رأي

مسلسل جِنّ .. الثقافة المضادة على نتفليكس

تقبلون العنف وترفضون القبلات؟
جن
نتفليكس/VICE عربية

في ستينات القرن الماضي كانت أوروبا والولايات المتحدة تعيش ثورة ثقافية ضد أفكار عششت في العقول لعقود، فظهر مفهوم الثقافة المضادة Counter Culture، فوجدنا أغانٍ وأفلام وأعمال تلفزيونية تعكس هذه الثقافية الثورية المضادة للثقافة التقليدية السائدة Dominant Culture. في منطقتنا العربية، بدت الثقافة المضادة في الأفق مع اجتياح التغيير السياسي والاجتماعي منذ عقد تقريبًا، مع ثورات الربيع العربي، إذ نفض كثير من أبناء جيلنا عباءة العيب والسكوت وخرجنا للعالم بأفكار تبدو لكثيرين فجة ووقحة. ولم يبتعد ذلك عن الفنون بأشكالها، فالثورات العربية فتحت بابًا واسعًا للفنون جعلتها أكثر جرأة على الأقل اجتماعيًا. أحدث هذه المحاولات هي مسلسل "جِنّ" الأردني، أول مسلسل عربي أصلي تنتجه شبكة نتفليكس، والذي يحكي قصة مجموعة من الطلبة يتعرضون لمواقف مرعبة خلال رحلة إلى البتراء فيستحضرون بغير قصد قوى خارقة من الجن. أثار المسلسل ضجة كبيرة بعد عرضه على الشبكة مع مطالبات بوقف المسلسل الذي وصف بأنه انحدار أخلاقي، والسبب وجود بعض القُبلات ولقطات يُشرب فيها الخمر ويُدخن الحشيش مع بعض الشتائم التي نسمعها في شوارعنا العربية كل دقيقة.

إعلان

الضجة التي صنعها مُحبي الأخلاق الكريمة كانت خير ترويج للمسلسل، فمن لم يسمع عن المسلسل أو يهتم به، قام بمشاهدته - ومنهم أنا. ومن طالب بمنع عرض المسلسل - نداء ساذج للغاية، فالمسلسل لا يُعرض على التلفزيونات العربية الرسمية أو الخاصة حتى تطاله يد الرقيب - ساعد في زيادة الراغبين في المشاهدة لتنجح القاعدة الكلاسيكية، الممنوع مرغوب. لكن المسلسل لمن شاهده حقًا، يحتوي على مشهدي تقبيل فقط في الحلقة الأولى (وخلصنا على كده). ولكن هذا الأمر تطلب توضيحًا من عدة جهات ومنشورات من نتفليكس ضد التنمر الذي تعرض له فريق العمل وأخذ ورد لا يزال متواصلاً على وسائل التواصل الاجتماعي حتى اللحظة. ولكن للحقيقة، فإن الجزء الأفضل في كل ذلك هو الإعلان الترويجي الذي قدمته أبلة فاهيتا عن المسلسل، والذي وصفه البعض بأنه أفضل من المسلسل نفسه.

فكرة مسلسل "جِنّ" الذي قام بإخراجه اللبناني مير جان بو شعيا وحمزة مطالقة، وشاركهما في الإخراج التنفيذي الثنائي إيلان وراجيف داساني، ليست مبتكرة أو مختلفة، فقد ظهرت على الساحة العالمية مسلسلات كثيرة متشابهة آخرها مسلسل Stranger Things، أو فيلم Carrie المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لستيفن كنج: مجموعة من المراهقين، في المدرسة الثانوية يواجهون خطرًا غير مرئي، ثم يظهر من بينهم بطل أو بطلة تواجه هذا الخطر. الأمر الجيد في فكرة تقليدية مثل هذه إيقاعها السريع الذي يجذبك منذ الحلقة الأولى رغم وعيك بما سيأتي من أحداث، فكما تعلمون الإيقاع السريع ليس سمة لصيقة في الدراما التليفزيونية العربية بأي حال. تخيل أنك خلال خمس حلقات، حوالي 150 دقيقة، يمكنك الانتهاء من الموسم الأول من مسلسل "جن"- لم يحدث هذا أبدًا في حياتي في كل مرة أقرر فيها مشاهدة مسلسل عربي.

