"التاريخ يُعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة".. مقولة شهيرة لماركس ترجمها الممثل اللبناني زياد عيتاني واقعيًا، بإعادة مأساته وتجربته المؤلمة كمتهم سابق بالتجسس لحساب جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، بالسخرية منها وممن اشتركوا فيها من خلال العمل المسرحي "وما طلت كوليت" الذي احتشد له جمهور كبير من داخل لبنان وخارجها وحقق نجاحًا مبهرًا خلال عشرات العروض حتى الآن.على الرغم من أن القصة وتفاصيلها كانت شبه معروفة لكل لبناني؛ إلا أن عيتاني جعلها رمزية أسقط خلالها تفاصيل مأساته على كثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية في بلده، فبدلاً من مهنته كممثل وصحفي جعل وظيفة الشخصية الرئيسية "فوزي فوزي" عامل توصيل بفرن للمعجنات والمناقيش، والذي تبدأ مأساته بحادثة سير تجرأ خلالها وقام بتوبيخ سيدة نافذة في الدولة كانت تقود سيارتها وهي تتحدث في الهاتف، فكادت أن تقتله دهساً؛ ليتم عقابه باتهامه بالتهمة الأكثر بشاعة وإخلالاً بالشرف وهي العمالة والتجسس.
إعلان
وعلى خشبة مسرح "مترو المدينة" بوسط العاصمة اللبنانية بيروت وقف فوزي "عيتاني" مقيدًا بالأصفاد ومعصوب العينين أمام ضابط تحقيق لا يعرف تهمته في البداية، ليبدأ المحقق غريب الأطوار باستجواب متهم حول تهمة لا يعرفها كلاهما بعد ممسكاً بمبسم الشيشة، والغريب أن تدخين المحقق للشيشة أثناء التحقيق لم يكن تعبيرياً على حد كلام عيتاني لـ "VICE عربية" وإنما كان مشهدًا حقيقيًا عاشه بعد ساعات من القبض عليه.
التقطت الصورة بواسطة مروان طحطح
"أنت متهم بالتخابر مع أجهزة مخابرات أجنبية لاغتيال وزراء ومسؤولون وشخصيات سياسية لبنانية".. هكذا جاء الاتهام لفوزي عبر ورقة تم تمريرها للمحقق؛ لتبدأ السخرية الحقيقية فتحت التعذيب والتهديد بزوجته وطفلته يبدأ بالاعتراف الهزلي الذي اكتمل باسم "كوليت"، عنوان العرض الذي يعود لضابطة الاستخبارات الإسرائيلية المتهم بالتواصل معها، والذي جاء اسمها عبر مزحة من المتهم الذي أجاب عند سؤاله عن اسم مشغله داخل الموساد فلم يجد إلا اسم "كوزيت" بطلة مسرحية البؤساء لفيكتور هوجو ليُحرّفها المحقق إلى كوليت، وليس الأشد غرابة في الموضوع أنه مزحة مسرحية وإنما أنها كانت تفصيلة حقيقية في إطار التحقيقات مع عيتاني، الذي استخدم السخرية والحركات الاستعراضية في عرضه مثلما فعل في التحقيق الذي تم داخل جهاز الأمن ظناً منه أن ما يحدث شيء هزلي وليس تهمة حقيقية.وكان لافتاً في العرض استخدام مقاطع فيديو مصورة أو مدبلجة مسبقًا وعرضها على المسرح لتوضيح بعض التفاصيل مثل مشهد دهس البطل بسيارة السيدة النافذة، إلى بعد منشورات الفيسبوك من أصدقائه وجيرانه وزملائه في العمل، ثم مشهد تم اقتباسه من مسلسل رأفت الهجان تم إعادة دبلجته بشكل كوميدي يليق بالحادث والعرض، بالإضافة إلى موسيقى المسلسل التي تخللت بعض المشاهد والفواصل والتي أدخلت الجمهور في جو عالم المخابرات لما للمسلسل المصري من شهرة.
