FYI.

This story is over 5 years old.

كتب

تذكارات الكتب القديمة.. رحلتي للتنقيب عن آثار من نوع آخر

" لم أعد أبحث في الكتب القديمة فقط عن أفكار من كتبوها، بل أنقب كذلك عن أرواح من امتلكوها!"
Screen Shot 2019-03-04 at 3
كتب ومتعلقات قديمة في مكتبة لبيع الكتب القديمة بسور الأزبكية، القاهرة - جميع الصور مقدمة من محمود حافظ

هل تحب القراءة الكلاسيكية مثلي؟ أعني قراءة الكتب الورقية وليس عبر شاشات التابلت والجوال وسائر الوسائل الحديثة، إذا كنت كذلك فلم لا تصحبني في جولة بسوق الكتب المستعملة ببلدتك؟ لابد أن لديكم واحدًا. شكرًا لتلبية طلبي، ها نحن بين أكوام العلم والمعرفة والأدب، دعك من الكتب الحديثة قليلاً ولنفتش في التراث، أعني الكتب والمجلات العتيقة التي قد يربو عمرها على مائة سنة حتى اصفرت أوراقها وتجعدت.

دعنا نبحث هنا، تصفح معي هذه الكومة، وجدت شيئًا بين الصفحات؟ خطاب عتيق بخط مالك الكتاب!، تأمل التاريخ.. إنه يعود إلى ثلاثينات القرن العشرين.. مرحى!، لقد حصلت على تذكارك الأول من الكتب سريعًا، والواقع أن لي مع هذه التذكارات قصة أخرى شيقة، سأرويها لك بينما نكمل جولتنا بالسوق.

إعلان

طفل صغير وكتاب عجوز!
بدأت ولعي بالكتب منذ الطفولة، حين أدركت أن هذه الأوراق تحمل لي ساعات من الثقافة والتسلية، فسعيت لشرائها بمصروفي المتاح، ثم عرفتُ وسيلة أخرى سهلة ومجانية تُدعى "الاستعارة" أو السطو المسموح به!

لم أكذّب خبرًا وأسرعت باستغلال شرعي لأقاربي الكبار في الحصول على مجلاتهم وكتبهم القديمة بطبيعة الحال، فقد امتلكوها في صغرهم مثلي وظلت لديهم حتى زهدوا فيها مع انشغالهم بأمور الحياة، وهكذا جمعتُ قائمة ممتازة من الكتب العجوزة المصفرة.

1551698881076-1-5

خطاب عزاء بخط مواطن من الإسكندرية عام 1939

البعض يحبون كتبهم صقيلة لامعة خرجت لتوها من الكيس المضغوط، بل يرفضون كتابة الحواشي والتعليقات بها، أنا أنتمي للمعسكر الآخر، وأعشق آثار الزمن بداية من الملمس واللون وحتى الرائحة، بل إنني أتابع بشغف كلمة هنا أو هناك في أركان الصفحات تركها صاحب الكتاب منذ أعوام تعبيرًا عن شيء ما في ذهنه أو موقف تعرض له.

عرفتُ أن الكثيرين مثلي في هذا العشق، حتى أن متجر أمازون الشهير يعرض شمعة خاصة تصدر رائحة الكتب القديمة عند إشعالها!، ولكن متجر أمازون وغيره لا يملكون سحر أسواق الكتب التي عرفتها حين صرت شابًا فقررت إضاعة المصروف هناك!

في أروقة الأزبكية
البداية كانت من سور الأزبيكة، أحد أشهر وأقدم أسواق الكتب بالقاهرة إن لم يكن أشهرها على الإطلاق، وما يزال حتى اليوم مقصد القراء الباحثين عن كتب مستعملة أو جديدة بأسعار معقولة.

بالنسبة للكتب القديمة فالسور يحفل بما لذ وطاب منها نظرًا لعمره المديد، كل المطلوب مني أن أصبر حتى أجد بُغيتي وسط جبال الكتب، وبالتالي صارت زيارته طقسًا ثابتًا لي خاصة مع وجود محطة مترو بجواره.