إعلان

ربما يكون التصوير أفضل مافي العمل، خاصة المشاهد الجوية لمعالم البتراء

بعيداً عن الجدل الحاصل، المسلسل ضعيف على مستوى القصة والحبكة وتطور الشخصيات، فعلى سبيل المثال، شخصية "فيرا" الجنية الشريرة، تجسدها عائشة شحالتوغ، يمكن للمشاهد من اللحظة الأولى أن يعرف أنها جنية من دون أي مجهود أو محاولة للتخمين. نص المسلسل، كُتب بالإنجليزية أصلًا وتم تحويله للعربية بين ممثلي العمل أثناء مرحلة التحضير، مما جعله حوارًا ساذجاً في كثير من الأحيان. فمثلًا الحوار كان كوميدياً رغم ثوب الجدية الذي ترتديه ليلى التي صارت ملبوسة من الجن وصديقها ناصر حول تغيير العالم إلى الأفضل من خلال الاتحاد بين الجن والإنس، أي اتحاد حبيبين سيحول هذا العالم للأفضل؟ كذلك شخصية ياسين، البطل الرئيسي الذي يقتنع بسهولة شديدة أن يتحد مع الجنية الشريرة (فيرا).. لماذا؟ لأنه لا يستطيع دفع قسط المدرسة وزوج أمه يعامله بشكل سيء، عن جد؟ بهذه الطريقة، سيتحد نصف العالم مع جني وجنية وننشئ مملكة من ممالك ألف ليلة وليلة الساحرة.

1560682011168-jinn-netflix-headphones

ميرا (سلمى محلس)/نتفليكس

أعمال الغرافيك داخل العمل مع ندرتها إلا أنها حتى لم ترق لمستوى مسلسل يُعرض على شبكة عالمية، فمثلًا مشهد المرحاض ونزول الماء من الصنبور الذي يتم خلاله استدعاء الجن الطيب "كيراس" الذي يجسد دوره حمزة عُقاب، مثير للضحك أيضًا، فشكل الماء يبدو كسلاسل الـ DNA. أما موسيقى العمل فلا علاقة لها بحالة المسلسل التي تقدم لنا صورة عن حضارة نشأت قبل الميلاد وأسرار الجن التي مازال ساكنو البتراء يتحدثون عنها، موسيقى لا تجعل المشاهد يرتبط بالمكان أو الثقافة الأردنية. ربما يكون التصوير أفضل مافي العمل، خاصة المشاهد الجوية التي تصور معالم البتراء وبعض المشاهد التي حاول المخرجين أن يقدموا فيها صورة بها قدر من الإثارة والتشويق من خلال استخدام الإضاءة الخافتة.

إعلان

السؤال الذي أشعل وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، هل هؤلاء المراهقون يعبرون عن الواقع والثقافة الأردنية؟ أثار هذا السؤال ردود أفعال وصلت للمطالبة بمحاكمة فريق عمل المسلسل. ولكن هل يُعقل أن يستطيع عمل فني رسم ثقافة وواقع متشعب في أي بلد؟ هل يمكنه تمثيل ثقافة هذا البلد أو جعل صورته سيئة أمام العالم؟ للأسف تلك هي الأسطورة التي اعتدنا عليها لعصور فيما يتعلق بالثقافة والقومية العربية. لا نريد أن يتم رسم صورتنا بشكل سلبي حتى لو كانت هذه السلبية حقيقية، على اعتبار أن السلبي والإيجابي شيء مطلق وغير نسبي. الحوار الذي من المفترض أنه أغضب البعض دار في المسلسل بين شابين وعبر أحدهما عن رغبته في مضاجعة بطلة المسلسل، ألا تعلمون أن مثل الأحاديث تدور بين الشباب؟ أم أن الأردن وباقي الدول العربية مدن فاضلة؟

