ملوخية
طعام

الملوخية .. النبات الذي خَوَّف الشعوب ولكنهم لم يتوقفوا عن حبه/أكله

الشهقة: على من يطهو الملوخية أن يشهق قبل إسقاط التقلية

هل يمكن لأحد أن لا يقع في غرام الملوخية من أول نظرة؟ مستحيل، ولكن للأسف العالم لا يخلو الأمر من مناهضي ومناهضات حب الملوخية، ويعتبرون أننا نبالغ في هذا الحب، الذي هو بالتأكيد من طرف واحد. الملوخية لا تقع بالغرام، بل تجعل الآخرين يفعلون بدون الكثير من الجهد. كن ملوخية.

للملوخية حكايات عديدة تتعلق بتاريخ ظهورها، وأين نبتت لأول مرة، وكيفية تحضيرها، فهناك الوصفة المصرية، والفلسطينية، والتونسية. بل أن هناك أمثالًا استلهمت روح الملوخية مثل: ملوخياتك وعالجسر، ليصبح لهذا النبات الأخضر دلالة سياسية في العلاقات بين البشر. 

إعلان

ما بين التأريخ والأسطورة، تتعدد الروايات حول هذا النبات الأخضر الذي وجد طريقه لموائدنا وقلوبنا. واحدة من الحكايات تعود للعصور القديمة في مصر، أثناء احتلال الهكسوس، حيث نبتت هذه الأوراق الخضراء في صحراء مصر، وكان المصريون يظنوننها نباتًا سامًا، فلم يقتربوا منها، وكان اسم النبات: خِية. ومع غزو الهكسوس لمصر ومعرفتهم بعلاقة المصريين بهذا النبات السام، قرر المحتلون أن يجبروا المصريين على تناوله للتخلص منهم، وقالوا لهم: ملو خية، أي كُلُوا ملوخية. النتيجة، عندما اضطر المصريون تجربة هذا النبات وجدوا أن طعمه لذيذ.

المصريين: ١. الهكسوس: صفر.

روايات أخرى تعود لمصر في عصر الدولة الفاطمية. وتقول الرواية الأولى أن المعز لدين الله، أول حكام الدولة الفاطمية في مصر، شعر بمرض في معدته، فنصحه الطبيب بتناول هذا النبات. تناول المعز الملوخية، فأعجب بها جدًا، وشُفي من المرض، وقرر أن يطلق عليها مُلوكية، ومنعها عن الشعب كي يستمتع بها وحده. ويوجد رواية فرعية هنا تقول إن الطبيب الذي نصحه بهذا العشب، هو وزيره (ملوخية)، مكتشف العشب ومقدمه للمعز. وكانت مكافأة الطبيب الماهر أن أطلق الخليفة الفاطمي اسم ملوخية على هذه النبتة المفيدة.  لا شك أن الوزير ملوخية اخضرت عيناه بالفرحة بعد هذا القرار.

ويبدو أن اسم ملوخية كان موجودًا في بلاط الفاطميين أكثر من مرة، إذ يظهر في رواية أخرى مع الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور، سادس حكام مصر الفاطميين. إذ يشير أحد المصادر أن أميرًا يُدعى ملوخية كان أمير ركاب الخليفة، وسُمى أحد الدروب في القاهرة باسمه، درب ملوخية.

إعلان

وذكر أكثر من مصدر تاريخي أن الحاكم بأمر الله قرر منع مجموعة من المأكولات من بينها الملوخية، فيقول المؤرخ تغري بردي أن الخليفة "أمر بقتل الكلاب في مملكته وبطّل الفقّاع والملوخيّا؛ ونهى عن السمك." وتقول أحد التفسيرات أن سبب منع الحاكم بأمر الله للملوخية هو حب الخليفة معاوية لها، ومن المعروف أن الدولة الفاطمية كانت تتبنى المذهب الشيعي الذي يناصر الإمام علي بن إبي طالب، الذي كان على خلاف سياسي مع معاوية بن أبي سفيان. فإذا كان معاوية يحبها، فلا شك أن هناك مشكلة في الملوخية. وهناك رواية تقول إن المنع كان يتعلق بالادعاءات التي تقول أن الملوخية تثير الشهوات الجنسية.

الدورز مع الملوخية
يعتبر الحاكم بأمر الله، واحد من أكثر الحكام المسلمين إثارة للجدل بين المؤرخين، فهناك من رأوه ظالمـًا، وهناك من يراه زاهدًا عالمـًا نشر العدل في ربوع أراضي المسلمين. كما أن موته الحاكم بأمر الله مازال محل نقاش حتى اليوم، فلا نعلم بالتأكيد كيف مات، وهل تورطت أخته ست المُلك في قتله أم لا؟ إذ أنه خرج في ليلة ما، ولم يعد.  

طائفة الدروز تعتبر الحاكم بأمر الله تجسيدًا لله على الأرض، لم يمت، لكنه محتجب. وبالعودة للملوخية، فالرواية تقول إن الدروز يُحرمون على أنفسهم أكل الملوخية لأن الحاكم بأمر الله حَرمها. وهناك رواية أخرى، تقترب من الأسطورة، تقول إن الدروز يُحرمون الملوخية لأن العجل الذي تكرمه الطائفة كان يسير في طريق واعترضته بعض نباتات الملوخية، فتعثر -زحط- ووقع وانكسرت أحد أقدامه، فقرر كبير الطائفة تحريم تناول هذا النبات. هذا لا يعني بالضرورة أن جميع الدروز من مناهضي الملوخية. يفضل التأكد من أصدقائك قبل دعوتهم على أكلة ملوخية وسلطة جرجير - كل شيء أخضر باختصار.

