معرض أرقام الفني: مقعد عربي على طاولة الفن الرقمي والبلوكتشين

الفن حيز متغير٬ قابل للتشكيل والعبث. عند دخول تقنية البلوكتشين على تطبيقات الأموال والإقتصاد لم يكن من الواضح بعد إن كانت هذه التقنية ستتمدد لتشمل مواد أخرى يتداولها البشر رقميًا. ولكن سرعان ما اكتسحت تطبيقات البلوكتشين مجال الفنون الرقمية لتصبح عنوان رائجًا وحلبة للتجارب بين مؤيد ومعارض لتصادم هذه التقنية مع الفن وآثارها الجانبية على التعاطي مع العروض الفنية. 

يجتمع ٢٤ فنانة وفنان من دول عربية وافريقية وآسيوية على منصة البلوكتشين blcok chain، في معرض رقمي مشترك تحت عنوان "أرقام." يجمع المعرض ممارسات فنية مختلفة تنوعت بين أعمال بصرية وسمعية بالإضافة الى الرسم والكتابة والتصميم٬ وضعت في صيغة الرموز غير قابلة  للاستبدال NFTs كخطوة نوعية للخوض في تجربة العروض الفنية والتعاطي مع هذه التكنولوجيا الحديثة. يقام المعرض على موقع أرقام، وينقل المشاهد في رحلة ذهنية بين عوالم مختلفة تتأرجح بين قصص مستوحاة من أحداث الواقع، ورمزيات غامضة من الخيال.

في خضم الحديث عن تقنية الـNFTs وآفاق التغيرات التي يمكن أن تحدثها -أو بدأت بإحداثها في عالم الفن وإدخال صكوك الملكية وعمليات البيع والشراء، قد يغيب عن النقاش التجربة الفنية وماهيه الفن في هذه المساحة، تحديدًا عن كيفية إنعاش الفن وخلق قوالب جديدة لا تتعلق بمظهر القطعة وطريقة عرضها، بل أيضًا بمعالجة الجوانب العاطفية والفكرية للأعمال الفنية، والتي تقع في جوهر النقاش حول ممارسة الفن المعاصر ودوره في النشاط الثقافي وتسليط الضوء على رسائل مهمة كالهوية الجندرية وتغير المناخ والمعارضة السياسية. 

أرقام هو المعرض الأول لمنصة وزارة والذي تطمح من خلاله الى تحفيز النقاش حول تدخل تقنية البلوكتشين وتفرعاتها في الوسط الفني العربي وإنشاء تعاونات عابرة للقارات بين الفنانين العرب وفنانيين من ثقافات وخلفيات مختلفة حول العالم. يتزامن المعرض الذي تم افتتاحه ابتداءً من ١٤ نوفمبر وحتى ٤ ديسمبر مع إقامة مؤتمر مختص بالإنتاج الرقمي المحلي وتقنيات البلوكتشين. وإلى جانب هذه الفعاليات سيتم عرض المجموعة كذلك في حلة ثلاثية الأبعاد لتجربة أكثر تفاعلية.

معرض "أرقام" لا ينظر لتقاطعات الفن مع مساحة البلوكتشين كفرصة استثمارية فحسب، بل يقدم مجموعة مميزة من الأعمال المعاصرة يطرح كل عمل فكرة من سياق ثقافي جغرافي مختلف بين مصر وأرمينيا وكينيا وصولًا إلى كوريا الجنوبية.

"يسعى معرض لتقديم منظور جديد ضمن هذه المساحة المستجدة خارج عن الهيمنة الغربية كما يجري في شتى مساحات الفن المعاصر التقليدية،" أشار أدهم حافظ الشريك المؤسس لمنصة وزارة القيمة على المعرض- في كلمته الافتتاحية خلال المؤتمر الصحفي المرافق للإعلان عن المعرض. وأضاف: "الفنانين من خارج الدول الغربية لا يحضون بنفس الفرص والمساحة للاستفادة من التقنية أو الوصول لنفس المصادر والحيز للتجريب في مساحات الفن المعاصر خصوصًا المتقدمة تقنيًا. هذه المنصة تسعى إلى كسر هذه الحواجز."

عند التجول في المعرض الافتراضي، يمكنك أن تلاحظ أن الأسلوب المشترك بين الأعمال المعروضة هو استخدام عناصر التجريب الإبداعي والتجريد. في مجموعة بعنوان "جنة الذكاء الاصطناعي" يستخرج الفنان أحمد الشاعر نصوصاً من كتب مقدسة وأديان مختلفة لدمجها مع خوارزمية ممرنة. تلقائياً، يتمكن من توليد سلسلة فريدة من نوعها تنقل النص إلى صورة بصرية. تهدف هذه السلسلة إلى الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية مثل: ما هو أقرب تصور بصري لشكل الأنهار في الجنة حسب وصف النصوص الدينية؟ خلال هذه التجربة، لم يتدخل الفنان في النتائج التي ولدتها تحليلات الآلة وقام بمراقبة إنتاج سلسلة من الصور والرسوم المتحركة التي تجمع بين الجماليات البصرية واسئلة وجودية حول خيالات ما بعد الحياة. 

