اسمي محمد لكن لا أحد يناديني به

شترستوك

ثقافة

اسمي "محمد" لكن لا أحد يناديني به!

تحولت الأسماء في ثقافتنا العربية من وسيلة لتحديد الهوية إلى أشياء أخرى

اسمي محمد لكنّ أحدًا لا يناديني باسمي. أنا فتحي (اسم والدي) وفتّوح وفتاح ولي صديق سَمِج يناديني: مُفتاح. هذه ليست أزمتي وحدي لكنّها أزمة كل محمد مثلي.

في المرحلة الإعدادية كان فصلي الدراسي به أكثر من عشرين محمدٍ. كان معلّم اللغة العربية يضجر كثيرًا حين يصل إلى (المحامد) في كشف الحضور والغياب. وكان يزداد غضبًا حين يصل إلى محمد أحمد. تخيل أنك تكتفي غالبًا بذكر الاسم الأول لكل طالب أو الأول والثاني بحد أقصى، وفجأة تكون مطالبًا بالاسم الثلاثي أو الرباعي للتمييز بين الطلاب.. محمد أحمد محمد علي، محمد أحمد محمد محمود.

إعلان

في سائر مراحل الدراسة كان هناك إجماع على تجاهل كل محمدٍ والذهاب مباشرة إلى الاسم الثاني: فتحي، إبراهيم، عبد الشافي لكنّ معاناتي كانت أقل كثيرًا من هؤلاء الذين يتم التعامل مع أسمائهم وأسماء آبائهم باعتبارها لا شيء. لي صديق اسمه: محمد أحمد محمد سعد. هو بالنسبة لنا سعد، وأظن، والله أعلم، أن والده أيضًا وربما جده كانوا يُنادَى على كل منهما بـ"سعد".

بعد تخرجي من الجامعة، استمر تجاهل اسمي الأول. أدركت وقتها أن الأمر لا يتعلق بكشوف الحضور والغياب أو حتى تواجد أكثر من محمد في مكان واحد. الأمر أن هذا الاسم، ومعه أحمد وبدرجة أقل محمود ومصطفى، أصبح كل منهم بسبب انتشاره الواسع أشبه بنصف اسم، أو كأنه تمهيد لاسم آخر. فلا يوجد محمد فقط. هذا ليس اسمًا في عرف الكثيرين. محمد يجب أن يكون مُضفّرا باسم آخر بارز، لأننا لن ننادي أحدًا بـ"يا محمد".

وهكذا فقد اسمي وغيره من الأسماء الشائعة وظيفته الرئيسية كوسيلة لتحديد الهوية. وفقد معه الخصوصية والتميّز اللذان يلازمان كل شخص منذ الميلاد وحتى الممات استنادًا إلى اسمه. حتى الحديث المكرر عن الأسماء في مجتمعاتنا وما يصاحبه من تساؤلات لا يكون أبدًا عن اسم الشخص نفسه.

"ابن أمه" اسمي أحمد ابن إيمان

على سبيل المثال، انتشر قبل أشهر مقطع فيديو من أحد الأفلام المصرية القديمة (الأبيض والأسود) يقول فيه ضابط شرطة أو محقق نيابة لأحد المتهمين: "إنما الشهادة لله، الاسم الجديد اللي اخترعته ده اسم ظريف جدًا، فتحي.. فتحي اسم رومانسي ظريف جميل شاعري، عرفت تضحك بيه على عقول البنات الصغيرين!".

لن أبالغ إذا قلت لك إن هذا المقطع أُرسل لي أكثر من عشر مرات من باب الدعابة والسخرية، وفي كل مرة كنت أقول لهم إن هذا اسم أبي، وأن عليهم إن أرادوا ترديد الدعابة أن يرسلوا المقطع إليه. ولأشرح لك مقصدي أكثر، فإن أحدًا لم يرسل هذا المقطع نفسه إلى شقيقي الأكبر. لماذا؟ لأن اسمه وائل وليس محمدًا.

إعلان

وصار الأب أو الجد أو حتى العائلة
وهكذا، فقد اسمي وغيره من الأسماء الشائعة بكثرة وظيفته الرئيسة كوسيلة لتحديد الهوية. وصار أبي وأسماء الدلع التي تُطلق عليه البديل. ومع الوقت بدأت أتعجّب من هؤلاء القابضين على الجمر الذين ما زالوا ينادونني محمد.

