IMG_9862
مسكون

قصة حمام الذهب والجن الأحمر خاطف الصبايا في تونس القديمة

مع كل محاولة كسر، كان صوت حبيبته يخفّ شيئا فشيئا إلى أن توقف نهائيًا

مسكون: في هذه السلسلة نسترجع قصصنا العربية الموروثة كجزء من استعادة السردية، بعيداً عن صحتها أو مدى إيماننا بالجن أو قوى ما فوق الطبيعة. هذه القصص تظهر كيف تتشابك التقاليد مع الدين مع عالم الموارئيات مع الترفيه.

يختلط الإطار المكاني الواقعي بالقصص الخرافية المبنية على التراث في واقعة خطف الفتيات في حمام تونسي قديم من قبل الجن الأحمر، مما أدى إلى تغيير اسم الحمام الواقع في المدينة العتيقة بتونس العاصمة من "حمام الرميلي أو حمام الذهب" إلى "بلاع الصبايا" أو آكل البنات حسب اللهجة المحلية.

تكشف الذاكرة الشفوية للأساطير المنتشرة في الأوساط الشعبية عن قصتين أو "خرافتين" تتشاركان في البعد الأسطوري والعجائبي للحمام، ولوجود الجن كتجسد فانتازي للشخصية المعرقلة والمخيفة لأحداث وقعت منذ مئات السنين.  وقد ارتبط الحمام بشخصية الجن الأحمر الذي يعكس لونه التصور التقليدي المرتبط بالشر والمنبثق من الفكر الديني الإسلامي الذي يؤمن بخلق الجن من مارج من نار، وبسبب ذلك توارثت الأجيال الإعتقاد بأن الجن مخلوق من نار وأن لونه أحمر اللون نتيجة لذلك. 

إعلان

الخرافة الأولى

تدور أحداث الخرافة الأولى حول أم جشعة أخذت إبنتها إلى حمام سيدي محرز الموجود قرب ضريح الولي الصالح سيدي محرز في تونس، وبينما المرأة وابنتها تستحمان، رأت الأم ذهباً يلمع في الحوض، فأمرت ابنتها ذات الشعر الطويل بالنزول للقاع والتقاط صفائح الذهب، وكانت الصبيّة كلما أخرجت بعض السبائك الذهبية، كانت الأم تطلب منها المزيد، رغم أنها كانت تترجى والدتها أن تتوقف عن جمع الذهب، لأنها تشعر أن هناك جنيًا يسحبها بقوة تحت الأرض، لكن الأم لم تعبأ لصراخ ابنتها، وواصلت طلب المزيد من الذهب.

لم تدرك الأم ما فعلته سوى بعد أن ابتلع الحوض ابنتها، التي لم يتبق منها سوى شعرها المنسدل على السطح. ولمزيد من الدراما، كان شعر الفتاة التي ابتعلها الحمام يعود للظهور كل أسبوع، وكانت الأم تذهب لزيارة الحمام في الأيام المصادفة لظهور الشعر من أجل قصه وإخفاء آثار الحادثة التي وقعت لإبنتها، حتى اختفى تماماً.

الخرافة الثانية

أما القصة الثانية المشهورة حول هذا الحمام وقد تكون أكثر تشويقاً من الناحية القصصية، فتدور حول قصة حب لم تكلل بالنجاح، وإنما بفاجعة كبرى. يقال أن شابًا وسيما أغرم بإبنة عمه التي كانت شديدة الجمال ومحط أنظار جميع شباب المدينة. نشأت قصة حب بينهما، ونمت مشاعر الحب والألفة التي كان يجب أن تنتهي بالزواج تجنبًا للقيل والقال. طلب الشاب يد الفتاة من قبل أقربائه وكان الرد إيجابيًا. أقيمت الإحتفالات وانتصبت الطبول والخيول وحضرت الأغاني ورقصات الابتهاج والفرح معها.

في يوم الزفاف، كان على الفتاة وصديقاتها وعائلتها من النساء الذهاب إلى الحمام لتجهيزها، وهي عادة قديمة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من مراسم الزواج في تونس اليوم. سبقت العروسة المستقبلية النساء الأخريات إلى الحمام لتحضير نفسها، وعندما لحقت الفتيات بها فوجئن بأن الحمام كان فارغاً، وأن العروسة قد اختفت تماماً.

هرع الحبيب إلى الحمام، وكلما كان ينادي حبيبته بإسمها، كانت تجيبه بكل وضوح دون أن يكون لها أي أثر في المكان. أخبرت العروسة حبيبها بأن الجن الأحمر قد اختطفها وحبسها بين جدران الحمام وأنها عاجزة عن التحرك. أحضر العريس ورجال آخرين بعض الفؤوس، وحاولوا كسر حيطان الحمام التي كانت تزداد صلابة، ومع كل محاولة كسر، كان صوت حبيبته يخفّ شيئا فشيئا إلى أن توقف نهائيًا.

