رأي

ممالك النار: دراما لا تاريخية من أجل الدعاية السياسية

لخص العمل حكم المماليك بأنه عصر مؤامرات فقط، وأغفل-عن عمد- ما قام به السلطان قانصوة الغوري من إنجازات على المستوى المعماري في مصر
ممالكك

خلال الأيام الماضية انتهى عرض مسلسل ممالك النار على مجموعة قنوات "إم بي سي" السعودية. العمل من إنتاج شركة جينوميديا الإماراتية، ومن إخراج البريطاني بيتر ويبر الذي قدم عدد من الأعمال من بينها فيلم "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" سنة 2003. والمسلسل من بطولة عدد كبير من الفنانين العرب مثل خالد النبوي (بشخصية طومان باي) ورشيد عساف (قانصوه الغوري) ومحمود نصر (سليم الأول) وغيرهم الكثير. ويحكي المسلسل المرحلة الأخيرة من حكم المماليك في مصر والشام، ودخول العثمانيين إلى الشرق حيث فتح/غزو الشام ومصر بعد مقتل كل من السلطان قانصوة الغوري والسلطان طومان باي آخر سلاطين المماليك.

إعلان

المسلسل يمثل نقلة مهمة في الدراما العربية لأسباب متنوعة، أولها ضخامة الإنتاج الذي وصل إلى 40 مليون دولار أمريكي، بمتوسط إنتاج وصل إلى حوالي 3 مليون دولار للحلقة الواحدة. العمل على غير العادة مكون من 14 حلقة. كذلك كان طاقم العمل متنوع، ممثلون من دول عربية مختلفة، وفريق إنتاج متعدد الجنسيات، وهذا أمر جيد لأننا نفتقد الكثير من العناصر التقنية في إنتاجاتنا العربية مما يجعلها في شكلها النهائي فقيرة ومثيرة للسخرية، خاصة عندما نشاهد أعمال الجرافيكس أو المعارك أو مشاهد القتل.

على مستوى آخر، فمن الصعب مشاهدة مسلسل ممالك النار والتعامل معه أنه مرجع تاريخي يُسطر نهاية عصر المماليك وبداية الحكم العثماني لمصر. فالعمل لم يقل لنا أنه مبني على حوادث حقيقية، ولم أر في مقدمة العمل أو نهايته أي مراجع تاريخية ذُكرت من قِبل فريق العمل. وبالتالي فسيكون من الظلم أن نتعامل مع المسلسل أنه وسيط يمكن الرجوع له تاريخيًا.

المسلسل على مستوى الحبكة الدرامية مشوق، لكنه سار على نهج مسلسل "لعبة العروش" ولا أعلم هل لخص لنا مسلسل مثل لعبة العروش تاريخ الصراع الإنساني على السلطة أم أننا لا نرغب ولا نستطيع أن نستلهم من تاريخنا أعمالًا فنية ذات معنى. فالتاريخ المصري والعربي ممتلئ بالصراعات السياسية والحروب التي يمكن أن نصنع من بين سطورها ملاحم فنية.

العمل مبنى على صراعات الحاكم فيها الذكور، مما جعل وجود النساء "غير ضروري" لكن حسابات السوق بالطبع تفرض تواجد النساء في العمل لكنه كان تواجدًا هامشيًا

الحديث عن المؤامرات في عصر الدولة الإسلامية يطول. فمع نهاية حكم عثمان بن عفان بدأت السلطة تحكم العلاقات، والسياسة طغت فوق الدين، فوقعت الفتنة الكبرى، ومن وقتها لم تتوقف الصراعات السياسية. ورغم أن العمل لا يعد وثيقة تاريخية كما ذكر، إلا أن هناك عدد من الأحداث التي لا يمكن التغافل عنها أثناء المشاهدة، فقد لخص العمل عصر المماليك في السنوات الأخيرة أنه عصر مؤامرات فقط، وأغفل-عن عمد- ما قام به السلطان قانصوة الغوري من إنجازات على المستوى المعماري في مصر. فطوال أربع عشرة حلقة لم نشاهد سوى صورة واحدة للسلطان الغوري وهو يحاول التعامل مع مماليكه المتصارعين أو صراعه مع القبائل العربية، أو التهديدات الخارجية التي تحيط بالسلطنة.

