مسكون: في هذه السلسلة نسترجع قصصنا العربية الموروثة كجزء من استعادة السردية، بعيداً عن صحتها أو مدى إيماننا بالجن أو قوى ما فوق الطبيعة. هذه القصص تظهر كيف تتشابك التقاليد مع الدين مع عالم الموارئيات مع الترفيه.
بأصابعها المرتعشة كانت جدتي عائشة رحمها الله تنسج الأغطية الصوفية بنول تقليدي خشبي أو ما يصطلح عليه بالعامية التونسية ب "المنسج" وكانت تجلسني بالقرب منها وأنا لم أتجاوز سن الثامنة، حيث كنت أقضي أيام العطل المدرسية برفقتها في بيتها العتيق بصحبة ابنة خالتي الأكبر مني سناً وبعض بنات الجيران من جيلي. كثيرة هي الذكريات التي طمستها الذاكرة بحكم مرور السنين لكن حادثة فريدة من نوعها لا تزل تفاصيلها عالقة في مخيلتي، ذات صيف، حين نادت جدتي ابنة خالتي التي كانت تكبرني ب 5 سنوات، وقامت بإدخالها إلى النول الخشبي الذي شارفت على فكه بعد انتهائها من عملية النسج التي استغرقت شهور، ثم إخراجها منه مع إعادة الكرَة سبع مرات وتمتمة كلمات غريبة أشبه بالطلاسم مع إعطائها في كل مرة حبة زبيب لتأكلها.
نول خشبي - شترستوك
لم يستغرق الأمر أكثر من 5 دقائق، كانت خلالها ابنة خالتي تدخل وتخرج من بين أعمدة النول الخشبي وكنت مستمتعة بتلك "اللعبة" التي شاركتها فيها جدتي، بينما اكتفيت أنا بالنظر ولم أفهم من كلام جدتي إلا كلمات همست بها لابنة خالتي قائلة لها :" اذهبي الآن فأنتي محروسة بجني طيب يحمي جسدك الجميل والناعم من مكر الرجال." دفعني حينها الفضول والرغبة في سؤال جدتي عن الأمر الذي قامت به لكنها اكتفت بالابتسامة وقالت لي: "مازلت صغيرة يا بنيتي حين تكبرين ستفهمين." كان "تصفيح" ابنة خالتي بإلحاح من والدتها باعتبار أن العائلة كانت تعيش في تونس العاصمة وكانت مغريات المدينة وبيئتها المحفوفة بالمخاطر جعلت خالتي حريصة على ربط عذرية ابنتها البكر أكثر من حرص والدتي التي لم تكن مقتنعة تماما بالفكرة.
توفيت جدتي بعد ذلك التاريخ بمدة ومرت السنين والأعوام وكانت عائلتي تستعد للاحتفال بحفل زفاف ابنة خالتي التي تجاوزت العشرين عاما وقبل ما يسمى بيوم "حمام العروس" حيث تذهب كل الفتيات للحمام التقليدي رفقة العروس، رأيت خالتي وعجوزا من قريتنا تحمل نفس اسم جدتي عائشة، يٌدخلان قطعتين خشبيتين تستخدمان في تركيب النول التقليدي لغرفة العروس ثم تغلقان الباب لردهة من الزمن وتخرجان بعد ذلك مع إطلاق زغاريد متتالية في حين اكتفت ابنة خالتي بالنظر لنا باستحياء وخجل شديد، وهي ترى في أعيننا نظرات التعجب والفضول لفهم مايحدث.
"التصفيح" وهو أشبه بعملية سحر يقع خلالها عمل تميمة للفتاة العذراء التي لم تصل بعد سن البلوغ – أي قبل الدورة الشهرية - حفاظا على عذريتها وحماية لشرفها ولشرف العائلة
وتخضع الفتاة خلال عملية إزالة التصفيح عن طريق النول التقليدي إلى جلوسها على إحدى الأعمدة الخشبية الرئيسية للنول أو ما يصطلح عليه بالعامية التونسية ب "العدة" حيث تقوم الأم أو إحدى قريباتها من العجائز اللاتي يحملن اسماً ذو بعد ديني بصب الماء على رأس وجسد الفتاة قبل يوم من دخلتها وهي جالسة على ذلك العمود الخشبي ثم تردد:" ابنتي خيط وابن الناس حيط" ثلاث مرات في إشارة لصلابة الرجل واستسلام الفتاة.
حينها وبحكم السن بدأت أستوعب الحكاية وأسترق السمع من خالاتي ونساء الحي اللاتي يكبرني في السن والتجربة بأن ما تم هو عملية فك لربط العذرية أو ما يسمى بـ "التصفيح" وهو أشبه بعملية سحر يقع خلالها عمل تميمة للفتاة العذراء التي لم تصل بعد سن البلوغ – أي قبل الدورة الشهرية - حفاظا على عذريتها وحماية لشرفها ولشرف العائلة من الوقوع في المحظور والاستسلام لرغباتها من خلال إقامة علاقة جنسية مع رجل برضاها أو دونه.
