جامعات سيناء: طلاب في مرمى النيران

تصوير: أحمد أبو دراع

FYI.

This story is over 5 years old.

شباب

جامعات سيناء: طلاب في مرمى النيران

بتخرج من بيتك للجامعة مش عارف هترجع ولا هتحصل زمايلك اللي ماتوا

وسط إطلاق النار ودوي الانفجارات اليومية، يواجه الطلاب الجامعيون في محافظة شمال سيناء الموت صباحاً ومساءً. حالة من الرعب المقيم لا تجعل للأمان مكان في قاموس الطلاب الذين يفد معظمهم من مدن مجاورة للدراسة بالمدينة الحدودية المضطربة نتيجة لاعتبارات التوزيع الإقليمي والجغرافي في نظام التعليم المصري. بين نيران حرب مستعرة على الإرهاب في سيناء يعيش نحو 10 آلاف طالب جامعي في ظروف لم تشهدها المنطقة منذ احتلال سيناء في العام 1967 وحتى حرب التحرير في أكتوبر 1973، بالتزامن مع تصاعد حدة العمليات الإرهابية من قبل تنظيمات تتبع داعش والجيش المصري في السنوات الخمسة الأخيرة؛ لتمتد من مدن الحدود الشرقية (رفح والشيخ زويد) إلى مدينة العريش العاصمة التي تضم جامعتين، إحداهما حكومية جامعة قناة السويس والأخرى خاصة وهي جامعة سيناء، بالإضافة إلى عشرات المدارس اعتاد طلابها بدء يومهم الدراسي على مشاهد التفجيرات والاشتباكات الدامية، والاستذكار على خلفية أصوات الرصاص التي لا تتوقف على مدار اليوم في بعض الأحيان.

إعلان

تعيش سيناء أوضاعًا غير مستقرة منذ نهايات العام 2011، نتيجة لحالة الانفلات الأمني التي أعقب الثورة المصرية، والتي تسببت في تمدد نفوذ جماعات إسلامية متطرفة بعد تمكنها من الحصول على أسلحة متطورة، بدأت على إثرها في استهداف قوات الأمن المصرية. بدأ الأمر بعمليات ممنهجة تفجير خطوط نقل الغاز المارة فى شمال سيناء إلى الأردن وإسرائيل من خلال مجهولين اصطلح على تسميتهم «الملثمين»، نسبة إلى وصف الأهالي المحليين لهم، نحو 25 مرة فى الفترة ما بين عامي 2011 و2012، بواقع تفجير شهرياً تقريباً، قبل أن يتحول نشاط الملثمين الذين اتضح أنهم مجموعات سلفية متشددة بايعت تنظيم داعش لاحقًا وأطلقت على نفسها اسم "تنظيم ولاية سيناء" إلى استهداف قوات الجيش من خلال هجمات بدأت، في 2 مايو عام 2012 وما تزال مستمرة حتى اليوم، ما تسبب في مقتل المئات من سكان المنطقة في هجمات إرهابية، أو باستهداف مباشر من المسلحين، بالإضافة إلى نزوح آلاف الأشخاص من سكان منطقة الشريط الحدودي، نتيجة للعمليات العسكرية في مدنهم وقراهم من قوات الجيش خلال مطاردة عناصر التنظيم المسلح، فضلًا عن فرض حظر التجوال على سيناء بالكامل، منذ العام 2015 حتى اليوم.

"أدرس في سيناء منذ 4 سنوات عشت خلالهم أسوأ أيام حياتي. عاصر التحاقي بجامعة سيناء فرض حظر التجوال على المحافظة، وها أنا ذا على مشارف التخرج والحظر ما يزال مفروضًا. لن يشعر بما عانيته إلا من عايش الحظر لسنوات." هكذا بدأت خلود، 21 عاماً، الطالبة بكلية الإعلام، حديثها لـ VICE عربية وتابعت: "ولدت ونشأت في مدينة المنصورة، عاصمة محافظة الدقهلية الواقعة على أطراف دلتا النيل، واضطررت للالتحاق بالجامعة في سيناء لأتمكن من دراسة الإعلام". تلخص الفتاة التي تخطت عامها العشرين بالكاد، الأشهر الطويلة التي تقضيها في مدينة العريش خلال فترة الدراسة "بتخرج من بيتك للجامعة مش عارف هترجع ولا هتحصل زمايلك اللي ماتوا." وتضيف: "من أيام كانت المرة الثالثة التي نصلي فيها صلاة الغائب على زميل في الدفعة هذا العام. مسلسل قتل لا يتوقف، من لا يموت خلال الاشتباكات بالرصاص يدفعه حظه العاثر إلى محيط تفجير لا يميز بين ضحاياه. أنا بموت كل يوم من الخوف والرعب."