إعلان

لم يلمح المسلسل ولو لمرة لما قام به الغوري من منجزات معمارية مثل إنشاء خان الخليلي وجامع الغوري وميدان القلعة وغيرها من الأعمال المعمارية الباقية حتى اليوم في القاهرة. إضافة لولع الغوري بالعلم والأدب كما وصفه عبد الوهاب عزام في كتابه مجالس السلطان الغوري. وعن مجالس السلطان الغوري فقد كانت "تجمع العلماء والكبراء، وتطرح فيها للبحث مسائل شتى." إذًا فسنوات حكم الغوري ليست فقط مملكة من ممالك النار كما صورها المسلسل، بل كان هناك مساحات للترف والعلوم والتشييد كذلك.

من نقاط ضعف المسلسل أيضاً وجود عدد من الحبكات الثانوية التي لم تضفِ أي شيء للحبكة الرئيسية مثل زواج طومان باي من ابنة أقبردي الدواداري، كذلك قصة حبه مع نلباي التي ذكرتني بشخصية مادلين طبر في فيلم "الطريق إلى إيلات، والتي كانت شخصية مُتخيلة فقط من أجل إضافة عنصر نسائي للعمل. لو حُذفت شخصية نلباي من العمل ما تأثر العمل. ناهيك عن ظهور أم الخليفة العباسي خلال أحداث المسلسل في مشهدين، أحدهما مع قانصوة الغوري، وآخر مع سليم الأول دون أي إضافة للسرد الدرامي سوى أننا نستمتع بمشاهدة الممثلة المخضرمة منى واصف في العمل.

1577104929466-ef2fcc0995

منى واصف

العمل مبنى على صراعات الحاكم فيها الذكور، مما جعل وجود النساء "غير ضروري" لكن حسابات السوق بالطبع تفرض تواجد النساء في العمل لكنه كان تواجدًا هامشيًا، وهذا ما يظهر بوضوح في قصة حب طومان باي ونلباي، فهي تظهر في البداية ثم تختفي لعدد كبير من الحلقات ثم تظهر في النهاية، ولذلك الأمر تفسيرين، أولهما أن نرى شخصية طومان باي الذي ضحى بحبه من أجل الوطن والناس، والثاني هو محاولة لإضفاء بعد رومانسي على مسلسل عسكري دموي. وإذا نظرنا لصورة النساء في العمل فهما صنفان، إما امرأة مستكينة لزوجها وهن كثيرات في العمل أو امرأة مميتة ماكرة مثل الزوجة الثانية لسليم، والفتاة التي تنتمي للجهاردية (تولاي) التي حاولت قتل طومان باي.

إعلان

المسلسل بالتأكيد أعاد فتح باب الجدل حول ماهية التواجد العثماني في مصر وهل كان احتلالًا/غزوًا أم فتحًا؟ جدل لم تحسمه كتب التاريخ التي اعتبر كثير منها أن العثمانيين غزاة همج في حين رأهم آخرون فاتحين ينصرون دين الإسلام