تصوير: محمد مرابط
وتقول الحاجة زينب، وهي من المقربين لعائلتي الموسعة، وقد تجاوزت سن السبعين عاما أن عملية "التصفيح" لا بد أن تخضع لنواميس وطقوس حتى تعطي مفعولها، حيث تشترط أن تكون المرأة التي ستقوم بعملية "الربط" تحمل إسماً من أسماء زوجات الرسول وعادة ما تقوم الأم أو الجدة بذلك أما إذا تعذر عليهن الأمر فيقع جلب إحدى عجائز القرية المعروفات بتدينها كما يشترط أن يكون البيت لحظة العملية خاليا من أي ذكر.
وتتم العملية عبر مرحلتين: المرحلة الأولى وتسمى بعملية ربط العذرية حيث تختلف الطريقة من مدينة إلى أخرى وبطرق متعددة كالنول التقليدي في جهة الساحل التونسي أو اعتماد طريقة المشرط والزبيبة عبر جرح ركبة الفتاة 7 جروح طفيفة متوازية ثم يقع بعدها غمس زبيبة في الدم المراق وتتناولها الفتاة، وهناك من يعتمد على طريقة القفل الحديدي عبر فتحه وإغلاقه بالمفتاح سبع مرات ثم إخفاء المفتاح عند الأم أو الجدة في مكان سري إلى حين زواج البنت.
في كل تلك العمليات يقع ترديد كلمات مفتاحية موحدة على شكل طلاسم :" ابنتي حيط وابن الناس خيط" في إشارة لصلابة غشاء البكارة عند الفتاة وصعوبة اختراقه مقابل عجز الرجل عبر هذه التميمة على إقامة علاقة جنسية معها قبل الزواج بفقدان قدرته على الانتصاب. وبحسب الحاجة زينب يعتبر التصفيح أيضا حجاباً على جسد المرأة يحرسه من الأعين الفضولية والرغبات المستعرة للذكور فتلقائيا تجد المصفحة نفسها محمية بما قيل لها عن الذكور ولؤمهم وخبثهم وتساهم بوعي ودون وعي في حراسة جسدها.
وحول جذور هذه العادة القديمة التي لا تزال تمارس في بعض الأرياف التونسية، تقول الباحثة بكلية العلوم الإنسانية بتونس في مجال قضايا المرأة خولة الفرشيشي - والتي سبق وأن ألفت كتاب حول ثقافة الجسد من خلال الطقوس داخل فضاء الحمام بعنوان: "الجسد في الحمام" بأن "التصفيح" هو عادة أمازيغية متوارثة لم تنقطع في شمال إفريقيا حتى مع دخول الإسلام وتعرف في المغرب باسم "الثقاف" وتنتشر خاصة في العائلات المحافظة داخل الوسط الريفي لبلدان شمال إفريقيا.
وترى الفرشيشي أن الهدف من هذه العملية هو وأد الرغبة الجنسية للمرأة خشية عليها من فقدان شرفها والانصياع لشهواتها. وتضيف: "التعامل مع جسد المرأة في المجتمعات المحافظة ابتدع وسائل متنوعة ومختلفة من أجل حراسته فهو جسد الـ "هم" وليس جسد الـ "هي" نحن هنا لا نتحدث عن جسد فردي بل عن جسد جماعي، ترسم عليه العائلة والقبيلة والمجتمع القيم الأخلاقية وبالتالي لا يتمتع الجسد الأنثوي بالأهلية الكافية التي تخوله التصرف وفق إرادته وأهوائه هو جسد مجرّد من كلّ مضامين الحرية."
وتقوم الباحثة بالمقارنة بين عملية ختان البنات في دول كمصر والسودان وموريتانيا وبين التصفيح في دول كتونس والمغرب والجزائر ولكنّ الفرق وفق قولها في حالة الختان أنّ دول المشرق أكثر عنفاً في التعامل مع الجسد الأنثوي من دول المغرب العربي لذلك دخل المشرط حيّز أدوات التملك الإجتماعي فيما عوّضت الطلاسم وأحيانا بعض الجروح الطفيفة ألم المشرط.
عملية فك الربطة أو "السحر" كما تقول دلال تمت بنجاح بعد أن أعادت عجوز قريتها نفس العملية لكن بشكل عكسي مع ترديد كلمات "ابنتي خيط وابن الناس حيط" في إشارة لصلابة الزوج وقدرته على الإنتصاب
حكايات التصفيح لا تنتهي دائما نهايات سعيدة، أو كما خطط لها أصحابها، فقد تأخذ أحيانا منحاً دراماتيكياً، حيث تروي الشابة دلال -32 عاما - من محافظة جندوبة بالشمال الغربي لتونس عن تجربتها مع زوجها ليلة الدخلة حيث لم يستطع أن يقوم بواجباته الزوجية كأي عريس ليلة الزفاف إثر عجزه عن فض بكارتها، لتعود العروس من الغد تجر أذيال الخيبة وتحكي لوالدتها ما حصل لها. وعندها استنجدت والدتها بعجوز من قريتها لفك طلاسم التصفيح الذي لاتزال معالمه مرسومة في جسدها من خلال سبع ندبات متوازية تظهر في أسفل ركبتها من أثر المشرط.
