رأي

في وداع سمير سيف.. أستاذ الأفكار "العميقة" في القالب "الخفيف"

لم تخل السينما التي قدمها سيف من متعةٍ وتسلية، مع احتفاظها بفكرةٍ هامة، ورؤية عميقة
ayaa

مع بداية 2019 قررت وضع حلمي بدراسة الإخراج السينمائي موضع التنفيذ، وقادني حظي إلى ورشة الدكتور سمير سيف لصناعة الأفلام. بعد بحثٍ في تاريخه وجدته صاحب أكثر الأفلام التي تعلقت بها في طفولتي، وبعد إعادة مشاهدة أفلامه، توقفت مع "الغول" في مشهد مدته ثوانٍ للفنان عادل إمام.. لم يكن عادل إمام هو عادل إمام، كان شخصًا آخر بخلاف ما تعودناه من فناننا العملاق، هنا قررت: لا بد أن يعلمني هذا الرجل! لقد أخرج عادل إمام من عادل إمام! واو!

إعلان

بدأت ورشة الدكتور سمير سيف للإخراج، وكانت المحاضرة الأولى تأملًا لغويًّا لكلمة "مخرج" بالعربية والإنجليزية والفرنسية، ودلالة كل لفظٍ بما يرينا جانبًا هامًّا لتلك الوظيفة الساحرة. دخل الدكتور رأسي من أكثر شيء أحبه في العالم: اللغات. استمرت الورشة لتعرض لي جوانب هامة من الأسلوب السينمائي للدكتور سمير سيف. فهو أحد أهم مخرجي مصر المعاصرين، بـStyle مختلف ومتميز، فلم تخل السينما التي قدمها من متعةٍ وتسلية، مع احتفاظها بفكرةٍ هامة، ورؤية عميقة، وقد قدم هذا حتى في أكثر الأفلام خفة. في "احترس من الخط" (1984) نرى الشاب خلوصي -عادل إمام- مصدومًا ويريد الانتحار، فيستأجر قاتلًا يقوم بالمهمة، لكن القاتل ينصحه بالتروي وفبركة انتحاره ليرى كيف ستسير الدنيا من بعده، فإن أعجبه الوضع انتحر فعلًا، وإلا فليكسب حياته ويديرها بشكلٍ أفضل. هذه الفكرة العظيمة التي شغلتنا جميعًا في فترةٍ ما (كيف سيسير العالم بعد موتي؟) قدمها سمير سيف في قالب كوميدي عظيم، أضحكني كثيرًا في طفولتي، وجعلني أتأمل حياتي وأنا ناضجة.. بنفس المتعة.

لقد غلَّف سيف أفكارًا فلسفية شديدة العمق بقالب خفيف وصل لجميع المشاهدين، على اختلاف مستوياتهم الفكرية، وتذوقوه بشكلٍ مختلف باختلاف مراحلهم العمرية

بسبب توازنها بين الفكرة الهامة والقالب الذكي، تعتبر سينما سمير سيف من المشاريع القليلة التي لاقت قبول الجمهور والنقاد معًا، وأشارت إلى قضايا هامة ما زلنا نعانيها حتى اليوم. ففي مشهدٍ من "آخر الرجال المحترمين" (1984) يرفض المدرس (نور الشريف) حجز غرف غير مريحة للأطفال، مؤكدًا أن معاملتهم بإنسانية أولوية لا تنازل عنها، لأنهم في سنٍ لا تؤهلهم لمواجهة قبح الحياة واستهانتها بهم. يعالج الفيلم قضايا أخرى هامة، لكنني طالما تذكرت هذا المشهد خصوصًا أمام تكدس الأطفال في الحافلات المدرسية، والفصول الفقيرة، وقسوة الشارع عليهم، وأتساءل كم طفلًا تحول إلى وحش في نضجه لأن المجتمع لم يرفق به مبكرًا؟!

إعلان

إضافة إلى كل هذا، كان الدكتور سمير سيف قارئًا عظيمًا، ومن هنا كان تفاهمي الشديد معه، وحبي الكبير له، امتلك معرفة واسعة بعلم النفس، وتاريخ الأديان والأساطير ليخلق قصصًا قوية ومؤثرة، كما في "سوق المتعة" (1999)، الذي عالج قضية الإنسان الأزلية - المعرفة المؤدية إلى الهلاك. ولفت انتباهي استلهامه لأحداث تاريخية بذكاء، كالمشهد الأخير من فيلم "الغول" (1983) الذي استوحى اغتيال الرئيس السادات، بصيحة "مش معقول" وإلقاء المقاعد.. هذه اللمسة جعلت للمشهد طعمًا مختلفًا، وأثارت تأملي، ككل أعماله التي استوقفتني بأبسط تفاصيلها. كنت أخمن السبب الذي يجعله يختار هذه التفاصيل، وبعدما درست معه أصبحت أعرف السبب، ولم تنته المتعة. لقد غلَّف أفكارًا فلسفية شديدة العمق بقالب خفيف وصل لجميع المشاهدين، على اختلاف مستوياتهم الفكرية، وتذوقوه بشكلٍ مختلف باختلاف مراحلهم العمرية.