جولاتي بالأزبكية كانت كقارئ عادي يبحث عن الكتب المميزة، حتى عثرتُ في مرة بالصدفة على نسخة عتيقة من رواية "سيرة شجاع" للكاتب علي أحمد باكثير، وفي منزلي تصفحتها لأجد أول تذكار ورقي في حياتي، بطاقة استعارة خاصة بمكتبة مدرسة مصرية احتل الكتاب مكانًا على رفوفها قبل عقود طويلة.

إعلان
1551698905071-2-3

بطاقة استعارة لكتاب يعود إلى مكتبة مدرسة مصرية عام 1961

البطاقة كُتب عليها تاريخ الاستعارة في عام 1979 أما الكتاب نفسه فقد ورد للمكتبة في نفس عام صدوره بتاريخ 22 أكتوبر1961 والختم الحكومي يحمل اسم "مدرسة مصر القديمة الثانوية النسوية"!.. لم تعد كلمة النسوية هذه مستخدمة في أسماء مدارس القاهرة الآن، بل إن الدولة كانت وقتها "الجمهورية العربية المتحدة".

ربما يستخف شخص آخر بالأمر، لكنني شعرتُ أنني بشكل ما أمام آلة زمن ورقية، هذه البطاقة أثر وتأريخ حقيقي يشبه طوابع البريد التي يجمعها الهواة، وقد تحمل لي الكتب تذكارات أخرى أثمن في المستقبل.. وقد كان!

مناجم من ورق
عثرتُ على بعض التذكارات بعد هذا بالفعل، لكنها لم تكن مثيرة للاهتمام في البداية، فحين توقعتُ مثلاُ أن أجد نقودًا عتيقة، كان أكبر مبلغ وجدته هو جنيه مصري واحد حديث، لكن على كل حال فالنقود القديمة موجودة لدى هواة تجميعها، فلنبحث عن تذكارات أخرى أهم.

1551698921221-3-1

صورة لطفل يرتدي طربوشًا في رأس البر عام 1932

وجدتُ الكثير من الصور الشخصية بالأبيض والأسود أو الألوان، لكنها لم تكن لشخصيات شهيرة وبالتالي فقيمتها ليست كبيرة، وهنا قررتُ أن اسأل تجار الأزبكية أنفسهم عن هذا الجانب من عملهم، هل يجمعون التذكارات من الكتب لبيعها منفردة؟

بعد جولة طويلة على الباعة، نفى أغلبهم اهتمامه بهذا الأمر، بل اعتبر بعضهم أن تفتيش الكتب قبل بيعها ضد الأمانة. رغم أن الكتب حين تصل للمكتبات يظهر من سماكتها وبروز أوراقها أن شيئًا داخلها، إلا أن أحد الباعة صرح لي أنه حتى لو وجد فيها نقودًا فسوف يعرضها للبيع كما هي، بينما قال لي آخر أنه يمزق ما يجده من تذكارات بلا اكتراث كأنها قمامة!

هناك نوع واحد محبب يطلبه الزبائن بالاسم وهو الكتب الموقعة من مؤلفيها، كرواية لنجيب محفوظ مثلاً مزينة بتوقيعه وإهداؤه، ولكن عدا ذلك فالعميل لا يهتم وكذلك البائع، كان هذا كله قبل أن أقابل محمود صادق، أحد أشهر هواة مناجم الكتب.

إعلان

هواية بالوراثة
يمتلك محمود صادق الشاب الثلاثيني، إحدى مكتبات سور الأزبيكة، ورثها عن جده الذي كان يمتلك مطبعة باسمه في بدايات القرن الماضي، عندما كان بائع الكتب يسمى "كتبجي" وحين تسلم محمود المكتبة من أبيه قرر أن يتميز في شيء هام لا تشاركه فيه بقية المكتبات التي يصل عددها إلى 133 مكتبة بالأزبيكة.

نقطة تميز محمود كانت محور بحثي وهي الكتب القديمة تحديدًا، خاصة التي ترجع إلى العشرينات والثلاثينات وما هو أقدم، وبمجرد أن تدخل مكتبته حتى تطالعك مجلات مثل "المصور" و"الجديد" و"المختار" وغيرهم من نفائس الزمن.