ويضيف الفنان في شرح المجموعة: "إنها تجربة جذرية في الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه الفن الإسلامي في القرن الحادي والعشرين، بعيدًا عن التوقعات النمطية والصور الاستشراقية. لوحات مغرية ومرعبة. تتلاعب الصور بإدراكنا، مما يزعج توقعاتنا للشكل والمعنى، بينما نحدق في هذه الأعمال التي تم خلقها من قبل وكيل غير بشري."

مصممة الرقصات السورية مي سعيفان تشارك في المعرض ببحثها "مشروع المنامات السورية" الذي يضم العديد من القصائد ومقاطع الفيديو وعروض الرقص والتركيبات المبنية على الأحلام التي تم جمعتها من لاجئين سوريين في الشتات وفي داخل سوريا التي مزقتها الحرب. ترى سعيفان "البلوكتشين كمساحة للبحث في الأحلام، من خلال تكثيف الرموز والسرعة." "احذر أرضية مبتلة " هي مجموعة أعمال فيديو أدائية تتنقل بين الفكاهة السوداء، والكوارث البيئية. في عمل آخر، تظهر "عروس البحر" مستلقية في وسط الصحراء العريبة "محبوسة في دورة ابدية، كمجموعة من الرموز والأرقام علقت في البلوكتشين."

في بعد مختلف، يصور الفنان عمر حسين في مجموعته بعنوان "نمو" تطوره الذاتي عبر لوحات تظهر فيها أجسام بشرية برؤوس أشجار ويربط من خلالها مفهوم النمو الذاتي على الصعيد الفردي وترابط نمو البشرية مع الحفاظ على الطبيعة على نطاق أوسع.

"تتمحور هذه اللوحات حول فكرة النمو والتغيير الذاتي واستكشاف الذات الداخلية من خلال ثلاث لوحات رقمية ممتلئة بالألوان القوية وأشكال تجمع الجسم البشري مع النباتات التي تنمو في صورة تفاؤلية تدعو إلى التذكير بأن مستقبل البشرية مرتبط بمستقبل الطبيعة،" حسب الوصف المرفق على موقع المعرض.

يتحدث عمر لـ VICE عربية عن تجربته في معرض أرقام: "إنها تجربة جديدة، كلنا جدد عليها ونشعر بالحماس لتجربة شيء جديد. كفنان فإن هذه التجربة تحمل حلول لكثير من المشاكل التي أواجهها حيث أن معظم أعمالي الفنية رقمية. أعتقد أن مساحة الـ NFT  توفر بديلًا للفنانين الذين لا يعملون مع وسائل الإنتاج الفني النمطية."

منى جميل، فنانة ومصممة رقص مصرية-ايرلندية، تشارك في معرض "أرقام" في عملها الفني شفيقة الذي يسلط الضوء على شخصية راقصة الكباريه شفيقة القبطية من خلال دمج مواد من الأرشيف مع أدوات الذكاء الاصطناعي. تشير جميل إلى أن مقايضة الأعمال الفنية والحديث عن العمل الفني مقابل القيمة يلازم الفنانيين منذ الأزل. وتضيف: "وجود حركة بيع وشراء للأعمال الفنية ليس جديدًا، ولكن ما أحدثته تقنية الـNFT هو سرعة حدوث عمليات التبادل ووجود سجلات عامة يمكن لأي أحد الإطلاع عليها. أعتقد أن تسليط الضوء على الفن الرقمي من خلال هذه التقنية سيغير مفهوم الذوق الفني التقليدي."

لا يسعنا الحديث عن جميع الأعمال الفنية في المعرض، ولكن السيريالية والابتكار التي برزت في هذه المجموعة ممتعة وجميلة بحد ذاتها، وقد أضفت مساحة للمشاهد أن يصنع انطباعاته الشخصية عن المعاني ونجحت في نقل مسائل فلسفية وسياسية واجتماعية خاصة بالمنطقة إلى هذا البعد الرقمي. لا شك أن التطورات في عالم الفنون الرقمية جعلت من الـ NFT فرصة جذابة لعرض وتبادل القطع الفنية دون العبور من خلال المؤسسات التي قد يكون منظورها للفن ما يزال محافظاً، ويخضع لمعايير اختيار مقتصرة على فئات ومجالات تتماشى مع الذوق العام.

الطفرة الأولى من الأعمال الفنية التي عرضت على هذه المساحة جلبت معها نوستالجيا البيكسل آرت - هو نوع من الرسم الرقمي الذي نشأ مع بداية استخدام أدوات التكنولوجيا في الرسم وأصبح بدائيًا مع ظهور أبعاد ثنائية وثلاثية (وأكثر) في الفن.

إن الرواج البيكسل آرت ومبيعاته الكبرى، شككت الكثيرين في جدية تطبيق الـNFT بالنسبة للفنانين المهنيين في هذا المجال، وطرحت العديد من الأسئلة التي لا يمكن تفاديها في خضم النقاش منها مثلًا، هل ينخرط الجمهور في تبادل قطع الفن الرقمي بدافع التذوق الفني؟ أم يتبادلها كعملات رقمية مع حركة الأسهم من دون إبداء اعتبار لقيمتها الفنية أو القصة التي تحملها؟ وكيف يغير هذا النشاط دوافع الإنتاج الفني في هذه المساحة؟ لا نزال نحتاج لبعض الوقت للإجابة على كل هذه الأسئلة.