إعلان

خلود طالبة بكلية الإعلام في جامعة سيناء

تتحدث خلود عن ما تصفه بـ "رحلة المعاناة" في إشارة إلى السفر من مدينتها الهادئة إلى سيناء: "أغلب طلاب الجامعة مغتربين، بنتبهدل في نقاط التفتيش. بيبقى معانا أكل وشرب، بيفرغوهم ويقلبوا كل حاجة." وتوضح أنها فتاة تقطع كل هذه المسافة في أكثر المناطق توترًا في البلاد من أجل العلم، وأنها ليست إرهابية لتُعامل بهذه الطريقة في كل مرة، الأمر الذي دفعها لتقليل مرات سفرها خلال كل فصل دراسي لتكون مرة شهريًا أو كل شهرين لتجنب مشقة السفر ومضايقاته.

وتتابع: "يوم العودة لسيناء أتحرك في تمام السادسة صباحًا لأوصل إلى المعدية التي تربط شطري قناة السويس قبل الظهر وأنتظر 3 ساعات على الأقل لأتمكن من العبور للضفة الشرقية من القناة. ما الحكمة من تفتيشي في 20 نقطة أمنية بين مدينتي الإسماعيلية والعريش." وتصف الوضع المتكرر في نقاط التفتيش الأمنية بالقول: "تضييع وقت وبهدلة. الشنطة بتتفرغ في كل كمين بالكامل وبجمع محتوياتها علشان تتفرغ من تاني في الكمين اللي بعده".

تروي خلود تفاصيل يوم تقليدي في سيناء: "كل الناس خايفة وعايزة تمشي. الوضع مخيف فى كل حته، بشوف مدرعات في معظم الشوارع، بسمع انفجارات وضرب نار طول الوقت." وتضيف أن نيران الحرب طالت مقر جامعتهم قبل عامين في تفجير إرهابي ترك آثاره على مبناه الرئيسي وعدد من المباني الفرعية." وتصف ما تشعر به حيال الوضع بالقول: "هي باختصار مشاعر فتاة تقابل مسلحين ملثمين يرفعون أعلامًا سوداء في أول الشارع الذي تسكن به، وتشهد عملية قتل شرطيين في وضح النهار في نهايته."

رقية طالبة في كلية الإعلام بجامعة سيناء

وتشير رقية، 21 عاماً، الطالبة في كلية الإعلام بالجامعة ذاتها، إلى جانب آخر من معاناة الطلاب الجامعيين في سيناء بالقول: "مشكلة قطع الاتصالات أكثر ما يؤرقني؛ إذ تعتمد دراستي على الإنترنت بشكل كبير، ولأسباب أمنية يتم قطع شبكات الاتصالات والإنترنت خلال العمليات العسكرية، أو نتيجة لتضرر بنيتها التحتية نتيجة للتفجيرات الإرهابية، ما يضاعف قلق عائلتي في كل مرة حتى تعود الشبكات ليتمكنوا من الاطمئنان عليّ." وتتابع: "أصبحنا نعتمد على الخطابات المرسلة بالبريد لطمأنة عائلاتنا، وهناك طلاب يطلبون من سائقي سيارات الأجرة المتجهة خارج سيناء الاتصال بعائلاتهم لطمأنتهم عليهم بمجرد خروجهم من نطاق منطقة قطع الاتصالات." تصمت لحظات ثم تستدرك بتأثر: "يعني لو حصلى حاجه، أهلي ممكن يعرفوا بعد يومين."

إعلان

أصبحنا نودع عائلاتنا قبل توجهنا للجامعة وكأننا جنود في طريقهم لميدان حرب. ولا ينتهي الأمر بعودتنا إلى منازلنا بسلام؛ إذ تطاردنا كوابيس ما شهدناه

وتتحدث رقية عن صعوبات أخرى متعلقة بانعكاس الوضع الأمني في سيناء على الجانب العملي من الدراسة "كطلبة إعلام ترتبط دراستنا بالجانب العملي بإنتاج قصص صحفية أو تلفزيونية، لكن في سيناء يستحيل أن تخرج للشارع بكاميرا. يغلب الانفعال الفتاة التي لم تتخط عامها العشرين بعد، وتتابع بصعوبة: "من كثر ما عزلونا عن العالم بقينا نعرف أخبار أصحابنا اللي بيموتوا في العمليات الإرهابية بعد أيام." وتضيف: "أصبحنا نودع عائلاتنا قبل توجهنا للجامعة وكأننا جنود في طريقهم لميدان حرب. ولا ينتهي الأمر بعودتنا إلى منازلنا بسلام؛ إذ تطاردنا كوابيس ما شهدناه. لا يوجد أحد بين زملائي في الجامعة لم يعاني من تبعات صدمة الوضع في سيناء. تركت الأحداث بصمتها الكئيبة علينا جميعًا."