1551698947373-4-2

محمود صادق في مكتبته بسور الأزبكية

أخبرت محمود مباشرة عن فكرتي المختلفة، أنا لا أبحث عن الكتب بل عن الهدايا المختبئة فيها، ولم يخيب التاجر المخضرم ظني، فقد وجدتُ لديه حكايات شائقة عن تذكارات الكتب، خاصة أنه يهوى تجميعها فعلاً ولا يتخذ عمله بالمكتبة مجرد حرفة للمكسب وإنما شغف ذاتي.

حكى لي بداية كيف تصل إليه بعض شحنات الكتب المليئة بالكنوز، فقد تُباع مكتبة كاملة لقارئ مخضرم بعد موته، وبالتالي يجد محمود فيها كل ما يخصه بداية من نقوده وحتى خطاباته الشخصية، فماذا لو كان القارئ الراحل مالكًا لكتب مهمة امتلكها آخرون قبله، والكتاب بهذا ينتقل من مالك لمالك آخر حتى وقع في يد محمود بما فيه من الهدايا.

1551698962142-5-2

غلاف لبرنامج الاحتفال بعيد النصر في مدرسة مصرية عام 1957

سألتُ محمود مباشرة عن أغرب تذكارات وجدها في الكتب، فذكر لي قائمة طويلة وعجيبة، منها مثلاً تذكرة ترام تعود لما قبل عام 1900 حين بدأ تشغيل السكة في القاهرة، ومنها عقد بيع يعود لسنة 1919، وفي مرة أخرى وجد دعوة لحفل زفاف الملك فاروق على زوجته الثانية الملكة ناريمان.

وماذا عن الخطابات؟ فاجئني محمود بقوله إنه يملك خطابات مغلقة لم يفتحها، فقد قرأ ذات مرة خطابًا عتيقًا يصف حادثة قتل، ولا يعرف حقيقة المكتوب أهو خيال أم حقيقة، وفي مرة وجد مجموعة خطابات كاملة مرسلة من مواطن مصري إلى آخر سعودي في خمسينيات القرن الماضي.

إعلان

يرفض محمود كذلك أن يشتري أي مخطوطات قديمة تجنبًا للشبهة القانونية والمصادرة، أما المرة التي لن ينساها فهي حين وجد أوراقًا تحتوي طلاسم سحرية أخافته بشدة، فما كان منه إلا أن أحرقها كما نصحه أحد العارفين بهذه الأمور، خاصة بعدما طلب منه زبون متحمس شرائها لاستخدامها.

1551698985467-6-1

جدول الاحتفال بعيد النصر في مدرسة مصرية عام 1957

صحيح.. كيف يبيع محمود صادق تذكاراته هذه؟ أخبرني بنظرية خاصة لديه، هو لا يبيعها إلا للهواة فقط، ولا يعطيها أبدًا للتجار، لأن الهاوي سيحتفظ بالتذكارات لديه ويورثها لأبنائه، أما التاجر فسوف يبيعها لآخر حتى تزداد قيمتها كأي سلعة أخرى.

حين سألت محمود عن أغرب التذكارات جذبًا للجمهور أخبرني أنها الورود، فبعض الكتب تحتوي وردة وضعتها فتاة كذكرى لحبيبها من 50 سنة مثلاً، وهذا ما يدفع البعض لشرائها على سبيل الروح الجميلة والرومانسية.

لكن لحظة.. هل تقتصر فائدة التذكارات على القيمة الروحية والجمالية؟ ألا يمكن لها أن تؤرخ بالفعل وتحدث تغييرًا حقيقيًا في نظرتنا لشخصية معينة أو حدث ما في تلك العصور السحيقة؟ وهنا قررت أن أبحث عن هواة الكتب القديمة أنفسهم وليس التجار، لأجد قصة أخرى شيقة في هذا الصدد.

عاشق التراث
الباحث والكاتب أيمن عثمان معروف في الوسط الثقافي بعشقه الشديد للمجلات والكتب القديمة، بدأ تجميعها منذ عام 2011 حتى صار لديه أرشيف ضخم يضم أكثر من 10 آلاف مجلة، والهدف ليس مجرد تجميع هذا التراث وإنما فهم التاريخ وقراءة الأحداث في الوقت الذي حدثت فيه.

