غزة

فليكر

رأي

أنا من هناك. أنا من المجدل

لم أستطع الحصول على تصريح يسمح لي بتجاوز حاجز "ايرز" منذ 12 عاماً، فما بالك بالعودة الى المجدل

قبل 33 عامًا، وتحديدًا عام 1986، ولدت بمدينة غزة في فلسطين، نشأت وترعرعت فيها حتى يومنا هذا. في بداية التسعينيات من القرن الماضي، تفتحت عيناي أثناء احتلال إسرائيل لقطاع غزة، أذكر مشاهدًا من اعتداءاتهم الوحشية على الشبان، واعتقالهم ومنعنا الخروج من منازلنا لعدة أيام بحجة منع التجول أو الطوق الأمني كما كان يطلق عليه.

وفي عام 1991 سجلني والدي في المدرسة القريبة من منزلنا، وهي مدرسة تتبع لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين. في البداية كنت أعتقد أنه سجلني بها لقربها من منزلنا فقط، لكن مع الأيام علمت أنه لا يمكن لأحد الدراسة في تلك المدارس التي تتبع وكالة الغوث، سوى اللاجئين الفلسطينيين. خضت المراحل الابتدائية الثلاث الأولى برفقة شقيقتي الأكبر وشقيقي الأصغر، ثم في الصف الرابع الابتدائي، تم نقلي اجباريًا، لأنهم افتتحوا مدرسة أخرى بجوار الأولى، فقط للذكور، لاستكمال المراحل الابتدائية والإعدادية، فوجدت نفسي وحيدًا دون أشقائي.

إعلان

بدأت الاختلاط بزملاء الدراسة أكثر، لكن كنت أسمع من بعضهم، كيف أنا ابن عائلة معروفة بأن جذورها من مدينة غزة أدرس في مدارس اللاجئين، وطرح عليّ صديقي سؤالاً "كيف بتدرس معنا احنا اللاجئين وانت مواطن؟" سؤاله شغل تفكيري حتى انتهى دوامنا المدرسي وعدت للمنزل.

بمجرد وصولي، وجهت السؤال لوالدتي، فشرحت لي أننا في الأصل من مدينة غزة، لكن أجدادي وقبل النكبة عام 1948 كانوا قد باعوا جزءً من أملاكهم في غزة، وانتقلوا للعيش في المجدل ويافا وحيفا، حيث كان هناك العمل وفيرًا بسبب الموانئ البحرية وتركز عمل التجارة والزراعة هناك. جدي والد أبي قرر حينها العيش في مدينة المجدل، حيث تبعد عن مدينة غزة بضع كيلو مترات شمالاً، استقر وتزوج وعمل هناك، وأنجب نصف أبناءه قبل الهجرة من المجدل عام 48. حيث قصفت في ذلك العام ولمدة 5 أشهر متواصلة بالطائرات، حتى تم تهجير كافة سكانها الفلسطينيين تقريبًا، البالغ عددهم وقتها نحو 11 ألف فلسطيني.

شرحت لي والدتي كيف تم تهجير والدها من المجدل، ووالدتها من يافا أيضًا، رغم أن جذورهم كان في مدينة غزة، ومع عودتهم أو بالأدق تهجيرهم، استقروا فيما تبقى لهم من قطعة أرض يملكونها في غزة، وصنفتهم وكالة الغوث من اللاجئين، وحصلوا على كرت التموين كباقي اللاجئين المهجرين.

إعلان

إذن، هكذا أعتقد تصنيفي الصحيح "مواطن ولاجئ" بذات الوقت.

والمواطن، كل فلسطيني لم يهجر من أرضه في عام النكبة، أما اللاجئ، كل فلسطيني اضطر للنزوح من أرضه إلى قطاع غزة أو الضفة الغربية أو دول الجوار، وعددهم قرابة 800 ألف. في قطاع غزة، أنشأت وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة ثمانية مخيمات للاجئين مازالت موجودة حتى اليوم، ومنحتهم الخيام، والأكل والشرب، ثم أنشأت المدارس والمراكز الصحية لكل من يحمل صفة اللاجئ فقط، كخدمات مجانية.