ولم يختلف الأمر كثيرًا مع يوستينا، 22 عاماً، طالبة بكلية الصيدلة بجامعة سيناء، إذ قالت أنها فقدت عدد من أصدقائها في عمليات إرهابية. تذكر منهم محمد راشد، طالب الهندسة وشقيقته آلاء، طالبة صيدلة، الذين قتلوا فى انفجار عبوة على شارع البحر، بالإضافة إلى زملاء دراسة وأصدقاء آخرين تم اعتقالهم للاشتباه. يلتقط طرف الحديث زميلها بنفس الكلية علاء، ويتحدث عن تجربة اعتقاله في نقطة تفتيش على أطراف مدينة العريش خلال توجهه للجامعة: "تفحص ضباط النقطة الأمنية أوراقي ثم قرروا التحفظ عليّ، رغم تقديمي بطاقتي الجامعية."

يوستينا طالبة بكلية الصيدلة بجامعة سيناء

يصف علاء "اسم مستعار" 20 عاماً، الأمر بأنه تجربة لا تنسى. بداية بالاحتجاز المؤقت في نقطة التفتيش، ثم تسليمه لقوة أمنية تولت نقله إلى مدينة الإسماعيلية، عكس اتجاه الجامعة، ليقضي ليلتين دون وسيلة اتصال بعائلته التي نهشها القلق، قبل أن يخلى سبيله دون مقدمات أو توضيح للأسباب. ورغم ما تعرض له طالب الصيدلة الشاب، إلا أنه يرى نفسه محظوظًا بسبب ما يصفه بـ "النهاية السعيدة" للحادث؛ إذ يكلف الأمر أحيانا أكثر من ليلتين بكثير."

إعلان

ولا تتوقف تبعات الأوضاع الأمنية في شمال سيناء عند الطلاب المغتربين عن المدينة فقط، خاصة خلال السفر والانتقالات، بل تمتد إلى آلاف الطلاب من سكان المنطقة المحليين، مع اختلاف المخاطر والمضايقات التي يتعوضون لها، إذ تزيد في حالتهم احتمالات التوقيف والاحتجاز، وتزداد المدد المحتملة لبقائهم رهن قوات الأمن بسبب حملهم أوراقًا ثبوتية تشير إلى انتمائهم إلى المنطقة، ما يقرن بهم إلى جانب لقب "سيناوي" الذي يشير إلى السكان المحليين بالمنطقة، وصف "مشتبه به محتمل" إلى أن يثبت العكس.

طلاب كلية الإعلام بجامعة سيناء خلال عملهم على مشروع عملي داخل الحرم الجامعي بسبب الأوضاع الأمنية

جمال الدين، 22 عاماً، طالب كويتي الجنسية يدرس بجامعة سيناء كذلك، ويؤرقه إلى جانب الوضع الأمني وانقطاع الاتصالات المتكرر، عدم قدرته على صرف التحويلات المالية التي يتلقاها من عائلته في الكويت شهريًا بسبب انقطاع الشبكات، ما يسبب له أزمات مالية، خاصة في الفترات التي يستمر فيها الانقطاع لعدة أيام.

صعوبة صرف التحويلات المالية على أهميته عند الطالب الكويتي المغترب، إلا أنه ليس شاغله الأكبر، وإنما الحفاظ على أمنه وسلامته الشخصية في مدينة تعيش تحت قرار متجدد بحظر التجوال، لذلك يخفف من خروجه للشارع، فلا يخرج إلا للضرورة القصوى، ويستعيض عن ذلك بالجلوس مع زملاء سكن الطلاب الملحق بالجامعة، أو يخرج لأماكن قريبة وفي أوقات مبكرة من اليوم. وأمام الملل المترتب على ذلك، وحالة التوتر الدائم التي يعيشها، يعزي جمال الدين نفسه باقتراب حصوله على شهادته الجامعية في ظرف استثنائي مثل الذي تعيشه سيناء الآن، في تجربة عملية وإنسانية يراها الأهم في حياته. وعلى كل الصعاب، يُثمن جمال الدين التجربة كونها قربته من زملائه المصريين الذين يألون جهدًا في توفير الحماية له، ولو بالنصيحة، فضلًا عن محاولاتهم مساعدته في الترفيه عن نفسه وتمضية الوقت خلال ساعات الحصار.

