مقال رأي

أن تصبحي أماً ..للمرة الأولى، في الغربة، وفي زمن الكورونا

أوصيت أحد أصدقائنا الفلسطينيين في المدينة أن يبقى على إتصال دائم بنا كي يتأكد أننا لا نزال على قيد الحياة
IMG-4008

عبير مع إبنتها جوجو.

لم تعد حياتي كما كانت بعد اليوم الذي حصلت فيه على نتيجة إيجابية لفحص الحمل المنزلي، كنت أنظر إلى الجهاز وأنا أرتجف، رأيت الخط الأحمر الثاني وهو يظهر ببطء، ثم أخذ الخط يزداد وضوحاً، بينما ضربات قلبي تزداد تسارعاً، حتى أصبح أمامي خطين واضحين وضوح الشمس. نعم، أنا حامل للمرة الأولى. كنت أعلم أنني أمام رحلة عظيمة وصعبة سأقضيها أنا وشريكي وحدنا، بحكم أننا نعيش في بلد آخر بعيداً عن عوائلنا، ولكنني لم أكن أعلم -ولا حتى أتخيل- أنني سأحظى بعبء اضافي على تجربتي، بأنني سأضع مولودتي في زمن يدعى زمن الكورونا.

إعلان

أخبرتني طبيبتي أنني سأضع مولودتي في العشرين من شهر فبراير، ولكن آلام المخاض باغتتني قبل عدة أيام من هذا التاريخ. لم يكن فيروس كورونا قد سيطر على العالم أجمع بعد، ولكنها كانت البدايات. ذهبت أنا وشريكي (عبدالله) وحدنا إلى المستشفى للولادة، لم يكن لعدم حضور أي من عائلتي إلى تركيا لمساعدتي له علاقة مباشرة بالفيروس، ولكن الأمر أكبر من ذلك، فهم يعيشون في قطاع غزة المحاصر الذي لم يغير كورونا من حاله شيء، فهو كان ولا يزال تحت الحصار الإسرائيلي. عندما بدأت بالبكاء والصراخ، طلبت مني الممرضة أن أتصل بإحدى صديقاتي كي تكون بجانبي، وعلى الرغم من أن صديقتي كانت تنتظر مكالمتي هذه، قلت للمرضة أنني أريد أن أواجه هذا الألم وحدي. ربمّا كنت أستعد للمرحلة القادمة من حياتي، أنني سأبقى أواجه جميع الآلام والمصاعب شهوراً طويلة، وحدي.

بعد أكثر من ثماني ساعات، حملت طفلتي للمرة الأولى، وأي شيء سأكتبه عن هذه اللحظة سيبدو كليشيه، لذا لن أفعل. غادرت أنا وعبدالله إلى منزلنا، وكانت هذه بداية الرحلة القاسية؛ لم يكن أحد ينتظرنا أو ينتظر رؤية جمانا الصغيرة للمرة الأولى، عبارة الترحيب الوحيدة كانت تلك التي كتبت باللغة التركية على قطعة قماش فاخرة زهرية اللون وضعتها أنا على باب منزلنا قبل الولادة بأيام "أهلا وسهلا بمولودنا الجديد." في الحقيقة أنني وضعتها لكي تستقبل المباركين الذين كنت أعتقد أنهم سيأتون، ولكننا لم نستقبل أحداً إلا عمال التوصيل. فبعد الولادة بأيام قليلة، أعلنت تركيا عن الإصابة الأولى بالفيروس، ثم أخذ عدد الإصابات بالإزدياد بسرعة جنونية، حتى بدأت الحكومة بفرض حظر التجول في نهاية كل أسبوع.

الشهر الأول بعد الولادة كان الأصعب على الإطلاق؛ لم أعرف الفرق بين الليل والنهار، نسيت كيف هو النوم لمدة أكثر من ساعتين، بدأت آلام المفاصل والصداع تسيطر علي شيئاً فشيئاً، فقدت شهيتي للطعام، وأصبت بنوبات بكاء حادة. النظر إلى الخارج عبر النافذة كان هو حلقة الوصل الوحيدة مع العالم الخارجي لكنه كان يزيد الطين بلّة، فالمدينة الجميلة الصاخبة أصبحت خالية من كل شيء إلا بعض المارة الذين خرجوا لشراء الخبز، وأصوات طيور النورس المزعجة التي كنت في معظم الأحيان أخالها صوت صغيرتي تبكي. بعد شهرين، بدأت أشعر برغبة ملحة للقاء غيري من البشر، أردت الحديث عن تلك الأيام العصيبة، خصوصاً مع غيري من الأمهات، لكن الأوضاع كانت تزداد سوءًا، وأرقام الإصابات كانت تزداد بشكل مستمر. أصبحت أعيش خوفاً فوق طاقتي، خوفاً بالغاً -غير مبرراً في معظم الأحيان- على حياة ابنتي لعدم وجود خبرة مسبقة لدي في تربية الأطفال، خوفاً على عائلتي في غزة لو وصل الفيروس إلى هناك، وخوفاً على حياتي أنا وشريكي في حال أصبنا بالفيروس. أوصيت أحد أصدقائنا الفلسطينيين في المدينة أن يبقى على إتصال دائم بنا كي يتأكد أننا لا نزال على قيد الحياة. يصعب عليّ الاعتراف أنني طلبت منه أن يؤمن طريقة لنقل جمانا إلى قطاع غزة في حال توفينا، ولكنني حقاً فعلت هذا. كنت أشعر بالخوف كلّما ذهب عبدالله للتسوق، وأشعر بالقلق عندما أراه يمسح كل القطع بالمعقمات، كان الوضع جنونياً.