1575983647000-

مع كلاكيب فيلم "معالي الوزير"

أكثر ما سأفتقده هو النميمة السينمائية مع الدكتور سمير سيف، فقد شاركنا كثيرًا منها ليلفت نظرنا لطريقة إدارة العمل أو تجاوز بعض الأخطاء. حدثنا مثلًا عن اعتذاره عن التعاون مع نجمـ/ـة ما، لإدراكه أنهما سيختلفان بحدة، فذهب الفيلم إلى مخرجٍ آخر وحدث ما توقعه، وتحول اللوكيشن إلى ساحة حرب.. كان هذا درسًا ثمينًا "لا تعمل مع من ستكرههم ويكرهونك" ورغم التزامي بهذا طوال حياتي، فقد شعرت براحةٍ غامرة لأن الدكتور أكده لي. لم أسمع نهائيًّا عن الفيلم موضع النميمة، وتأكدت أن عملًا يكرهه أفراده لن ينجح أبدًا.

في آخر محاضراتنا صارحته بمشروعي السينمائي، وأني قابلت شخصًا يلهمني، ونتناغم في العمل لدرجة تنبئ بمشروعٍ عظيم إذا تعاوننا، قلت له: "أنا مش عايزة أسيبه" فأجابني: "خلاص، ما تسيبيهوش." صارحته أيضًا أن ضخامة أحلامي ترعبني، وسألته: "هو أنا مجنونة يا دكتور؟ إني أحلم بكل ده في البداية؟"، فقال لي: "لأ.. We aim High." لدي ألف سبب يجعلني أحب الدكتور سمير سيف، قد يكون هذا أهمها: لقد فهم هوسي بالكمال، وكان أحد شخصين عرفتهم في عمري كله تصالحوا معه، وطالما كرر علينا: "نحن ننشد الكمال لنحصل على الامتياز." جعلني أصدق مشروعي، وانكببت عليه طوال أشهر الصيف، بمواصلة دراسة الإخراج، وبدء دراسة التمثيل، والانتهاء من أول سيناريوهين روائيين طويلين. تعثرت أحيانًا وعشت أوقاتًا صعبة، لكنني رددتُ دومًا: We aim High، وواصلت العمل.

يقولون: "اللي خلّف ما ماتش" وأقول أنا: "اللي علِّم ما ماتش." رحل الدكتور سمير سيف، لكن علمه سيبقى

لم أتواصل مع الدكتور في الشهور الأخيرة، وانتظرت أن نلتقي مجددًا في مهرجانٍ سينمائي ما، ليرى نتيجة ما تعلمت منه. يؤلمني للغاية أن هذا لن يحدث، ويؤلمني أن لا مزيد من حكاياته ونميمته وأفكاره، لكن وكما أخبرنا بنفسه: "الفن يعبر عن صاحبه.. لو شاهدت فيلمًا لشادي عبد السلام، فكأنك جالست شادي عبد السلام." لهذا سأكتفي بمجالسة أفلامه، ومحاضراته، عزاءً أخيرًا عن معلمي الرائع.

درست كثيرًا جدًّا في حياتي، لكنني لم أختبر دراسةً أمتع مما عشتها مع الدكتور سمير سيف، كان معلمًا ثريًّا جدًّا، وكريمًا جدًّا، لم يبخل علينا بتسجيل ما يقول -بخلاف أغلب العاملين في المجال- وأغدق علينا بمصادر المعرفة، والمعلومات، وأثرانا بخبرته، وبمراجعة مسوَّدات أعماله، وتفاصيل كثيرة يدهشني تسامحه مع إظهارها لطلبة عابرين، غير أكاديميين، مثل دفعتي! اختصر عليَّ ما كنت بحاجةٍ لسنواتٍ كي أحققه لأنه أراني صناعة السينما من أعماقها، بصدقٍ وأمانة. يقولون: "اللي خلّف ما ماتش" وأقول أنا: "اللي علِّم ما ماتش." رحل الدكتور سمير سيف، لكن علمه سيبقى، وسنرى صدى عظيمًا له خلال سنوات. رحمة ونور لروحك الطيبة يا أستاذي العزيز جدًّا.