إعلان

قصة الشهقة
في مصر، تحضير الملوخية في مصر طقوس خاصة من أهمها (الشهقة)، إذ على من يطهوها أن يشهق قبل إسقاط التقلية في الملوخية، وإلا فقدت شخصيتها. ومازالت أسطورة الشهقة منتشرة بين المصريين حتى اليوم، مما يجعل تجربة طهي الملوخية ممتعة وكوميدية. وتقول إحدى الحكايات أن الشهقة كانت سببـًا في أكل المصريين للملوخية التي منعها الحاكم. فيُروى أن الحاكم بأمر الله كان ينتظر الملوخية، ثم دخل عليه خادمه حاملًا إياها، لكنه تعثر ووقع أمام الحاكم، وشهق أثناء سقوط الملوخية على قدم الخليفة، فقرر الامتناع عن أكل الملوخية وصرح بأن يأكلها الشعب بعد أن كانت طعامـًا ملوكيـًا. 

رواية أخرى لنفس الحاكم، الذي كان ينتظر خادمه أيضًا لتناول نفس الطبق، ومع تأخر الخادم، أمر الحاكم بأمر الله سيافه أن يستعد لقتل الخادم. ومع حضور الخادم بالملوخية، وضع السياف سيفه على رقبة الخادم الذي شهق على الملوخية، ثم سقط صريعًا. تناول الخليفة الملوخية بعد ذلك، فأعجبه طعمها، وأمر خدامه أن يشهقوا في كل مرة يطبخون الملوخية.  

أنت جيت، شهقة، يا رمضان.

هناك أكثر من طريقة لتحضير الملوخية، يحبها المصريون بشوربة الأرانب والدجاج، وعندما سألت أمي لماذا تشتهر الأرانب تحديدًا مع الملوخية؟ أخبرتني أن شوربة الأرانب "مِسكرة أكتر من شوربة الفراخ" وهناك الطريقة الفلسطينية والطريقة التونسية والطريقة السورية، وكعادة كل طبق في بلد، يرى أهله أن ملوخيتهم هي الأفضل من ملوخية البلد الآخر.

في الطريقة المصرية، الملوخية هي ناعمة فقط، مخروطة جيدًا، ويمكن سلق الدجاج أو الأرانب للحصول على الشوربة، ثم نضع الملوخية داخل الشوربة ونقوم بالتقليب حتى نحصل على القوام المناسب (لا سميك ولا رفيع)، مع الحفاظ على درجة نار هادئة، دون وصول الملوخية لدرجة الغليان، حتى لا تفقد هذا القوام ويبقى لونها أخضر لامع. في نفس الوقت، نحضر التقلية، حيث نضع الثوم المقطع على النار مع بعض السمن أو الزبد حتى يحصل لون ذهبي خفيف ونستطيع أن نشتم الرائحة الزكية له، مع إضافة بعض الكزبرة عليه، ثم نُسقِط هذه التقلية داخل الملوخية (ولا تنسوا الشهقة). 

إعلان

وهناك كذلك الملوخية بالجمبري منها الملوخية السكندرية والبورسعيدية، هنا نتخلى عن شوربة الدجاج، ونعتمد على الجمبري والشوربة الخاصة به، حيث يوضع الجمبري بعد تنظيفه مع بعض الثوم وتقليبه حتى يحصل على لون مختلف، ثم نضيف الماء له، حتى تتكون الشوربة، وبعد ذلك نضع الملوخية المخروطة، وبنفس الطريقة نضيف التقلية. 

ومرة أخرى، لا تنسوا الشهقة.

في تونس الأمر مختلف تماماً، تكون عملية طهي الملوخية أطول، وتختلف في تحضيرها بشكل كبير عن الملوخية المصرية أو السورية أو الفلسطينية، إذ لا يتم استخدام الملوخية الخضراء الطازجة، بل المجففة، ويتم خلطها بالزيت. بعد ذلك نضع الملوخية في ماء مغلي، وتترك على النار لمدة زمنية قد تصل لساعتين أو ثلاث ساعات، ثم يتم اسقاط اللحمة. بسبب ساعات الطبخ الطويلة، يختفي لون الملوخية الأخضر ويتغير قوامها اللزج وتتحول للون أقرب إلى البني.

في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، هناك خلاف جدلي حول كيفية طبخ الملوخية، هل هي ملوخية ورق أم ملوخية ناعمة، بمعنى هل يتم طبخ الملوخية كما هي بالأوراق دون فرمها، أم يتم خرط ورق الملوخية كما في مصر. هل يتم إضافة ثوم مقلي (أو غير مقلي، بلا زعل) مع كزبرة أم تقدم مع بصل مقطع وليمون. هل يُسمح إضافة حب الهال أم لا، وهل تقدم مع أرز أم بدون؟ غماس أم بالملعقة؟ علاقة الحب بين الفلسطيني والملوخية وهل هي ورق أو ناعمة، تصل إلى درجة unhealthy أحياناً، وقد وصل بالبعض لوصفها بالملوخية الوطنية الفلسطينية.

ولا زال الخلاف قائماً حول مصير الملوخية، هل ستأتي تحت المخرطة أم ستقاوم وتنجو، (المثل لمن لا يعرف هو: مصيرك يا ملوخية تيجي تحت المخرطة). بكل الحالات، صحتين.