لي صديقة كانت حريصة فور تعارفنا على أن تناديني محمد (بفتح الميم الأولى كعادتنا في مصر) وبعد أسابيع أصبحتُ، كالعادة، فتحي. وحين سألتها عن السبب قالت إنها وكثيرين، على حد زعمها، يفضلون استخدام محمد وأحمد لهؤلاء الذين لم تتوثق علاقتهم بهم بعد. أذكر أنها شبّهت اسمي قائلة "محمد ده عامل كده زي الحاجز اللي ما بيني وبين اللي قدامي، طول ما أنا مش عارفه البني آدم كويس بناديه محمد عشان أحافظ على المسافة اللي ما بيننا، لكنّ أول ما أعرفه كويس بنادي بالاسم التاني على طول".

في عُرفها، وعرف كثيرين غيرها، محمد أصبح شبيهًا بأسماء الإشارة للبعيد في اللغة العربية: ذلك وتلك وغيرهما، أمّا اسم الأب أو العائلة فهو مثل هذا وهذه أسماء إشارة للقريب حتى لو كان هذا القريب قديمًا مثل فتحي في حالتي.

1559131992728-Screen-Shot-2019-05-29-at-41030-PM

لماذا؟
يقود هذا الانتشار المكثف لأسماء محدودة في مجتمعاتنا العربية إلى السؤال عن السبب وراء ذلك. في حالة محمد، أول إجابة تباغتك أن محمدًا هو اسم النبي، وأن الآباء يأملون أن يكون لأبنائهم من هذا الاسم نصيب وحظ.

ومثل تلك الإجابات في مجتمعاتنا لا تُراجع. يخشى كثيرون مجادلة أصحابها خوفًا من أن يُساء فهمهم أو أن يُقال إنهم يكرهون اسم النبي، لكنّ إطلاق اسم محمد، على سبيل المثال، ليست دوافعه في كل الحالات دينية وإيمانية.. سأذكر لك طرفًا من قصتي. لماذا أطلقت أمي عليّ اسم محمد؟

استقرت أمي في بداية حملها على اسم عمر. كانت تريد أن يكون ابنها "عمر فتحي"، وهو لمن لا يعرف، اسم مطرب مصري عذب الصوت ذاع صيته في أوائل الثمانينيات. أصيب عمر بمرض في قلبه ثم رحل عن الحياة وهو في منتصف الثلاثينات من عمره. كانت الوفاة في الأيام الأخيرة من عام 1986 ووقتها كنت على مشارف الخروج من رحمها إلى الحياة. انقبض قلبها حين علمت بالوفاة، تشاءمت، وقررت أنني لن أكون عمرًا، وهكذا أصبحت محمدًا. إذن محمد في هذه الحالة لم يكن إلا بديلًا لعمر. بديل يسهل نطقه على اللسان وتألفه الآذان، لن يجلب للطفل أي سخرية، وسيخبر الجميع بديانته أيضًا.

إعلان

هكذا يصبح محمدًا خيارًا مناسبًا لمن يبحثون لأبنائهم عن اسم آمن، وأحيانًا يكون خيارًا توافقيًا حين تشتبك أطراف متعددة (غالبًا الأم والحماه) ويسعى كل منهم لفرض اسم بعينه على المولود. وقتها يكون محمد مقبولًا من الجميع.

هذا بالإضافة إلى السبب الأشهر لاختيار الأسماء في مجتمعاتنا، وهو إطلاق اسم الجد على الحفيد، خاصة إذا كان الجد قد رحل عن الحياة قبل ميلاد الطفل بأشهر قليلة. وقتها يشعر الأب أن لزامًا عليه أن يخلد ذكرى والده بإطلاق اسمه على الوافد الجديد إلى الحياة.

وفي سياق الحديث عن محمد، قال لي أخي حين ذهب إلى السعودية لأداء العمرة أن كثيرين ممن لا يعرفونه كانوا ينادون عليه بـ"محمد". وقال لي إنها تقوم مقام "يا كابتن" في مصر. كل من لا نعرفه نقول له "يا محمد".

يوسف - جو
في مطلع الألفية الجديدة وكنت وقتها مراهقًا. صادف أن النساء الحوامل في محيطنا العائلي يفضلن تسمية أبنائهن يوسِف (ينطقونها بكسر السين لا ضمها). ,في كل مرة تُسال إحداهن عن سبب حب هذا الاسم كانت ترد الإجابة نفسها: "عشان بنحب سورة يوسف". كنت أقول لنفسي وقتها هل اكتشفوا جميعًا هذه السورة في وقت واحد؟ وإذا كنّ يُفضلنّ إطلاق أسماء الأنبياء على أبنائهنّ فلماذا لا يُفكرنّ في أسماء أخرى كنوح ويونس أو غيرهما. وأذكر أن واحدة منهنّ أجابتني إجابة أعجبتني وقتها. قالت إن يوسف حين يُطلق عليه اسم دلع يكون "جو" اختصار جوزيف، وهو "اسم شيك.. شبه أسماء الأجانب كده".

