امومة

رسوم كريستينا عتيق

رأي

إجازة الأمومة... أم الإجازات

الإنجاب والولادة هما التكريس الحقيقي لواقع اللامساواة بين الجنسين - للظلم الواقع على رؤوسنا نحن النساء

التكاثر، صفة مشتركة بيننا نحن بنو البشر وبين كل الكائنات الأخرى من القردة والحمير إلى دود القز وشجر التوت. كلنا نتكاثر لكن ما يميزنا نحن عن غيرنا من الكائنات لا سيما في المجتمعات المعاصرة إننا قررنا أن نكرم المنجبات من النساء بـ "إجازة" ولا كل الإجازات… "إجازة" الأمومة! وكي لا أقول شيئاً آخر سأقول سامح الله من أسماها إجازة. فقد تربينا في التعليم المدرسي الأولي أن الإجازة فترة للراحة وكنا نكتب مديحاً في مواضيع الإنشاء عن إجازات الصيف والشتاء وغيرها من الإجازات.. لكنهم لم يعلمونا يوماً عن "إجازة" الأمومة.

إعلان

قالوا لنا أيضاً أن الجنة تحت أقدام الأمهات وتناسوا أن يذكروا لنا أن الأمهات يعشن كل أنواع الجحيم من اللحظة التي يبدأ فيها طلق الولادة وأحياناً يبدأ الجحيم مع أول أيام الحمل حتى آخر لحظة من الوضع. في الواقع ومن خبرتي الشخصية يمكنني القول بكل ثقة أن الانتقال إلى مرحلة الأمومة والتحول إلى أم يعني وبصراحة نهاية كل الإجازات - ربما إلى الأبد.

خلال نقاش دار بيني وبين زوجي بعد يومين من إنجابي لطفلتي الأولى هذا العام في عمر الـ 33، وذلك على ناصية طريق في إحدى المقاهي الباريسية المواجهة لعيادة التوليد، قال لي أن الطبيعة كرمت المرأة وفضلتها على الرجل عندما أعطتها حصرية القدرة على الحمل والولادة -ونِعم التفضيل! كنت احتسي أول فنجان قهوة غير منزوعة الكافيين بعد 9 أشهر من صيامي عنها وعن أشياء كثيرة أخرى كنت أود ألا تكون مضرة للجنين -ووددت أحياناً خلال حملي أن لا أعرف هذا الكم الهائل من المعلومات عما هو مُضر وعما هو مُفيد. أصلاً وددت أن اتخلص من ادماني على محرك غوغل للبحث عن أي شيء يبدأ بـ: حمل حامل ولادة جنين رضيع/ة الخ… و"منه لله" مَن اخترع غوغل كي لا أقول شيئاً آخر. هل كرمتني الطبيعة فعلاً؟ لا أعلم، الإنجاب والولادة هما التكريس الحقيقي لواقع اللامساواة بين الجنسين، هما التكريس الحقيقي للظلم الواقع على رؤوسنا نحن النساء منذ فجر التاريخ. أقول هذا بمعزل عن كل المنطق النسوي فأنا لا أؤيده بشكل مطلق.

دعوني أفسر أكثر. كيف تكون الطبيعة قد كرمتني بمخاض دام أكثر من 25 ساعة ذقت خلالها مرارة الانتظار ورعب الخوف من المجهول ولسعات الوجع الذي لا يطاق وضعف الجسد الذي فرغ من طاقته ودمائه وحُرمته؟ كيف تكون الطبيعة قد كرمتني عندما أشارف على الموت بسبب نزيف حاد وأتقيأ فراغ أمعائي مراراً وتكراراً من شدة العياء بعد أن دفعت ودفعت ودفعت كي أخرج روحاً من روحي؟ كيف تكون الطبيعة قد كرمتني عندما يستباح جسدي بأياد وادوات تسحب رضيعتي من احشائي؟ كيف؟