إعلان

لأسباب أمنية لا يمكنني العودة للمنزل يوميًا، لذا اضطررت للإقامة في المدينة الجامعية رغم أن المسافة لا تستغرق أكثر من 30 دقيقة في الأحوال العادية

ويختلف الوضع بالنسبة للفتيات من سكان سيناء، إذ يوفر عليهن ذلك متاعب السفر، لكنه لا يعني خروجهم من دائرة المتاعب. على العكس تمثل أزمة التنقلات اليومي من محال إقامتهم أزمة لا يشعر بها الطلاب المغتربون، إذ يسكن هؤلاء مساكن الطلاب القريبة من مقر الجامعة، فيما يبقى زملائهم من سكان مدينة العريش والمناطق المحيطة عرضة لقائمة طويلة من الاحتمالات تتناسب طرديًا مع بُعد المسافة عن مقر الجامعة، وتتضاعف فرص وقوعها يومًا بعد يومًا، بسبب اشتداد المواجهات المسلحة بين قوات الأمن المصرية والعناصر الإرهابية التي وسعت مجال استهدافها مؤخرًا ليطال المدنيين، دون تفرقة، وبشكل عمدي.

لتقليل المخاطر يلجأ بعض الطلاب، خاصة من الفتيات، للإقامة في السكن الطلابي أو المدينة الجامعية، على أن يقضون يومًا أو يومين أسبوعياً مع عائلاتهم. تقول أسماء، 20 عاماً، طالبة بكلية التربية بجامعة العريش وتقيم عائلتها بإحدى قرى مدينة سكان الشيخ زويد "لأسباب أمنية لا يمكنني العودة للمنزل يوميًا، لذا اضطررت معه للإقامة في المدينة الجامعية لأبقى طوال الأسبوع بعيدة عن عائلتي، رغم أن المسافة لا تستغرق أكثر من 30 دقيقة في الأحوال العادية."

سيارة عسكرية تمشط المنطقة المحيطة بجامعة سيناء في دورية روتينية

وتؤكد أسماء أن الأمر لم يكن سهلًا عليها في البداية، لكنها لم تعتد تمتلك خيارًا آخر أمام ما كانت تقضيه من وقت يوميًا في طريق الذهاب للجامعة والعودة منها يوميًا. "كنا ننتظر ساعات طويلة في نقاط تفتيش أمنية في طريقنا، وفي كثير من الأحيان كنا نضطر للترجل من السيارة واستكمال المسافة المتبقية سيرًا على الأقدام." وعلى الرغم من الإجراءات الاحترازية التي باتت جزء من الروتين اليومي للطلاب الجامعيين في سيناء، تبقى يد الإرهاب إليهم أقرب، بعد تفجير المبنى الرئيسي لجامعة سيناء، وإصابة عشرات الطالبات في حادث استهداف نقطة تفتيش (المطافئ) المجاورة للبنايات المخصصة لسكن الطالبات قبل عدة أشهر، بالإضافة إلى تكرار وقوع اشتباكات عنيفة قرب مقار الجامعات والكليات المختلفة.

ولا يختلف حال الأساتذة الجامعيين كثيرًا عن طلابهم، إذ يشاطرونهم المعاناة اليومية ومخاطر الوضع. تقول أمل نصر الدين، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بجامعة سيناء: "نعيش جميعًا المعاناة ذاتها، أساتذة وطلاب. مع فارق المسؤولية إذ نتحمل بالإضافة إلى تأمين أنفسنا، والحرص على أداء مهام عملنا في مثل هذه الظروف، تأمين طلابنا والتأكد من ملائمة ظروف الدراسة لسلامتهم وأمنهم، وإن كانت قدرتنا على ذلك باتت على المحك، مع تصاعد حدة العمليات الإرهابية، وتوسعها لتصل إلى معظم أنحاء محافظة شمال سيناء." وتختتم نصر الدين حديثها بالإشارة إلى محمد أبوشميط، آخر طلابها الذين فقدتهم خلال حادث استهداف مسجد الروضة بمدينة بئر العبد "قُتل عدد من طلابي منذ عام 2014. ربما يكون أبوشميط آخرهم، لكن وفقًا لمعطيات الأحداث فإنه لن يكون الأخير."