في غرفة المعيشة التي بالكاد تستوعب أريكة، يبث التلفزيون فيلم وثائقي عن الحيوانات. وبينما يتابع والد الشاب التونسي وليد القصراوي التليفزيون بصمت، تقوم والدته بتقديم القهوة.يعود وليد، 31 عاماً، الذي يعيش في بلدة الكرم شمال تونس، بذاكرته إلى الأيام الأولى من الثورة التي بدأت في 18 ديسمبر وحتى 14 يناير عام 2011 التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ويتذكر بشكل خاص اللحظة التي شاهد البندقية مصوبة إليه: "في تلك اللحظة تمكنت من معرفة زيّ قوات المكافحة، كانوا على بعد 4 أو 5 أمتار مني، كان ذلك في يوم 13 يناير 2011." خلال تلك المظاهرة، أصيب وليد في رصاصة في ساقه، كانت الإصابة بالغة وأدت إلى بتر ساقه.
وفي حين أن وليد أصبح واحداً من شخصيات الثورة المحتفل بها في تونس، إلا أنه لم يحصل على نفس الإهتمام من الحكومة: "الناس في الشارع يتعرفون عليّ ويحترمونني.. ولكنهم يرغبون في رؤيتي في وضع أفضل،" يخبرني وليد.
وليد القصراوي في منزله في حي الكرم في ضواحي تونس العاصمة، نوفمبر 2019.
يعاني وليد من إعاقة بنسبة 70٪ وحصل على حوالي 10،000 دينار (3,560 دولار) من الدولة لدفع ثمن الرجل الاصطناعية، لكنه لم يعد يتلقى أي مساعدة مالية من الدولة. وفي حين أنه حصل على رخصة قيادة، ولكنه لا يستطيع تحمل تكلفة شراء سيارة، مما يجعل من الصعب عليه العثور على عمل مناسب. ومثل آخرين من جرحى الثورة، يتعين عليه الآن دفع تكاليف الرعاية الطبية الخاصة به.
وليد في المنزل مع ابنه. يأمل وليد أن يساعد نشر القائمة الرسمية للجرحى والشهداء في حصوله على الرعاية الصحية اللازمة. نوفمبر 2019.
في أول خطاب له أمام الجمعية الوطنية، تحدث الرئيس التونسي الجديد قيس سعيد عن ذكرى الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم لمحاربة الفساد والديكتاتورية. كلمات لم تغفل أسر الضحايا والمصابين، يبتسم وليد قائلاً: "لقد صوّت لسعيد، مثل جميع أفراد عائلتي، وجميع أفراد الحيّ. نحتاج إلى رئيس يأخذ الثورة على محمل الجد."الناخبون التونسيون الذين جلبوا قيس سعيد إلى السلطة كانوا مدفوعين إلى حد كبير برفض الطبقة السياسية التي جاءت بعد الثورة واُتهمت بنسيان وعودها بتوفير حياة أفضل أساسها العدالة الاجتماعية. الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، نشرت في 8 أكتوبر العام الماضي (بعد ثمان سنوات من الثورة) قائمة شهداء وجرحى الثورة، تضمنت 124 شهيًدا و634 جريحًا. وقد صدمت هذه القائمة، عديداً من العائلات، على اعتبار أن العدد أعلى من ذلك، فيما رفضت جمعية عائلات شهداء وجرحى الثورة القائمة التي نشرتها الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، معتبرة أن القائمة أقصت بعض الضحايا.