إعلان

بعد مرور بضع أشهر على هذه الحادثة، هلع صاحب الحمام بعد أن نبت شعر أسود كثيف من الجدارن، سارع إلى قص الشعر الغزير وإلى إحراقه بنار غرفة المياه الساخنة دون إخبار أي أحد خوفًا من قطع رزقه. تكررت هذه العملية لفترة من الزمن إلى أن توقف خروج الشعر نهائياً، ويقال أن ذلك يعني أن الفتاة قد ماتت فعليًا بين الجدران.

ولكن على الرغم من محاولات صاحب الحمام إخفاء ما حدث، انتشرت أسطورة الجن الأحمر الذي يخطف النساء العازبات ويحبسهن بين جدرانه. وتحكي الأسطورة إن كل يوم موافق لذلك اليوم من كل عام، يبتلع الحمام كل صبية تذهب إليه، حتى أمر الباي أو الحاكم آنذاك بمنع النساء من دخول ذاك الحمام خوفاً من مصير مشابه لبطلتي الخرافتين.

أصبح "بلاع الصبايا" جزءاً مهمًا من الفلكلور الشعبي التونسي، ومنذ ذلك الوقت، امتنعت النساء عن الذهاب إلى حمام الذهب وفعلاً، أصبح الحمام مقتصراً على الرواد الرجال منذ 400 سنة، ولا يزال كذلك لليوم بسبب تعلق الذاكرة الشعبية بهذه القصص العجائبية والمخيفة. وعلى الأرجح فإن للقصة جذور واقعية مرتبطة بعملية اختفاء غير مفهومة سرعان ما اندمجت بالخرافة والأسطورة لمحاولة فك غموضها.

ولكن ما رأي التونسيون من سكان المنطقة بقصة الحمام بلاع الصبايا؟

تقول ليلى الطرابلسي، 24 عاماً، من حي باب سويقة بالمدينة العتيقة عن هذه الأسطورة :"ينتابني الخوف أحيانًا عند مروري أمام الحمام. منذ طفولتي ارتبطت صورة الحمام بالذعر والرعب والممنوع، ورغم أنني لا أصدق الخرافات عامة، إلا أن قصة إختفاء أو بالأحرى موت الفتاة تجعلني أشعر بالقشعريرة لغرابتها وسوداويتها، ربما أيضًا بسبب بساطة سردها وكونها جزءاً هامًا من هذه المنطقة."

محمد غريبي، 36 عاماً، من نفس المنطقة، لا يعتبر أن قصة الحمام خرافة، ويضيف: "قد تتغير المعطيات نتيجة تواتر القصة عبر الأجيال، ولكن من العبث تخيل أن التراث التونسي قد نسج قصة من وحي الخيال من دون أن تكون هنالك حادثة خطف أو موت حقيقية. إن لم يكن الامر كذلك، لما بقيت القصة شاهدة على وجود هذا الحمام. لا يجب علينا أن نشك في ذاكرة أجدادنا فهم لم يكونوا أغبياء، بغض النظر عن التفاصيل، علينا أن نشيد بحبكة القصة وأثرها الشاهد على المدينة العتيقة."

بسمة الشافعي، 47 عاماً، من منطقة الحلفاوين بالعاصمة تونس، تصدق قصة الحمام والجن الأحمر كذلك: "أؤمن بالجن وبوجوده، فهو مذكور في القرآن، ولا شك بأن سكان هذه المنطقة منذ قرون قد آمنوا به أيضاً، ولذلك لا أكذب القصة مباشرة بناءً على وجود هذا العنصر الماورائي. على كل حال، ذلك الحمام موبوء وقد تسبب في ذعر تناقلته أجيال. الحمام مفتوح للرجال فقط، وأجزم بأن النساء لن يذهبن له لو أتيحت لهن الفرصة."

عدنان بن محمد، 26 عاماً، من منطقة باب الخضراء العتيقة، لديه تصور آخر مبني على الإشادة بحبكة القصة دون الإيمان بها: "القصتان مبتكرتان حقًا ويعكسان مخيالاً مبدعًا. من الملائم جداً في ذلك الوقت أن يتم لوم الجن الأحمر عند اختفاء فتاة ما -ولكن يبدو أن الجن أخذ إجازة طويلة ولم يعد يقوم بخطف الفتيات من الحمامات."

تم تحويل هذه القصة إلى أعمال أدبية دمجت الواقع والخرافة، وعكست بعض الوقائع التاريخية. وقام الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب في روايته "حمام الذهب" باستخدام قصة الحمام للحديث عن واقع الأقلية اليهودية في المدينة القديمة، حيث تنطلق الرواية من لغز الحمام ومحاولة الشخصية الرئيسية "هيلين" إكتشاف جذورها الضائعة في المدينة العتيقة، وتنتهي القصة بابتلاع أرض الحمام لها.