إعلان
"مسلسل رأفت الهجان يُعد جزء من التراث والتاريخ الفني للمنطقة العربية لذا كان وجوده في العرض ضرورة "هكذا يقول خالد صبيح، أحد أبطال العرض وأحد كتابه أيضاً، والذي يُضيف: "قبيل القبض على زياد كنا مندمجين كفرقة مسرحية في المسلسل وأطلقنا أسماء أبطاله على بعضنا البعض، وكذلك الأماكن مثل إطلاق اسم "الهستدروت" –اتحاد نقابات العمال الإسرائيلية الذي ورد في المسلسل - على المسرح وهكذا، فكان إقحام المسلسل وموسيقاه المبدعة وأحد مشاهده تعبيراً عن حالة العرض وعن تأثر المجتمع اللبناني بالعمل".
التقطت الصورة بواسطة عصام عبدالله
أما دور الإعلام والصحافة ومنشورات أصدقاء فوزي فاحتلت مساحة كبيرة من التركيز، حيث تم عرض أجزاء من الحلقات التلفزيونية التي تناولت قضية عيتاني والذي كان أوضحها جزء من حلقة للإعلامي المصري عمرو أديب الذي اتهمه بالتخابر مقابل مبالغ مالية تراوحت بين 500 وألف دولار شهرياً، والذي قام مؤخرًا عيتاني برفع قضية عليه في المحاكم اللبنانية يُطالبه بالتعويض وفق حديثه لكاتب المادة.أما الاسقاطات السياسية والطائفية داخل لبنان فلم تغب بطبيعة الحال عن السيناريو، من التلميح حول التوريث وعلاقات النسب والمصاهرة بين السياسيين اللبنانيين، والتلميح لأوضاع بعض الطوائف داخل لبنان، إلى الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي تطال الفقراء الذين يتعرضون للظلم والاضطهاد.أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت بيه صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج…قمتوا ليه؟ خفتوا ليه؟
لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس.عبرت الاقتباسات الموسيقية في العرض عن تأثر كبير للمؤلفين بالفن والتراث العربي عموماً حيث تم ترديد العديد من الأغاني التراثية بكلمات جديدة منها أغنية "يا ولاد حارتنا" من التراث الفلسطيني إلى "يالمنفي" من التراث الجزائري، إلى رباعيات الشاعر المصري صلاح جاهين إلى استعراض الأنماط الموسيقية لأشهر الملحنين المصريين السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي.زياد شكرون…الطيب والشرس والمريب
أما عن الأداء المسرحي للممثلين فقد كان لافتاً مدى إتقان الشخصيات المتعددة لكل ممثل في فصول العرض الثلاثة، غرفة التحقيق وقاعة المحكمة وزنزانة الحبس، وكان أبرزهم زياد شكرون الذي لعب أدوار المحقق والمحامي والنصاب رفيق فوزي في محبسه، وكان تبديل الأداء بهذه السرعة لافتًا وعن ذلك يقول شكرون "كانت الأدوار شبه مرسومة في مخيلتي، وكانت تسمح بالكثير من الخيال، فالضابط المحقق معروف في الوعي اللبناني بجانب التفاصيل التي رواها عيتاني عن تلك الشخصيات الحقيقية".
التقطت الصورة بواسطة مروان طحطح
يُضيف شكرون "لم يتغير شيء مما تخيلته سوى شخصية "الخال" النصاب رفيق الزنزانة الذي ساعد فوزي في محبسه بكف أذى السجناء عنه حيث كان الوحيد المؤمن ببراءته، وقد قمت بزيارته في السجن لمعرفة تلك الشخصية التي سأعيد تمثيلها والذي أبهرني بتلقائيته وذكائه وحكمته وهدوءه، أما شخصية المحامي الفرنكفوني المريب الذي لا يعرف شيء عن القضية فكانت كلها من خيالي".ولم ينس عيتاني أن يبرئ نفسه ويُوضح بأن مأساته هي جزء من مأساة دولة بأكملها في نهاية العرض، حيث وقف أمام الجمهور شارحًا قصته باختصار وموضحًا أن ما حدث معه هو بقعة ألوان في لوحة وطن يُعاني من فساد يضرب جوانبه، وهو ما وجد استحسان كبير من قبل الجمهور الذي ملئ المسرح خلال أكثر من 30 عرض خلت جميعها من مقعد واحد خالي.