في اليوم العالمي للصحة النفسية، قررت أن أخرج من الخزانة وأقول بشكل علني وواضح: أنا إمرأة تعاني القلق الدائم وأتناول مضاد للاكتئاب بشكل يومي.
بدأت علاقتي بصحتي النفسية في الأشهر الأولى من حملي بطفلتي الأولى جُمانا. في تلك الأيام كنت محاطة بمشاعر سلبية لم اعهدها من قبل. كنت دائمة التفكير في الجوانب السيئة من حياتي، واستحضر ذكريات حزينة من طفولتي ومراهقتي بشكل مستمر. تطورت الأمور وأصبحت غير قادرة على السيطرة على هذا الكم من المشاعر السلبية والمتناقضة، حتى أنني بدأت أتذكر مواقف حزينة من طفولتي كنت اعتقدت أنني قد نسيتها. لم أعرف ما الذي كان يجري معي، ولم أحاول أو لم أرغب بأن أعرف.
في ذلك اليوم، كنت أقوم بإعداد الطعام بينما أُشغل حلقة من حلقات برنامج البودكاست المفضل لدي (عيب) من إنتاج صوت. كانت الحلقة تتناول موضوع اكتئاب الحمل لدى النساء، وكانت الضيفة تتحدث عن كم المشاعر السلبية والحزينة التي اجتاحت حياتها بعد أن بدأت مرحلة الحمل، وكانت تلك هي ذات المشاعر التي أشعر بها أنا. الضيفة قالت أنها لم تتلقى أي دعم نفسي خلال تلك الفترة، وأن الطبيبة النسائية التي كانت تزورها أخبرتها أنه لا داعي للقلق من تلك المشاعر وإنه "عادي يا شيخة." أنا أيضاً لم أفعل شيء حيال تلك المشاعر وقررت أن أتجاهلها لأنني اعتقدت أنها ستزول بعد الولادة، وهو ما لم يحصل.
بعد الولادة، بدأت مرحلة الإغلاق في المدينة بسبب تفشي جائحة كورونا في تركيا في ذلك الوقت، وكان لذلك الأثر الأكبر في استمرار هذه المشاعر، بل وتفاقمها. في ذلك الوقت، كنت قادرة مادياً على طلب المساعدة من مختصين، فقررت أن أبدأ جلسات الدعم النفسي عن طريق موقع عربي يضم العشرات من الأخصائيين. كنت مصرة على أن أقوم بالتعافي نفسياً بدون أي أدوية، لما لتلك الأدوية من سمعة سيئة في العالم العربي، وربمّا العالم أجمع.
بدأت بجلسات مع الأخصائية النفسية التي كانت تقوم معي ببعض التمارين النفسية، وجلسات التأمل، وغيرها من الأمور التي لم تكن في الحقيقة مناسبة لمرحلة الاكتئاب التي كنت أمر بها في ذلك الوقت. قمت بتغيير الأخصائية عدة مرات، ومن ثم قمت بتغيير الموقع الإلكتروني برمته ولكن لم أنجح بالحصول على استشارة طبية مناسبة لما كنت أمر به. توقفت بعدها عن الجلسات وبدأت العمل على صحتي النفسية بشكل فردي، كنت في الشهور الأولى من أمومتي، وكنت أعرف أن هناك كائناً صغيراً بحاجة ماسة إلي، وأنني يجب أن أكون قوية ومتماسكة.
بعد عيد ميلاد ابنتي جمانا الأول، كان الوضع أفضل نسبياً، لكن تجربة الأمومة كانت مرهقة للغاية ونالت من صحتي النفسية من جديد. في ذات يوم، شعرت برغبة شديدة في البكاء، وكما تفعل أغلب النساء في ذلك الوقت، دخلت الحمام وقمت بتشغيل أغاني حزينة كي أحفز مشاعري الحزينة وأبكي، وبالفعل بدأت بالبكاء الشديد، وعندما أردت أن أتوقف وأغسل وجهي وأخرج من الحمام مبتسمة وكأن شيئاً لم يكن، لم أستطع. لم أستطع التوقف عن البكاء أبداً، وشعرت بنبضات قلبي تتسارع، وبدأت أتصبب عرقاً، لم أعلم ما الذي يحدث، أيقنت أنني قد أفارق الحياة، خفت كثيراً فاقتربت من الباب بسرعة كبيرة وقمت بفتح القفل، حتى يستطيع أحدهم مساعدتي إذا فقدت الوعي. بعد أن توقفت هذه الحالة، والتي علمت لاحقاً انها كانت نوبة ذعر، علمت أنني لست بخير، وأن عَلي طلب المساعدة.
ولكني تجاهلت الموضوع مجدداً وحاولت تناسي نوبة الذعر. ولكن مرة أخرى، وبينما كنت أستقل سيارة الأجرة في طريقي للعمل، بدأت بالبكاء الشديد بدون أي سبب يذكر، أقصد بدون سبب مباشر يعني. ومجدداً، لم أستطع التوقف عن البكاء. بعد أن وصلت إلى مكتبي، ركضت بسرعة إلى جاروري، بدأت أفتش كالمجنونة عن بطاقة العمل لطبيب نفسي أردني كنت قد رأيته بالصدفة. لم أجدها، بحثت على الانترنت عن إسمه، فوجدت اسم المستشفى الذي يعمل به، هاتفت المستشفى كمن يهاتف سيارة الإسعاف من أجل مساعدة شخص يحتضر. أجابتني السكرتيرة، قلت لها أنني بحاجة للحديث للدكتور ** بشكل عاجل، والمدهش أنها تعاملت معي كشخص يطلب الإسعاف فعلاً. قالت بصوت هادئ "ما تسكري الخط، دقيقة ورح أخليكي تحكي معه."