كانت هذه المرة الأولى التي أنتبه فيها إلى أن إطلاق الأسماء يخضع لمواسمٍ وفصول، يكون في كل منها اسمًا محددًا أو مجموعة أسماء بعينها موضة يُفضل الأبوين مسايرتها، ثم لا تلبث أن تتراجع قليلًا أو تختفي تمامًا لسنوات ثم تعاود الظهور وهكذا.

إعلان

لكنني انتبهت لاحقًا إلى أن أسماء الذكور في مجتمعاتنا وإن خضعت للموضة أو التريند بلغة أيامنا، إلا أن مساحة التجريب والتجديد فيها أقل بكثيرٍ من أسماء الإناث. لاحظت أن الأبوين لا يضيرهم أن يكون اسم ابنهم الذكر غير مميزٍ. سواءً كان من الأسماء التي باتت فراغًا لا يأبه إليه أحد كمحمد وأحمد وغيرهما، أو من الأسماء المنتشرة بكثافة في مجتمعنا مثل أيمن وإبراهيم وهشام لكنّهم فور علمهم أن هناك أنثى قادمة إلى عالمنا تبدأ جولات طويلة من المباحثات والمشاورات لاختيار الاسم. السبب وفق كثير من الأمهات هو رغبتهن في أن تتميز الفتاة بين قريناتها باسم مميز يجعل الجميع يُدركها ويلتفت إليها فور نطقه.

أذكر صديقًا سلفيًا أطلق على بناته الثلاث أسماء "عائشة وجويرية وحفصة" على أسماء زوجات النبي محمد أمهات المؤمنين. دوافعه لإطلاق هذه الأسماء كانت معروفة بالنسبة لي، هو لا يأمل فحسب أن تتأسى بناته بأمهات المؤمنين لكنه أيضًا يأمل أن يساهم هذا الأمر في "إحياء الأسماء الإسلامية في مجتمعنا" على حد قوله.

تريند الأسماء
وأثناء الإعداد لهذا المقال، وخلال البحث وجدت جوجل يقترح عليّ نتائج من عينة "أسماء بنات جديدة" و"أسماء بنات 2019" وكذلك "أسماء بنات 2020" وغالبًا هذا الاقتراح الأخير للنساء حديثات الحمل، ووجدت عشرات التقارير التي ترشح أسماءً غريبة وتحثُ على اختيار اسم غير مألوف خاصة للبنات.

وأوقن أن هذه الرغبة الخالصة في التميز هي التي قذفت إلينا بأسماء غريبة. أذكر أنه قبل أعوام كان لنا زميل في العمل قد رُزق بطفلة وقرر أن يسميها "نورسين" بناء على طلب والدتها، ولم يكن هذا الاسم قد انتشر بكثافة مثل الحال الآن. في هذا اليوم سمعت زميلي هذا يردد هذه الجملة عشرات المرات: "اسمها نورسين، يعني ضوء القمر.. اسمها نورسين يعني ضوء القمر".

إعلان

قلت لنفسي وقتها إن هذا الشغف والرغبة الدائمة في إطلاق أسماء مميزة على الإناث ستجعلنا نلجأ كثيرًا إلى المعجم لفهم مرادفات الأسماء. وأذكر أيضًا أنه لاحقًا أطلق صديق على ابنته اسم "تالين". أعجبت بالاسم وحين سألت عن معناه كانت الإجابة: "تالين له علاقة بالتلاوة" في إشارة إلى تلاوة القرآن ورغبته في أن تكون ابنته حافظة للقرآن. لم أجادل كثيرًا في أن هذا النسب للتلاوة غير دقيق، وقلت لنفسي إنه غالبًا أعجب بالاسم دون أن يعرف معناه فبحث عن أقرب معنى.

وتظل الرغبة في إطلاق أسماء مميزة على الإناث حاضرة بقوة حتى لو لم يكن الوالدان حريصين على البحث عن أسماء جديدة غير مألوفة، بل هناك على النقيض من يبحث عن أسماء مميزة لكنه ينقّب في الماضي البعيد.

أذكر صديقًا سلفيًا أطلق على بناته الثلاث أسماء "عائشة وجويرية وحفصة" على أسماء زوجات النبي محمد أمهات المؤمنين. دوافعه لإطلاق هذه الأسماء كانت معروفة بالنسبة لي، هو لا يأمل فحسب أن تتأسى بناته بأمهات المؤمنين لكنه أيضًا يأمل أن يساهم هذا الأمر في "إحياء الأسماء الإسلامية في مجتمعنا" على حد قوله.