سواء اختلفنا أو اتفقنا على محتوى المسلسل (الضعيف)، لكنه خطوة مهمة في صناعة دراما صادمة لكل ماهو راكد في مجتمع تملؤه التناقضات ويكسوه النفاق ويَدعي تقبل الإختلاف واحترامه

مخرج العمل مير جان بو شعيا أكد أن العمل يمثل المراهقين في المنطقة، ولا يوجد فيه أي صور نمطية أو خاطئة، بل اعتبره فرصة عظيمة للآخرين صناعة مسلسلات مختلفة. أما حمزة مطالقة المخرج المشارك في العمل فقد دافع عن العمل قائلاً: "تقبلون العنف وترفضون القبلات." هذا التصريح يؤكد ما ذكرتُه سابقاً عن الثقافة المضادة التي صارت أوضح خلال الأعوام الماضية في منطقتنا. فعبارة مطالقة لا تختلف إطلاقاً عن الشعار الذي أطلقه الأمريكيون أثناء حرب فيتنام: Make Love Not War.

لستُ في مجال للمقارنة بين المشهد الحالي في المنطقة العربية وحرب فيتنام، لكن ببساطة، هذا الجيل منذ تكون وعيه تجاه العالم لم يشاهد سوى الانتفاضات والاحتلال والغزو والحروب والثورات والاستبداد والمجاعات والجثث المتناثرة على الشاشات. وفي نفس الوقت يتم حثه على عدم اقتراف أي ذنب والتحلي بالخلق الكريم دون حديث عن الشأن العام الذي يؤثر علينا بشكل يومي. كيف لهذا الفصام الذي جُبلنا عليه في منطقتنا ألا يخرج للنور ويُواجَه؟ الواقع الذي انخدعنا فيه لعقود كشف عن وجهه القبيح خلال هذه السنوات، لماذا إذًا لا نكشف له عن وجهنا الحقيقي أيضاً دون خوف؟ عن رغباتنا ومخاوفنا وأحلامنا، حتى لو كان ذلك "صادماً"؟

إنكار وجود مجتمع يبدو بالنسبة لكثيرين غير محافظ أو غير متدين ويحمل قيماً لا تمثلنا، هو بالضبط مثل إنكار عدم وقوع جرائم التحرش والاغتصاب وزنا المحارم في المجتمع. نرغب في أن يكون لدينا مجتمع ذو نمط واحد، قالب لا يتغير، وإن تغير وخرج عن الشكل المعهود، طالبنا بإقصائه ومحاكمته أو قتله وجعله عبرة لمن لا يتعظ.

سواء اختلفنا أو اتفقنا على محتوى المسلسل (الضعيف)، لكنه خطوة مهمة في صناعة دراما صادمة لكل ماهو راكد في مجتمع تملؤه التناقضات ويكسوه النفاق ويَدعي تقبل الإختلاف واحترامه. فإن لم تستطع الثقافة المضادة أن تحيا من خلال السياسة والحراك المجتمعي، فليكن الفن حاملًا لرايتها. أما أصحاب الوصاية الأخلاقية فلهم الحق ألا يشاهدوا هذا العمل الذي لا يمثل الثقافة الأردنية العربية، هذا قانون المشاهدة البديهي، إذا لم يعجبك الفيلم أو المسلسل أغلق التليفزيون أو لا تتصفح الإنترنت، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

لا أتوقع أن يتوقف هذا جدل "الأخلاق والتقاليد" قريبًا، فمن المقرر عرض المسلسل الأردني "مدرسة الروابي للبنات" من تأليف وإخراج تيما الشوملي بالتعاون مع شيرين كمال على نتفليكس قريباً، وهو بطولة نسائية ويتحدث عن عالم الفتيات المراهقات. لنا أن نتخيل ما الذي سيحدث عند عرض مسلسل مثل هذا قد يناقش قضايا السلطة الأبوية أو الدين أو الهوية الجنسية.