إعلان

قد يُفسر المغرضون من الذكوريين، نساءاً قبل الرجال، كلامي بأنني لا أقدر الأمومة أو لا أحب طفلتي؟ ولكن شعوري عند لقائي بالروح التي أنجبتها لا تصفه كلماتهم ولا كلمات أي لغة من اللغات التي أجيدها -مع أنني لست مضطرة لإثبات حبي لطفلتي لأي أحد. لكن شعوري هذا كوم وغرقي في دمائي وأوجاعي ووهني كوم آخر. دعوني، أخبركم عن الكوم الآخر. عن كل ما تحاول معظم النسوة طمسه في جحور الذاكرة… عن الكيس الذي تجمع فيه البول على مدى يومين، عن الإبر التي فزرت جلدي في الكفين والذراعين وأسفل الظهر، عن أكياس المصل التي علقت على يمنتي ويسرتي، عن حبوب الدواء التي ما زلت أزلط بعضاً منها حتى اليوم، عن الدموع التي بللت وجهي طوال الأيام الأولى، عن عدم تمكني من قضاء حاجتي بشكل طبيعي، عن كرهي لحياتي وللزواج والمتزوجين، عن عدم قدرتي على الوقوف أو المشي لأكثر من يومين، عن وجع الثديين بسبب الرضاعة، عن الضياع والوحدة وعن الخوف الذي اجتاحني كلما نظرت إلى طفلتي وهي نائمة بجانبي… عن الخوف الذي لم يتوقف ولن يتوقف مدى العمر… عن خوفي عليها.

ما رأيكم بهذه الاجازة؟

لم أنته بعد…

ما أثار ويثير حنقي أكثر هو جمل كهذه تكررت على مسامعي: "بكرا بتنسي كل شي… بيكفي تطلعي ببنتك حتى تنسي… في نسوان بيتمنوا يكونوا محلك…كلو بيهون قدام انك صرتي إم…"

ما الذي سيهون؟ وكيف أنسى وبعض آثار هذا المخاض سترافقني مدى العمر؟ قد يقول البعض، إذهبي لمعالج نفسي، هذه أعراض اكتئاب ما بعد الحمل. طيب، منطقي، المعالج النفسي قد يساعد في إزالة الأثر المعنوي لهذه التجربة، ولكن من الذي سيزيل بقاياها وندوبها من الجسد؟ من الذي سيعيد شكل العضو التناسلي كما كان؟ من الذي سيزيل تشققات الجلد؟ ومن سيرفع النهدين إلى الأعلى -باستثناء أطباء التجميل. ماذا عن الشعر الذي يتساقط؟ والبشرة التي تجف؟ والعينين الغائرتين؟ وقلة التركيز؟ وأوجاع الظهر؟ والنعاس المزمن؟

إعلان

وتأتيك نساء يقلن انهن عشن تجربة ولادة "رائعة" حتى أن بعضهن يفتخرن برفضهن المخدر النصفي…لأولئك النساء أقول: أنا لا أصدقكن ولا أتضامن مع "بطولاتكن" ولن أصفق "لشجاعتكن"

وتأتيك نساء يقلن انهن عشن تجربة ولادة "رائعة" حتى أن بعضهن يفتخرن برفضهن المخدر النصفي بحجة أن الانسياق مع "الطبيعة" صحي أكثر ومفيد للمرأة ولجنينها. لأولئك النساء أقول: أنا لا أصدقكن ولا أتضامن مع "بطولاتكن" ولن أصفق "لشجاعتكن." هذا رأيي الشخصي جداً، أنا لا أصدق كل هذا السيناريو الزهري فقد صَدق من سمى العملية التي تسبق الولادة "مخاضاً" فهي توازي بوقعها أثر الحرب على جندي اصيب وعاد إلى بلاده معطوباً بعد أن خاض المعركة وانتصر. يجب أن يكون له أيضا هو الآخر "إجازة" على شاكلة إجازات الامومة… قرأت مرة عن الجنود الأمريكيين العائدين معطوبين من حروبهم وعن إجازاتهم التي غالباً ما تنتهي بالانتحار. تخيلوا معي لو انتهت غالبية "إجازات" الأمومة على الطريقة الأميركية! هاها.