قال لي إنه فضّل إطلاق أسماء أمهات المؤمنين على بناته من باب "إحياء الأسماء الإسلامية في مجتمعنا". وحين سألته: "ألا أترى أن اسم مثل حفصة وجويرية قد يجلبان بعض المصاعب للفتاتين خاصة في طفولتهما" كانت إجابته أن "الأزمة في المجتمع وليست فيه أو في أسماء بناته بالقطع".

أعرف فتاة اسمها هو الأغرب بالنسبة لي. اسمها "ناقة" ووالده اسمها "أبو محمد". هي ليست مصرية بل من قبيلة عربية بإحدى البلدان الإفريقية التي لا تتحدث العربية. في قبيلتها الاسم ليس غريبًا لكنها حين انتقلت إلى مصر لتدرس بإحدى الجامعات كانت الصدمة. تلقت "ناقة" سخرية كبيرة كلما رددت اسمها في أي مكان.

إعلان

أسماء أجنبية
وهناك من يفضلون الأسماء الأجنبية لأبنائهم، يفضلونها بنطقها الأجنبي دون حتى البحث عن البديل المحلي السهل. ومن الأسماء التي وجد صاحبها معاناة كبيرة اسم هيرماس، وهو صديق لي، وهو أيضًا هذا الذي يناديني بـ"مفتاح".

يقول إن اسمه يوناني، وقرأت مؤخرًا إنه أيضًا من أسماء الأسد. عمومًا معنى الاسم هنا ليس مهمًا لكنّ المعاناة التي يجدها صديقي منذ طفولته حتى الآن هي الأهم. في كل مرة نحاول طلب الطعام من أحد المطاعم القريبة يتهرّب هيرماس من الاتصال وطلب "الأوردر". يرشّح مجموعة من المطاعم ويرشح أيضًا الوجبة المميزة في كل منها ثم يرفض أن يتصل.

لم أفهم السبب في بداية الأمر لكنني لاحقًا انتبهت. في يوم لم يكن هناك جائع بيننا غيره. اتصل بأحد المطاعم وفي النهاية قال لهم "الأوردر باسم هيرماس" ثم كرر الاسم 4 مرات حتى يوضحّه. أنهى المكالمة حَنِقًا. في مرة ثانية اتصل وحين سُئل عن الاسم فكر للحظات وقال لهم: عماد.. الأوردر باسم عماد.

ناقة محمد
وهناك فتاة أعرفها اسمها هو الأغرب بالنسبة لي. اسمها "ناقة" ووالده اسمها "أبو محمد". هي ليست مصرية بل من قبيلة عربية بإحدى البلدان الإفريقية التي لا تتحدث العربية. في قبيلتها الاسم ليس غريبًا لكنها حين انتقلت إلى مصر لتدرس بإحدى الجامعات كانت الصدمة. تلقت "ناقة" سخرية كبيرة كلما رددت اسمها في أي مكان. لذا اقتصر هذا الاسم على الفصول الدراسية حيثُ لا مفر منه بسبب كشوف الحضور والغياب، أمّا بعيدًا عن الجامعة فاسمها "ندى".

وخلافًا لـ"ناقة" التي لم تشعر بأزمة تتعلق باسمها إلا حين رحلت إلى بلد آخر، هناك كثيرون يكرهون أسماءهم التي وُلدوا بها دون تنقل أو ترحال. ولاحظت أنه، رغم اختلاف الأسباب، إلّا أن حالة الكراهية بدأت لديهم في سن صغيرة، في السنوات الأولى داخل المدرسة.

1559131937104-Screen-Shot-2019-05-29-at-41051-PM

البعض كان اسمه مثارًا للسخرية والتنمر من زملائه في الدراسة. والبعض الآخر كره الاسم لشيوعه وعدم تميزه، وهناك أكثر من شخص كره الاسم لأنه كره الشخص الذي سمّي تيمنًا باسمه. وغالبًا يكون الجد أو الجدة.

أعرف فتاة لم يسبب لها اسمها أي سخرية هي فقط كانت تكره اسمها "رضوى" لأنه يذكرها بفتاة كرهتها بشدة في طفولتها. تملكت الكراهية رضوى إلى حدٍ دفعها إلى السعى لتغيير اسمها بشكل رسمي بعد أن وصلت عامها الثلاثين. ذهبت رضوى وسألت عن الإجراءات المطلوبة لتغيير الاسم، وقالت إن الموظفين تعجبوا من حضورها لأن أغلب من يحاولون تغيير اسمائهم يكون اسمهم لافتًا أو محل سخرية وتندر. وقالت إن أحدهم مازحها قائلًا: "ده أحسن طلب تغيير اسم جالنا" سألت رضوى عن الإجراءات ثم استكثرتها، والأهم من ذلك أن كلمات الموظف باغتتها وجعلتها تستثيغ اسمها وتعدل عن رأيها.

تابعوا محمد فتحي علي تويتر mo7amadfat7y@