يسعى أيمن عثمان لتثقيف مجتمعه في هذا التخصص ولديه صفحة بعنوان «تراث مصري» على موقع فيسبوك تضم أكثر من 230 ألف مشترك، كما أصدر كتابين بنفس اسم الصفحة بجانب كتاب آخر عن الجيل الذهبي من الوسط الفني بعنوان "مشخصاتية مصر".

إعلان

كالمتوقع فاجئني أيمن بما يمتلكه من تذكارات فريدة للكتب وأرسل لي كافة صور التذكارات هنا بخلاف واحدة فقط لي، غير أن قصته مع أحد هذه التذكارات كان أكثر إثارة للاهتمام، والقصة تبدأ من تصفحه إحدى مجلات "الكواكب" القديمة التي تخص الموسيقار أحمد فتحي الشهير في فترة أربعينيات القرن الماضي.

وجد أيمن عثمان ورقة مدسوسة في المجلة بخط يد الموسيقار، مكتوب فيها ملحوظات قليلة مختصرة عن الممثل والمسرحي الأشهر نجيب الريحاني، ونهاية هذه الملحوظات كانت رقم إحدى أعداد مجلة الكواكب في الثلاثينيات.

1551699027665-8

أحد أغلفة مذكرات نجيب الريحاني الموجودة حاليًا

بالعودة إلى العدد المذكور في الورقة اكتشف أيمن عثمان أن الريحاني كتب مذكراته الكاملة على هيئة حلقات في المجلة، وبتجميع أعداد المذكرات جميعها وصل عددها إلى 57 حلقة، رغم أن المذكرات المتاحة للريحاني حاليًا في الكتب لا تتخطى 22 حلقة.

الورقة المدسوسة قادت إذن لكشف العدد الكبير والأصلي من مذكرات الريحاني التي ظلت مختفية لسنوات رغم ما فيه من حقائق هامة عنه وعن مشواره يحكيها بنفسه، هذه الحقائق أخفاها من أعاد نشر سيرته ربما لخطورتها أو لتجميل صورته وجعله مثاليًا في عين جمهوره، ولكن أيمن عثمان عرف الحقيقة حين قرأ الأعداد كاملة بفضل ورقة الصدفة.

هل من مزيد؟
والآن.. لنعد إلى سوق الكتب الذي زرناه في البداية، هل تظن أن المزيد من التذكارات القيمة بانتظارنا بين الصفحات؟ هل نجد في مرة رسالة هامة بخط يد أحد الزعماء مثلاً؟ ماذا عن شهادة تاريخية كتبها مواطن محايد تحدث فرقًا في تصورنا وسجلاتنا عن فترة ما؟ أو تقودنا لكشف آخر كما حدث مع الريحاني؟ تخيل لو وجدنا قصة لم تنشر لأديب عظيم أو مقال خطير ممنوع لصحفي راحل؟

هل تستغرب الأمر؟ حتى على سبيل جمع هذه الآثار الورقية، لو فتحت موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية لوجدت أن بعض الأرقام تخص هواة تجميع الأشياء الغريبة مثل البط الملون، وقوائم أطعمة المطاعم وخلافه، فهل يمكن أن نضم لها تذكارات الكتب أيضًا؟

1551699066149-10-1

قائمة الطعام لحفل بنادي السيارات المصري عام 1950

الأكثر إثارة أن عشاق التراث يقيمون هذه الأشياء، حتى أن رسالة بخط يد العالم الفيزيائي ألبرت آينشتاين بيعت في أحد المزادات بـ 3 مليون دولار!

الآن دعنا نكمل جولتنا بالسوق الذي يضم كتبًا تحمل أكثر من مجرد أفكار من كتبوها، بل تحمل أيضًا أرواح من امتلكوها، والصدفة وحدها قد تهدينا مفاجآت عظيمة لمن يقدرها في تذكارات قيمة بانتظار من يجدها.