في عامي الأول في المدرسة الثانوية في دمشق، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها باليوم العالمي للغة العربية عندما أقامت مدرستي فعالية بهذه المناسبة. طلبوا منّا المشاركة بنصوص لإلقائها أمام جمع من الطلاب والمدرسين. وبالفعل بدأنا بالاستعداد جيداً، ومن ضمن الاستعدادات كانت عمليات تبادل الكتب تجري بين الطالبات للحصول على لغة جيدة من هذه الكتب. لم تكن الكتب محددة، بين روايات عبير وأعمال إحسان عبد القدوس ودان براون وأحلام مستغانمي وبعض الكتب الدينية الموجهة للفتيات وأي كتاب يمكن أن نحصل عليه بسهولة من أي مكتبة قريبة. كان يكفي أن تكون اللغة موضوعة داخل كتاب لتكون صالحة لتزيين المناسبة، مهما كان هذا الكتاب وحتى إن كان مترجماً بشكلٍ سيء، المهم إنه كتاب.خلال سنوات المدرسة في سوريا، وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي تم ايلائها للغة العربية، لم يستطع المعلمون جعلنا نفهم ما الذي يريدونه من يوم اللغة العربية أصلاً. كان المعلمون يطالبوننا بأن نقدّس لغة الضاد بشكلٍ كان يُشعرنا بأنها غاية بحد ذاتها وليست أداة تواصل، ويطالبوننا بأن نشحذ كل ما نملك من معرفة في موضوع نصف فيه الغروب أو النملة العاملة، والأشطر هو من يعود للكتب القديمة ليستخدم كلمات منها لتزيين موضوع التعبير الخاص به. كان هذا مذهلاً للمعلمين، ومنفراً لنا.ولكن ما هي اللغة العربية، بشكل مجرد، هل هي الأدب الكلاسيكي؟ أم الكلام اليومي؟ كان الأدب أكثر إثارة للاهتمام وهذا ما أثبتته الفعالية، أما كلامنا اليومي العامي، فنحن بلا شك نحبّ أن نحرره من سلطة الأخلاقيات اللغوية التي تطالبنا باحترام قد لا نشعر بضرورته. اللغة العامية في النهاية تحدد من نحن كأشخاص، تحدد اختلافنا، مقارنة بالفصحى التي تجعلنا في قالب واحد، نشبه بعضنا البعض، ونتحدث بنفس الضمة والفتحة والكسرة. الأمر الآخر الذي يتعلق باللغة العربية هي أنها تحتاج تعباً ودراسة أكثر، وخاصة عند مقارنتها باللغة الإنجليزية. لم يحتج معلمو اللغة الإنجليزية لأي إثباتات وخطابات، لم تكن اللغة همّاً، كان يكفينا أن نكتب موضوعاً عن رحلة إلى البحر أو رسالة إلى صديقنا المسافر. ببساطة تامة نخترع رحلات لم نذهبها وأصدقاء لم نعرفهم، ونذهب بهذا إلى الخيال بعيداً، وبخفة من يطير في منطاد. كما يمكننا استخدام أي كلمات تعلمناها من الأفلام أو الأغاني، لأن ما يهم معلم اللغة الإنجليزية هو التمكن من التواصل في الحد الأدنى وليس قراءة شكسبير. لم يكن هذا مسموحاً في مواضيع التعبير في اللغة العربية، كان علينا أن نصف الغروب بتفصيل ممل نكرهه، والسبب في ذلك يعود لكونها لغتنا الأم وعلينا أن نكون متمكنين منها بشكلٍ كبير، بشكل يتسع لما هو أكثر من رسالة إلى صديق. أتساءل لو أن اللغة العربية كانت وسيلة لرحلة في الخيال بدلاً من أن تكون رحلة الخيال هي الوسيلة للوصول إلى اللغة، ألن يكون هذا مقبولاً أكثر للطلاب الصغار؟ قنوات الأطفال التلفزيونية استطاعت أن تحقق ما عجز عنه معلمو المدارس، تقديم محتوى ممتع باللغة العربية يجعلنا نسمع كثير من الأطفال الصغار يتحدثون العربية بشكلٍ جيد، دون أن يصرخ أحد بوجههم بطريقة عسكرية. ماذا لو عدت إلى فعالية مدرسة في يوم اللغة العربية كمشرفة هذه المرة لا طالبة رُفض نصها؟ عليّ أن أعترف أن أول ما تبادر إلى ذهني هو النصائح وتقديمها بشكل مسرحية ربما، لكن بعد قليل من التفكير ربما سأقترح نشاطاً تحريرياً لنصوص يكتبها الطلاب عن أي شيء يرغبون فيه. النشاط التحريري سيهدف إلى توضيح أهمية معرفة اللغة لإيصال المعنى المراد، وما قد تفعله الأخطاء من سوء فهم لحكاياتنا، وبالتأكيد لن يكون هناك أي صراخ حول أهمية إنقاذ الحضارة والدين وكأننا في ساحة معركة.ربما سأضيف شيئاً أخيراً يشرح أهمية اللغة في فهم العالم، اللغة بشكلٍ عام، واللغة العربية بشكل خاص لأنها اللغة التي نتحدثها وليس لأنها تحمل قداسة معينة. كيف يمكننا تطويع اللغة لنفهم ما يجري؟ كلمة "تنمر" مثلاً هي كلمة حديثة نسبياً لكنها استطاعت التعبير عن مشكلة كان يتم التعبير عنها بطرق أكثر تعقيداً، وكذلك كلمة "تطبيع" واستخدامها السياسي، وهذا سيساعد في معرفة كيف يتم تحديث اللغة لتواكب الأحداث، وربما بعض المقارنات البسيطة بين كتب قديمة وكتب حديثة لمعرفة الفرق بين العربية القديمة والحديثة.من بين الطلاب الذين حضروا تلك الفعالية لم يكترث أحد للغة سوى المجموعة التي كانت تتداول قصائد الغزل والروايات العاطفية والبوليسية والمغامرات سراً من تحت المقاعد. كانت اللغة في هذه الكتب البسيطة وسيلتنا للتواصل مع العالم، وطوّرناها مع رغبتنا في تطوير هذا التواصل وهي تطورت بفعله. كان لدينا سرنا الصغير الذي اكتشفناه وهو أن اللغة العربية ليست موضوع تعبير وصفي عن الغروب فقط. هي أعمق وبنفس الوقت أبسط من ذلك. اللغة المقدسة التي لا تقبل أي تجديد لن تستطيع فهم ما هو جديد، ولكن لا شك أن الانقطاع عن اللغة القديمة سيجعلنا عاجزين عن فهم الماضي، لذا لابدّ من معرفتها أيضاً… معرفتها وانتقادها وليس بالضرورة تقديسها.
قمت بتحضير النص الذي أريد أن أحتفي باللغة العربية من خلاله، كنت واثقة منه، مع إني لا أذكر أبداً عمّ كان يتحدث، وكانت صديقتي تحضر نصها في الوقت نفسه. في اليوم المنشود، عرفت أنّ نصي لن يشارك، مع ذلك أخذت على عاتقي أن أهتم بهذا اليوم رغم كل شيء وأن أستمع للنصوص الباقية وأفكر فيها.أتذكر اثنين من النصوص بشكلٍ جيد، أعتقد أنهما يمثلان وجهتي نظر يمكنني أن أفكر فيهما حتى الآن. النص الأول كان أدبياً عاطفياً، يتحدث عن الحب في مجمله بلغة رومانسية يمكنني أن ألتقط أنها مقتبسة عن روايات عاطفية. حظي النص بإعجاب الطالبات وبقين يتحدثن عنه حتى الآن عندما نقيم بعض اللقاءات التذكارية. لم يكن شيئاً سهلاً أن يحوز نص في يوم كهذا على إعجاب مراهقات يرغبن في دراسة الطب والهندسة ولا يجدن أي جدوى من دراسة اللغة العربية، لكن هذا النص فعل، لأنه لامس عواطفهن، ووجدن أن اللغة يمكن أن تستعمل لشيء كهذا بعيداً عن الكلمات القادمة من المعاجم القديمة.النص الثاني كان خطابياً. صاحبته ألقته بنبرة خطاب انفعالية وغاضبة. أرادت أن تحاول إنقاذ اللغة العربية من خلال توعية الطالبات لأهمية أن نعبّر عمن أنفسنا بشكل يناسب هويتنا. كانت تصرخ: قولي شكراً ولا تقولي ثانكيو! قولي يا الله ولا تقولي أوه ماي غاد! وألحقت مجموعة التصحيحات هذه بكلام عن أهمية الحفاظ على لغة القرآن وعدم تقليد الغرب. كان الكادر التدريسي سعيداً وفخوراً بهذا الخطاب، لكني رأيت تململ بعض الطالبات، واستطعت سماع بعض التعليقات الساخرة. هذه التعليقات جعلتني أشعر بالسعادة لكون نصي قد رُفض ونجوت من تعليقات سيئة قد تلاحقني طوال حياتي.
مقارنة بالعربية، لم يحتج معلمو اللغة الإنجليزية لأي إثباتات وخطابات، لم تكن اللغة همّاً
إعلان