وصحيح أن الفلسطينيون في قطاع غزة انقسموا إلى طبقتين، مواطن يعيش في منزله وله عمله وتجارته، ولاجئ يعيش في المخيم لا يملك سوى المساعدات التي يتلقاها. لكن في عام 1967 قامت إسرائيل بشن عدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، لتكون بذلك احتلت كامل الأراضي الفلسطينية، وقربت المسافة فيما بينهم. توالت السنوات والأحداث من انتفاضة أولى وعودة السلطة الفلسطينية وانتفاضة ثانية، ثم انسحاب إسرائيلي عن أرض قطاع غزة وأخيرًا انقسام فلسطيني سياسي وجغرافي، إلا أن صفة لاجئ ومواطن لم تذب بشكلٍ كامل، خاصة عند حالات الزواج، وعلى الرغم أن الكثير من اللاجئين خرجوا من المخيم.

بالنسبة لي، مرت السنوات الدراسية، وفي كل مرحلة كنت أواجه ذات الأسئلة، وأسمع كلامًا قاسيًا بعض الشيء مثل "يلا ماكلينها ع الطالعة والنازلة"، "مش بكفيكم ماكلين البلد، كمان لاحقينا ع كرت التموين." أسئلة زملاء الدراسة وكلماتهم كانت دافعًا لطرح أسئلة عن تلك المدن التي هجرتنا منها العصابات الصهيونية، للتعرف عليها، وعلى أساليب تهجيرنا. في كل مرة كنت أحصل على بعض الإجابات من أمي أو أبي، أو والداي أمي، ولم يكن هناك فرصة لسؤال والداي أبي حيث توفاهم الله قبل ولادتي.

إعلان

يومًا بعد يوم، تشكل لدي حلم أن أزور المجدل (عسقلان)، فقد سمعت من أبي سابقًا، أنه زارها في عمر الشباب عدة مرات في الستينات، وأعتقد أن أكثر لحظاته استمتاعًا عندما يتحدث زياراته لبحر المجدل تحديدًا، وكثيرًا ما يتفاخر ويقول "كنت كل ما بزهق، أركب البسكليت (الدراجة الهوائية) وأمشي شارع البحر لحد ما أوصل المجدل، معي راديو صغير، أضرب كوع على الشط وأسمع لأم كلثوم أو وردة الجزائرية." لا أعلم كم مرة سمعت هذه الجملة في حياتي، لكن هي مرات كافية لحفظها. لم يتحدث والدي كثيرًا عن تفاصيل المجدل، فيبدو وكأنه كان مرتبطًا في شواطئها وبحرها، ليس لسبب سوى أنه كان يرتاح نفسيًا هناك كما أخبرني. ويشتاق كثيرًا للحظة من تلك اللحظات التي كان يقضيها هناك.

في عام 2000، استطعت الحصول على تصريح لزيارة مدينة القدس ورام الله برفقة العائلة، كنت وقتها أبلغ 14 عامًا، أذكر أننا وبعدما انطلق الباص بنا من حاجز بيت حانون "ايرز" شمال قطاع غزة، وفي طريقنا للقدس، نادى علينا أبي، وقال "من هنا المجدل"، حيث شاهدت لوحة على مدخل المدينة، كتب عليها "المجدل" بالعربية والعبرية. طلبت من أبي أن نزورها لكنه أخبرنا أن التصريح الذي حصلنا عليه لزيارة القدس لا يسمح لنا بدخولها، ويجب علينا العودة لمنزلنا في غزة قبل حلول المساء.

منذ ذلك اليوم، وأنا أحلم بالعودة هناك، لأقف أمام تلك اللوحة، وأسير في طرقات المجدل، أزور شواطئها، ومينائها، وسوقها القديم، بكل تفاصيله، أبحث عن المنازل القديمة، لأرى أين عاش أجدادنا، وكيف هي طبيعة أرضهم، وقد أبحث عن سبب ترك جدي لغزة والانتقال للعيش هناك في المجدل ما قبل النكبة، على الرغم أن المدينتان متقاربتان جدًا من حيث المسافة، ومن حيث امتلاكهما لذات الشاطئ.

إعلان

كثيرًا ما أقف على شاطئ البحر هنا في غزة، وأفكر، هل يا ترى سأحظى بفرصة يومًا ما أن أقف ذات الوقفة أمام البحر على بعد كيلو مترات قليلة، ولكن على شاطئ المجدل! وهل سأجد فرقًا بينها وبين غزة. حتى اليوم وبسبب انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 وما تبعها من فرض حصار إسرائيلي على قطاع غزة منذ قرابة 12 عام وحتى اليوم، والتضيق على حركة تنقلنا. لم أستطع الحصول على تصريح يسمح لي بتجاوز حاجز "ايرز" فما بالك بالعودة الى المجدل.

