا الكثير من عروض الغناء في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48 وأماكن خارج فلسطين، لكن بسبب الرفض الإسرائيلي لمنحنا تصاريح سفر، لم نحصل على أي فرصة إطلاقاً،" وأضاف "كنا نتلقى منع من قبل الاحتلال الاسرائيلي واليوم من الاحتلال ومن والعرب كمان "في إشارة لما يتعرضون له من حكومة قطاع غزة التي تتبع لحركة حماس."
كذلك عدم توفر مكان لعمل بروفات بشكل دائم، واضطرارهم لاستئجار مكان على حسابهم الشخصي، إضافة إلى انقطاع الكهرباء، وقلة مواد دخلهم وضعف امكانيات الانتاج المادية التي تتسبب بعدم قدرتهم على الاستمرار كل ذلك ضمن المعيقات التي تقف أمام أحلامهم. واتفق حمادة مع سابقه في المعيقات التي يواجهها مع فرقته، مركزاً على عدم وجود حاضنة أساسية للفنانين ترعاهم وتمنحهم حقوقهم وتعرفهم ما هي حقوقهم.
استياء الجمهور من الأمن
أحد الحضور رفض ذكر اسمه، حضر هو وشقيقاته للمهرجان، قال "تفاجأت منذ دخولنا لباب السطح باستقبال أفراد من شركة أمن خاصة، طلبوا منا الجلوس منفصلين، ورغم تحمسنا لحضور المهرجان، لكن شعرنا بخيبة أمل، وطوال فترة حضورنا كنا نتراسل عبر الجوال بالرسائل." وتابع: "فعليا شعرت أنني في مكان أمني وليس مهرجان فني غنائي، في بعض لقطات التصوير عن طريق هاتفي تم منعي، بحجة أن هناك فتيات يظهرن ضمن الصورة، أيضاً تم منعي الاقتراب من شقيقاتي، وشعرت أنني متحرش في نظرهم. مجتمعنا ليس بحاجة إلى الفصل بهذه الطريقة، خاصة أننا مجتمع يحترم بَعضُنَا البعض ومن هو موجود بالحفل إما زوجتي أو أختي أو والدتي، ولسنا بحاجة إلى هذا الفصل الذي يكرس حالة التمييز على النوع الاجتماعي."
ونصت المادة (2) من قانون الاجتماعات العامة رقم 12 لسنة 1998، البند "5" على عدم حضور الشرطة في التجمعات السلمية "للفلسطينيين حق المشاركة في الحياة السياسية أفراداً وجماعات ولهم على وجه الخصوص الحق، في عقد الاجتماعات الخاصة دون حضور أفراد الشرطة، وعقد الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات في حدود القانون".
أما إيمان جاد الله، 23 عاماً، والتي تعمل كمتطوعة في قناة إعلامية نسائية محلية، حضرت اليوم الأول من المهرجان برفقة قريبتها، وحضرت اليوم الثاني برفقة زميلتها في العمل أماني شنينو 28 عاماً، قالت:"كان في تشديد كبير للأمن، لدرجة بتشعر إنك بتعمل شغلة حرام أثناء مراقبتهم إل." الشابة جاد الله، تشعر أنا بحاجة لحضور هكذا مهرجانات فنية وثقافية، خاصة وأن أغلب حياتها عاشتها تحت الحصار والانقسام وهجمات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، لكنها شعرت بالأسف من كثافة وجود الأمن وتقييد حرياتها بالحركة والتصوير والوقوف داخل المهرجان، وتعتقد أن مهمة الأمن داخل المهرجان يجب أن تقتصر على فض النزاعات في حال حدوثها فقط، وليس التحكم بالجمهور.
وتسرد الزميلتان تعرضهما لموقف مع الأمن التابع لشركة خاصة أثناء إعدادهما لجولة مصورة خاصة بهم، وقالت إيمان: "كنا بنصور خاتمة أنا وزميلتي أماني لجولة إلا الأمن بحكيلنا يلا خلصوا بسرعة عشان تنزلوا بعد الشباب."
أما في اليوم الأول لحضور جاد الله، فسمعت شاب من الأمن يرفع صوته على فتاة كانت تجلس خلفنا، وهددها بالطرد من المهرجان، لكنها لم تستوضح السبب لقيامه بذلك، وفي رأيها أنه لا يحق له بأي حال من الأحوال رفع صوته على فتاة من الجمهور.
اتفقت أماني مع زميلتها في آراءها حول فكرة المهرجان وحاجتهم لهذا المتنفس والفن الذي يعبر عنهم وعن قضاياهم بمختلف أشكاله، ونوهت إلى أن هناك الكثير من الفرق الفنية الشعبية والموسيقية التي تحتاج إلى دعم من الجهات المسؤولة لتنمية قدراتهم وفتح الآفاق أمامهم بدلاً من تقييد الحريات والمنع وفرض الرقابة التي تحد من طموحاتهم.
وحول طريقة فصل الجنسين في الجلوس قالت: "أنا حسيت الفصل بين الجنسين كأنه إجراء عقابي لا داعي له، وفعلياً الشخص إلي حاضر مع أسرته أو خطيبته بهدف الترفيه عن أنفسهم لماذا يتم فصلهم، ولا أعتقد أن هناك أسباب دينية أو أخلاقية كافية أو مقنعة لفصلهم."
أما عن وجود الأمن الخاص وانتشاره، قالت شنينو: "أعتقد أن وجود الأمن كان على الباب كافي، ولا داعي لوجودهم بالمهرجان، شعرت أن وجودهم يتجاوز كونهم أمن وحماية ليكون سيطرة والتأكد من فصل الشباب عن البنات" وتابعت: "كان ناقص يبنوا سور الصين العظيم بطول عشرة متر."