كما قامت عائلات شهداء الثورة وضحاياها، بإطلاق حملة "سيّب القايمة" للتعبير عن استيائهم من عدم قيام الحكومة من نشر القائمة النهائية، والمطالبة بتفعيل المرسوم عدد 97 المتعلق بالتعويض شهداء الثورة ومصابيها. وينص القانون الدولي على حق المصابين نتيجة استخدام القوة المفرطة وغير القانونية في الحصول على تعويضات مناسبة وسريعة على الضرر الذي لحق بهم، بما في ذلك الرعاية الطبية وإعادة التأهيل. ولا يُعفي إسقاط الحكومة التي كانت في السلطة، عند ارتكاب التجاوزات الحكومة التي حلت محلها من تنفيذ التزاماتها بشكل كامل.ينص القانون الدولي على حق المصابين نتيجة استخدام القوة المفرطة وغير القانونية في الحصول على تعويضات مناسبة وسريعة على الضرر الذي لحق بهم، بما في ذلك الرعاية الطبية وإعادة التأهيل
إعلان
في مقابلة مع سيف بن تيلي، من المنظمة غير الحكومية "البوصلة" التي تراقب عملية العدالة الانتقالية التونسية، يؤكد سيف أن قضية شهداء وجرحى الثورة لا تزال تحتاج الكثير من العمل: "لقد توزعت هذه القضية بين الكثير من المؤسسات. أولاً، كانت هناك وزارة حقوق الإنسان، التي توقفت بعد سماع الكثير من الشهود. ثم بدأت هيئة الحقيقة والكرامة عملها، وأعاد نفس الأشخاص تقديم قضيتهم، ولكن بعد خلاف بين هيئة الحقيقة والحكومة، تم إنشاء لجنة جديدة لإنشاء قائمة جديدة."يضيف بن تيلي إلى أن اللجنة الأخيرة المعروفة باسم لجنة "بودربالة" والتي سميت باسم رئيسها الحقوقي توفيق بودربالة، أعلنت نتائج تحقيقاتها في أكتوبر العام الماضي وحددت عدد المصابين بـ 634 وهو رقم يختلف عن الذي قدمته هيئة الحقيقة والكرامة كما يقول: "لقد قدمت الهيئة قائمة تضم أكثر من 3،000 ضحية، إنه فرق كبير."الحصول على التعويضات أو حتى تقديم الطعون في الحالات التي لم يتم الاعتراف بها ضمن القوائم، هو عملية صعبة وطويلة. "أكثر ما يؤلمني هو نسياننا وتجاهلنا، لا نريد الوصول إلى النقطة التي نقول فيها أننا فعلنا كل شيء من أجل لا شيء،" يقول وليد ويضيف: "نشر القائمة الرسمية سيعني حصولي علي الرعاية الصحية ومعاش تقاعدي. هذه القائمة أيضًا مهمة كثيراً لأطفالي أيضًا، كي يعرفوا أن والدهم قاتل من أجل بلادهم ومن أجل الديمقراطية."
صور لرشيد بلعربي بعد لحظات من إصابته. تم نشر هذه الصور على نطاق واسع على الشبكات الاجتماعية التونسية وأصبح يُلقب بالحي الميت. فوشانة، تونس، نوفمبر 2019.
ما يقوله وليد يتشابه تماماً مع ما يمر به رشيد بلعربي، 29 عاماً، الذي زرناه في منزله في فوشانة بالقرب من العاصمة التونسية، يطلعنا رشيد على صورة له اُلتقطت في 13 يناير 2011. نراه يرقد في الشارع، وحنجرته مثقوبة، ووجهه كالجثة الجامدة: "لقد تم وصفي بالميت الحي بعد هذه الصورة. قضيت أربعة أشهر في غيبوبة." عندما أفاق رشيد من غيبوبته، علم أن بن علي قد رحل وأنه فقد ساقيه.
إعلان
يضيف: "أتناول الكثير من الأدوية منها Baclofen، Ditropan …" يعدد رشيد قائمة الأدوية التي اضطر إلى تناولها منذ ذلك الحين، مشيراً إلى أن الدولة توقفت فجأة عن العناية به ورعايته منذ 6 اشهر: "قيل لنا أن ننتظر لأن صندوق المساعدات المالية والمعاشات التقاعدية أصبح فارغًا."
كان رشيد يبلغ من العمر 20 عامًا عندما شارك في الثورة في يناير 2011، لم يعد يستطيع إستخدام بساقيه بعد تلقيه رصاصة في الحلق.
يعمل رشيد في وظيفة حكومية، زودته بدخل شهري وتأمين صحي. ولكن مدخوله من هذه الوظيفة لا تكفي لتحقيق حلمه بالمشي مرة أخرى: "كنت أحلم بإجراء عملية في الخارج، في مستشفى لوزان في سويسرا، حيث نجحت واحدة من التجارب في تمكينّ المصابين بالشلل من المشي مرة أخرى."في صالة حمام السباحة حيث كان يقوم بإعادة التأهيل بعد الإصابة، قابل زوجته ملكة في الصيف الماضي، وأصبح لديهم طفل رضيع. يقول رشيد أنه يريد أن يتم الاعتراف به رسمياً من قبل السلطات كواحد من جرحى الثورة "حتى يكون ابنه فخوراً بوالده."
في القائمة التي نشرتها اللجنة في أكتوبر الماضي، تم تحديد رشيد بالمُصاب رقم 166. فيما حصل وليد على رقم 612 في ذات القائمة.
رشيد في المنزل مع زوجته ورضيعه، فوشانة. تونس، نوفمبر 2019.