بالعودة للتاريخ، فهناك إغفال واضح وغير مفهوم لبعض الأحداث التاريخية. فعلى سبيل المثال تظهر في الحلقة الثانية شخصية حسن بن مرعي (قام بدوره محمد جمعة)، الذي يقبض عليه طومان باي، ثم يتم سجنه من قبل السلطان الغوري. كنت أتوقع في الحلقات الأخيرة أن تظهر شخصية حسن بن مرعي مرة أخرى لكنها اختفت تمامًا، رغم أن حسن بن مرعي-وفق المصادر التاريخية مثل ابن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور- كان سببًا رئيسيًا في وقوع طومان باي تحت يد سليم الأول (أو سليم شاه)، ثم إعدامه. لكن هذا لم يحدث في المسلسل. التفسير المنطقي وراء عدم الاعتماد على هذه النهاية هو عدم رغبة القائمين على العمل أن يظهر صورة العرب في العمل أنهم خونة وأنهم سلموه للعثمانيين وتعاونوا معهم. وهذا يحيلنا لسياق صناعة المسلسل في ظل سياق سياسي إقليمي مضطرب. فمن الصعب أن ننفي عن العمل إبرازه العلاقات المحتدمة بين بعض الدول العربية والدولة التركية. فالمماليك ليسوا عربًا، إلا أن المسلسل وضعهم في منزلة العرب.

مشكلة أخرى وقع فيها العمل تتعلق ببناء الشخصيات على مستوى التطور الدرامي. الشخصيات ظهرت بشكل مسطح كعادة الأعمال العربية. فبطلا العمل، طومان باي (خالد النبوي)، وسليم الأول (محمود نصر)، لا يختلفان كثيرًا عن أي شخصية نشاهدها في مسلسل أو فيلم عربي، إما خَيِر تمامًا أو شرير تمامًا. طومان باي لا يخطئ تقريبًا، وسليم شاه لا يفعل شئ سوى الفواحش والقتل. فقد قتل الرجل في العمل زوجته وابنيه الرضيعين وجده وأبناء أخيه، ليتحول خليفة المسلمين في لحظة إلى Serial Killer. ولو قلنا أن هذا لا يعتمد على مصادر تاريخية بل خيال درامي، فسليم هنا يقوم بدور الشرير، ولكل خِصم لحظة من لحظات الضعف التي يسقط فيها ثم ينهض، لكننا لم نر ذلك في المسلسل سواء من البطل الخِير أو البطل الخِصم (الشرير).

المسلسل بالتأكيد أعاد فتح باب الجدل حول ماهية التواجد العثماني في مصر وهل كان احتلالًا/غزوًا أم فتحًا؟ جدل لم تحسمه كتب التاريخ التي اعتبر كثير منها أن العثمانيين غزاة همج في حين رأهم آخرون فاتحين ينصرون دين الإسلام. وهنا أود أن استقي من أحد كتب التاريخ التركية وصفًا لسليم الأول عندما جاء لمصر وحارب طومان باي. ففي الكتاب المعروف باسم (الدولة العثمانية المجهولة: 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية) يقول الكاتب: "أرسل السلطان سليم رسالة إلي طومان بك الذي حل في مصر محل قانصوه أخبره فيها بأنه متوجه إلى مصر .. وفي عام 1517 فتح مصر والقاهرة بعد معركة "الريدانية" وألحق مصر بالدولة العثمانية. وبذلك أصبح في الشرق بطل الوحدة الإسلامية دون منازع."

إن الدراما التي يسميها البعض تاريخية تتحول بالنسبة لقطاع كبير من الجمهور لوثيقة بصرية تاريخية وتصبح هذه الحكايات المشوقة ثوابت في لحظات معينة. إن تسمية هذه الأعمال بالدراما التاريخية فيه تضليل كبير للمشاهد غير المطلع، فالتاريخ في نهاية المطاف رواية يسردها شخص أو مجموعة أشخاص من زاوية محددة معتمدة على سياق وتوجهات ومصالح سياسية واجتماعية. ولو فرضنا أن المؤرخ تَحرى المهنية ونقل ما يراه دون أن يضع تحيزاته بوضوح - وهذه مسألة مستبعدة- فإنه في النهاية لن يقدم الحقيقة أو الواقع كاملًا. فما بالنا بعمل درامي يعتمد على خيال صانعيه ويتأثر بالسياق السياسي والاجتماعي المعاصر في تشكيل عناصره.