إعلان

كلما نامت جمانا دخلت إلى المطبخ لأعد الكعك والحلويات بكميات تكفي لعشرين شخصاً، ولا أفكر أبداً إذا كنا سنأكل كل هذا ام لا

في الوقت الذي كان غيرنا من المحجورين في المنزل يستطيعون مشاهدة الأفلام وقراءة الكتب وإجراء مكالمات الفيديو، كنا لا نفعل أي شيء إلا التناوب على رعاية الصغيرة، والنوم في معظم الوقت الذي تنام فيه. لم يكن لدينا رفاهية اختيار طلب الوجبات الجاهزة، خوفاً من الإصابة بالفيروس، فكنّا نقوم بإعداد الطعام يومياً في الوقت الذي يتسنى لنا فيه ذلك. التسوق تحول من نشاط ممتع ومسلٍ إلى كابوس نحاول تأجيله قدر الإمكان. لم يكن باستطاعتنا القيام بأي نشاط يخفف من وطأة الضغط النفسي داخل المنزل.

بعد مرور شهرين، انضممت إلى الجماهير الذين اتخذوا من المطبخ مهرباً من ضغوط المرحلة. كنت أشعر أنني سأنفجر إذا لم أقوم بنشاط ينهنكني جسدياً، فأصبحت كلما نامت جمانا دخلت إلى المطبخ لأعد الكعك والحلويات بكميات تكفي لعشرين شخصاً. أصبحت شغوفة بشراء أدوات الحلويات والمطبخ، حتى أصبح يؤرقني انقطاع الخميرة الفورية من السوق. قمت بإعداد جميع أنواع الكيك والمخبوزات، ولكنني في نهاية المطاف اعترفت لنفسي أنني بدأت أشعر بالإكتئاب الذي أصبح خارجا ًعن سيطرتي، وأن الحل ليس في إعداد المخبوزات، الحل هو التحدث مع طبيب نفسي.

كان العثور على طبيب نفسي بهذه السرعة صعباً للغاية، خاصة مع ظروف الإغلاق في المدينة، ولكنني في النهاية وجدت ضالتي في عيادة إلكترونية تضم العشرات من الأطباء النفسيين، حجزت أول جلسة لي وبدأت جلسات العلاج فعلاً، وعلى الرغم من صعوبة اتخاذ هذا القرار في مجتمع لا يعترف كثيراً بالعلاج النفسي، إلا أنني ممتنة جداً أنني استطعت أن أبدأ خطة العلاج هذه. بعد الحديث عن مخاوفي وقلقي، بدأت أتحسن شيئاً فشيئاً، وبدأت أشعر أنني نجحت في عبور الجزء الأصعب من المرحلة.

قبل أقل من أسبوع، اتخذت أنا ووالد جمانا قرار الخروج معها للمرة الأولى، ذهبنا لشراء عربة خاصة لها، وفي نفس اليوم، اصطحبناها إلى الحديقة العامة. لم يكن تنفس الهواء للمرة الأولى بالنسبة لجمانا -جوجو كما نناديها غالباً- بالأمر المألوف، فكانت تتنفس وكأنها شخص يغرق، ثم تضحك كثيراً. بعد ثلاثة أيام، تكمل جمانا شهرها الرابع؛ هي اليوم أصبحت قادرة على الجلوس بمساعدتي، والنوم لأكثر من سبع ساعات متواصلة، بل والاستمتاع بلعق قطعة بطيخ صغيرة باردة. كتبت لها في دفتر مذكراتها الذي سأهديها إياه في عيد ميلادها العاشر أنها ولدت في زمن الكورونا، وأنها بحاجة لاستخدام محرك البحث والقراءة لمعرفة المزيد عنه. حينها فقط، ستكون فخورة جداً أنها كانت السبب الوحيد في إصرارنا على القتال من أجل البقاء.

الصورة: عبير مع إبنتها جوجو.