وبالكاد تستحضر دلال تفاصيل صغيرة روتها لنا لعملية ربط عذريتها حين كانت في سن العاشرة، لا تتذكر منها سوى بعض الألم الذي شعرت به حين اخترق مشرط حاد أسفل ركبتها ومذاق غريب امتزج بين الحلاوة والمرارة لحبة تمر مغموسة بالدم ناولتها لها جدتها مرددة كلمات على شكل طلاسم. عملية فك الربطة أو "السحر" كما تقول دلال تمت بنجاح بعد أن أعادت عجوز قريتها نفس العملية لكن بشكل عكسي مع ترديد كلمات "ابنتي خيط وابن الناس حيط" في إشارة لصلابة الزوج وقدرته على الانتصاب مقابل سهولة فض بكارة الزوجة. دلال أنجبت بعد ذلك التاريخ طفلان – بنت وولد - وتعيش مع زوجها حياة طبيعية كأي زوجين.
تصوير: محمد مرابط
وتقول دلال أن تلك التجربة التي مرت بها وتحميل زوجها لها مسؤولية ما حدث له من عجز جنسي مؤقت وعدم قدرة على الانتصاب بعلة أنها "مسحورة" جعلها ترفض تماما تكرار عملية "التصفيح" لابنتها الصغيرة رغم استمرار هذه العادة عند بعض العائلات في جهة الشمال الغربي لتونس.
لكن في خضم كل هذه التجارب التي مر بها بعض ممن أعرفهم من أقارب وأصدقاء لي وشهاداتهم حول جدوى "التصفيح" لسائل أن يسأل، هل تكفي بعض التمرات والزبيب لحماية عذرية الفتاة؟ وما هو التفسير العلمي لهذه الظاهرة الاجتماعية في ظل صحة بعض الروايات التي تتداولها الأسر والتي كنت شاهدة على بعض ضحاياها من شابات وقع ربط عذريتهن وعجز أزواجهم عن فض بكارتهن ليلة الدخلة لكونهن مصفحات ولم يتم إزالة الربطة سهوا؟
يفند الدكتور حبيب تريعة، الأخصائي في علم النفس الاجتماعي والأستاذ السابق بمعهد الصحة في محافظة سوسة - شرق تونس- صحة تلك العملية ويرى أنه لا صحة لها إلا في عقول أصحابها المرتبطة بالشعوذة واستحضار الجن لما تكتسيه عذرية الفتاة من أهمية بالغة تسعى العائلات التقليدية للحفاظ عليه قدر الإمكان وبشتى الوسائل حتى وإن كانت إيهاماً بالحماية.
علم الفتاة بأنها مصفحة حتى وإن تمت إزالة التصفيح يجعل الفتاة تعتقد داخليًا، أنها فعليا محروسة بنوع من السحر أو الجن
ويشدد تريعة على أهمية الجانب النفسي خلال ليلة الدخلة حيث تكون الأنظار موجهة للعريس وعلى قدرته على فض بكارة زوجته لما فيها من رمزية للفحولة لاسيما في المدن والأرياف وهو ما من شأنه أن يمثل ضغطا نفسيا مضاعفا له يجعل من عملية الانتصاب في بعض الأحيان أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا، كما أن علم الفتاة بأنها مصفحة حتى وإن تمت إزالة التصفيح يجعل الفتاة تعتقد داخليا، أنها فعليا محروسة بنوع من السحر أو الجن الذي يعرقل قدرتها على افتضاض بكارتها بشكل طبيعي، بالتالي تكون قصة التصفيح شماعة يعلق عليها الرجل أو المرأة فشل العملية الجنسية.
عادة التصفيح وإن تلاشت في أغلب العائلات التونسية، غير أن أثرها النفسي والجسدي لايزال موجود وعلى المدى الطويل عند الفتيات اللاتي خضعن لهذه العملية، وقد تستغله بعضهن لتبرير فشل العملية الجنسية ليلة الزفاف حتى وإن كان السبب لايتعلق بتلك "التميمة الأمازيغية" وبين الرواية العلمية التي تدحض صحة هذه العادة وتعتبرها ضرباً من السحر والشعوذة والتوهم من جهة وبين شهادات فتيات أكدن مدى فاعلية "التصفيح" تبقى هذه العادة لغزاً محيراً وشفرة يصعب حلها.