الأمر لم يتوقف معي هنا، ففي عام 2007 وبعد تخرجي من الجامعة وقتها، انطلقت للعمل في حقل الصحافة والإعلام، ومع دخول الإنترنت وانتشاره في قطاع غزة، أصبحت أبحث عن معلومات موثقة حول النكبة الفلسطينية، كيف حدثت؟ ولماذا حدثت؟ وأين ذهب الفلسطينيون؟ ولماذا لم نعد حتى اليوم؟ ولكنني لفترة طويلة لم أفقد إيماني بأننا سنعود يوماً ما. وأن الحق ما بيموت.

أذكر في عام 2008 وأثناء عملي في صحيفة محلية، تقرر ذهابنا لتغطية فعاليات يوم النكبة، والتي تقام في 15 مايو من كل عام. كنت متحمسًا جدًا للمشاركة، حيث كانت تعقد هيئة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية بمشاركة جميع الحركات والقوى الوطنية والإسلامية، فعالية سنوية بالقرب من الحدود الشرقية الشمالية لقطاع غزة، وبالقرب من الأراضي المحتلة عام 48. فكرة الاقتراب من الأراضي التي هُجرنا منها لوحدها كانت كفيلة نسبة الأدرينالين.

لكن عامًا بعد عام، توالت فيها مشاركتي وتغطيتي لتلك الفعالية، اكتشفت أننا نذهب هناك لسماع كلمات السياسيين فقط، يلقون علينا كلماتهم المكتوبة على ورق أمام كاميرات الإعلاميين. هي ذات الكلمات في كل عام، وذات المطالب التي تتلخص بضرورة الضغط من قبل المجتمع الدولي على إسرائيل لتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الخاص بحق عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم الأصلية. يعيدون ويكررون إلقاء الشعارات الرنانة سنويًا، لا يختلف شيء في كل عام، سوى الأرقام، فأعداد اللاجئين في تزايد، ونسبة الأراضي المصادرة والمحتلة من فلسطين التاريخية أيضًا في تزايد.

إعلان

تنتهي الكلمات، وينزل القادة من على المنصات المرتفعة، يلتقط لهم الصحفيون بعض الصور، ومن ثم يتوجوا لسياراتهم والعودة لمكاتبهم أو منازلهم، بينما الشباب الثائر يتوجه لحدود التماس مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يواجههم بكامل معداته العسكرية المتطورة، لتنتهي الأحداث في ذلك اليوم سنويًا، باستشهاد البعض، وإصابة البعض الآخر. مثلما حدث العام الماضي، حيث استشهد 59 فلسطينيًا وأصيب قرابة 300 آخرون بينهم نساء وأطفال.

منذ أربعة أعوام، قررت عدم المشاركة في فعاليات النكبة، والاكتفاء بمتابعة ما يجري من أحداث في ذلك اليوم من كل عام. قد أكون شعرت بملل وإرهاق من سماع الكلمات المكررة، وتحريرها وكتابتها ونقلها في وسائل الإعلام دون أيّ تغيير يذكر. وبحسب اعتقادي أن العودة إن لم تكن مستحيلة في حالتنا الفلسطينية الحالية، فهي بعيدة، طالما أن تركيزنا على المساعدات المادية التي تقدمها لنا الدول المانحة مقابل بعض التنازلات هنا أو هنا، وفي الغالب هي تنازلات لا نشعر بها كمواطنين إلا بعد فوات الأوان.

شخصيًا، أكتفي في منتصف مايو من كل عام خلال الأعوام الأخيرة الماضية، بالجلوس والمتابعة والتفكير، متى ستترجم مطالبنا وشعاراتنا لحقائق؟ متى ينتهي ويتوقف استباحة دمائنا والدوس على أحلامنا البسيطة من قبل الاحتلال الإسرائيلي ومن قبل بعضنا البعض أيضًا؟ متى أتمكن من زيارة المجدل، بل وأفكر متى سأحصل على تصريح زيارة من عدوي لأقف هناك على أرض مدينتي المهجرة أقول للعالم أنا من هنا. أنا من المجدل.