ومن ثم تأتيك نساء قررن البوح بفظاعة ما عِشنه في ولاداتهن خلال زيارات التهنئة بالمولود الجديد أي حين يكون السيف قد سبق العذل. ترو تار كما يقول الفرنسيون! لماذا قررن البوح بذلك الآن؟ لأنهن يشأن بث الرعب في قلبي خلال الحمل. طيب ما كنتوا نورتونا شوي؟ تفاديا للصدمة يعني!

الصدمة، هو عنوان المرحلة التي تلي الولادة خلال هذه الاجازة الممتعة. صدمة لا يمكنك سيدتي أن تعالجيها كما يجب لأنك ستكونين تائهة بين قلة النوم والتعود على الرضاعة وتغيير الحفاضات والحمام وغسل الثياب والتوضيب وإيجاد وقت لتناول الطعام أو دخول الحمام أو الاغتسال بالإضافة إلى شؤون الحياة الخارجية كالتصريح عن الضرائب وتنظيم الأوراق الطبية وزيارة طبيب الاطفال واستقبال المهنئين وتزيين كاسات المُغلي* وغيرها الكثير الكثير.

إعلان

في هذه "الإجازة" الغريبة، هناك سرعتان للزمن… الأولى، قبل الولادة وهي بطيئة وثقيلة ومحفوفة بالتشويق والثانية، والمولود بين يديك، سرعة على الأغلب كسرعة الضوء لا تميز الأمخلالها الليل من النهار ولا البرد من الدفء ولا الأخضر من اليابس

في هذه "الإجازة" الغريبة، هناك سرعتان للزمن… الأولى، قبل الولادة وهي بطيئة وثقيلة ومحفوفة بالتشويق والثانية، والمولود بين يديك، سرعة على الأغلب كسرعة الضوء لا تميز الأم خلالها الليل من النهار ولا البرد من الدفء ولا الأخضر من اليابس. تختلط الأمور حتى الكلمات تضيع عن اللسان. ينهك العقل وتتعب العضلات وتخور القوى وينعقد الحاجبان.

تمر الأيام كالبرق وتتراكم الواجبات وتتكاثر المهام وفجأة، يقترب موعد النهاية… نهاية "إجازة" الأمومة، والذي هو إعلان العودة إلى الحياة التي سبقت درب الجلجلة هذا مع فارق بسيط، أن كل ما ذكرته أعلاه من شقاء يومي لن ينتهي مع انتهاء هذه "الإجازة." كله سيستمر ومعه بالتوازي ستعودين سيدتي، بأغلال الأمومة الابدية، لتكملي مسيرة إثبات النفس في حياتك المهنية ولتساهمي في الدورة الاقتصادية ولتدفعي بعجلة النمو العالمية يداً بيد مع زميلك الرجل الذي لن يحمل ولن يلد ابداً، لكنه يجني أجراً أعلى منك فقط لتمتعه" بنعمة الخصيتين."

عندما تحدثت إلى طفلتي للمرة الأولى… ذاك الحديث الأول… من جملة ما قلته لها كان:" لك عمري وصحتي وما أملك وما أشعر وما اتنفس. لك كل حياتي… لكنك ستحملين لي جميلاً واحداً وهي حريتي… فمنذ أخرجتك من احشائي صرتي محفورة في بالي، في باطن عقلي وظاهره، أفكر بك مع كل نفس اتنفسه، ومع كل نبضة في قلبي أحبك اكثر."

كل هذه الأحداث* وغيرها الكثير مما لم أذكره في هذا النص هو واقعي وحدث خلال "إجازة" الأمومة، أمُّ جميع الإجازات، الآن ومن قبل وفيما بعد… باختصار، هي" إجازة" فيها ما لا يُعدّ من البدايات وما لا يحصى من النهايات.

*المُغلي هو عبارة عن طبق حلويات يقدم في بلاد الشام للمهنئين بولادة طفل/ة، يصنع من الأرز المطحون وبهارات القرفة والكراوية والسكر ويزين ببرش جوز الهند والفستق الحلبي واللوز والجوز والصنوبر.

**نص كتب على مراحل وتم في أواخر ابريل 2019.