أجابني الطبيب، قلت له "دكتور أنا مش منيحة بالمرة، أنا ببكي كتير وما بعرف شو مالي، الي ايام ما نمت.. أنا كتير خايفة." حاول الطبيب تهدئتي وقال لي بشكل مباشر: "لازم تيجي ع العيادة بكرة" أخبرته أنني لست في الأردن، ولكنه أعاد علي السؤال مرة أخرى "بتقدري تيجي بكرة"؟ أجبته أنني قادرة مادياً على فعل ذلك، ولكن كيف وأين سأترك ابنتي؟
عدت إلى المنزل، وأخبرت زوجي عبدالله بما حصل، فقال لي أنه سيكون سعيداً بالاهتمام بجمانا وحده، ريثما أذهب إلى الأردن وأعود. بعد يومين، طرت إلى الأردن سراً، وعندما علمت عائلتي أنني هناك عن طريق الصدفة، أخبرتهم أنني هناك في رحلة عمل. كنت لا أزال أشعر بالخجل من حقيقة أنني سأزور طبيباً نفسياً للمرة الأولى.
"انتي ليش جاية هان؟ هاي المستشفى كلها مجانين ومدمنين." جملة قصيرة، اختصرت الوصمة المجتمعية العربية الملتصقة بالطب النفسي ومرتاديه.
في صباح اليوم التالي، استقليت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يوصلني إلى المستشفى، وعندما وصلنا سألني "انتي ليش جاية هان؟ هاي المستشفى كلها مجانين ومدمنين." جملة قصيرة، اختصرت الوصمة المجتمعية العربية الملتصقة بالطب النفسي ومرتاديه. هناك، رأيت العشرات من الناس الذين لا تبدوا عليهم أي مشاعر الحزن أو الاكتئاب، يصطفون على أبواب العيادة في أبهى حللهم. عندما دخلت، سألت الطبيب "هلأ كل اللي برة تعبانين نفسياً" فقال لي أن التعب النفسي لا يعني أن "يجري الانسان بالشارع حافي." صنف الطبيب حالتي بأنها اكتئاب متوسط، وكتب لي مضاد للاكتئاب. قاومت ذلك في البداية، وقلت له أنني لا أريد أخذ أي مضاد للإكتئاب. قال لي أن مضاد الإكتئاب سيساعدني على تخطي المرحلة بالسلام، وأنني يجب أن أفصل الدواء النفسي عن وصمة العار المحلقة به ظلماً.
غادرت العيادة وذهبت إلى الغرفة التي كنت استأجرتها عن طريق موقع إير بي آن بي، أصريت على أخذ غرفة في بيت يسكنه أحد غيري تحسباً لأي مضاعفات نفسية قد تحصل معي. كانت صاحبة البيت فتاة في نفس عمري، وكان لوجودها أثراً كبيراً في شعوري بالأمان. في تلك الليلة، تناولت مضاد الإكتئاب للمرة الأولى، ومن ثم خلدت للنوم بسرعة خارقة. وبينما كنت غارقة في النوم، سمعت صوت صاحبة البيت تنادي إسمي بينما تقرع الباب بشدة. كانت الساعة الواحدة فجراً، ولم أعلم أنني نسيت المفتاح في قفل الباب، فلم تستطع هي فتح الباب. عندما فتحت الباب رأيت ملامح القلق على وجهها، أخبرتني أنها استمرت من طرق الباب لمدة ربع ساعة، وأنها شعرت بالخوف علي. كنت مضطرة لإيجاد تبرير لحقيقة أنني لم أستفق على كل هذه الطرقات، فقلت بشكل مباشر "انا آسفة، بس اخدت مضاد للاكتئاب بيساعد على النوم." فقالت مع ابتسامة جميلة أذهبت مشاعر الإحراج لي "makes sense ..انا كمان باخد مضاد إكتئاب، خلص ارجعي نامي."
في صباح اليوم التالي، وبعد أن نمت لأكثر من 14 ساعة، وتنشطت وذهبت كي أتناول الفطور وأشرب القهوة. رأيت مصادفة صديقتي ياسمين تسير هي وكلبها. سألتها اذا كانت تملك بعض الوقت لشرب القهوة معي على رصيف أحد المقاهي، حيث كانت الشمس دافئة بشكل لم أشعر به مسبقاً. سألتني ياسمين عن سبب زيارتي للأردن هذه المرة، ترددت بعض الشيء، ثم قلت لها "إسمعي انا خجلانة شوي، بس أنا هان عشان بشوف دكتور نفسي." ياسمين كانت داعمة بشكل عظيم، وقالت لي أنها تشعر بالفخر بي، أنني أعتني بصحتي النفسية. وقالت لي أن الفرق بيني وبين غيري من البشر ممن يعانون نفسياً، هو أنني أمتلك رفاهية زيارة طبيب نفسي وسط دعم من شريكي وقدرة مادية تمكنني من ذلك.
قبل شهر، قررت أن أحجز استشارة نفسية مع طبيب جديد، وسألته إن كان مضاد الإكتئاب خياراً سليماً بالنسبة لي، وعندما عرف اسم الدواء، قال لي إن هذا النوع من مضادات الإكتئاب يصنف بالبسيط ويساعد على التغلب على مشاعر القلق، وأنه ينصح أغلب مرضاه به. في النهاية، سألني بصوت ساخر "لهجتك بتقول انك غزاوية" أجبته بالإيجاب. فقال لي "طيب غزاوية وما بدك تتعبي نفسياً؟ انتي عم تطلبي المستحيل." أنهى مكالمته متمنياً لي السعادة والسلام الداخلي قائلاً "اتذكري، دايماً حقك تتعبي نفسياً.. انتي بني آدم مش سيارة."