downtown

ساحة النجمة. المصدر: سوليدير

رأي

حينما استرجع اللبنانيون وسط بيروت

الثورة جعلتني أشعر بمسؤولية تجاه وسط المدينة، أريد استردادها كلّها، فلقد جرّبنا ماذا يعني أن تكون لنا وأن نكون منها
غوى أبي حيدر
Beirut, LB

في 17 اكتوبر، استعاد جيل الألفية شوارع وسط بيروت أو "الداون تاون." كانت المرة الأولى التي نشعر بها أنّ المساحات العامة هي ملكاً لنا. كانت المرة الأولى التي يكون بها الشارع مصدر قوتنا الأكبر. لسنوات طويلة، حُرم جيل ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990) من بيروت. نحن أولاد بيروت، عشنا بمدينة لم تكن يوماً لنا.

قبل الحرب، كان وسط بيروت سوق يقصده المواطنون بشكل طبيعي. بعد الحرب، وتحديداً عام 1994، استولت شركة سوليدير على وسط بيروت التجاري بهدف إعادة إعماره. وكي تنجح الشركة بتحقيق هدفها من إعادة الإعمار، كان لا بدّ من شراء العقارات والأبنية في المنطقة من أبنائها ليتملّكها أصحاب رؤوس الأموال اللبنانيين والأجانب. خلال تلك الفترة، أصبح وسط المدينة ملكاً لأصحاب رؤوس الأموال، واقتصرت الاستثمارات على المحلات التجارية الفخمة، والمطاعم والشركات، والمكاتب. قبل الثورة بأشهر قليلة، كان وسط المدينة أشبه بمدينة أشباح فارغة من مواطنيها، فحتى من أصحاب الأموال يأسوا بدورهم من الوضع السيء وبدأوا بإقفال محلاتهم تدريجياً.

إعلان

الإيجار الشهري لواحدة من هذه الشقق في وسط بيروت يبدأ من 4،000 دولار بالشهر علماً أنّ حدّ الأدنى للأجور في لبنان هو 450 دولاراً

لسنوات طويلة، حُرمنا من كل المساحات العامة. يا جماعة، لا يوجد حديقة عامة في بيروت، لا يوجد مساحات خضراء، ولا شجر، ولا ألوان! البحر ملوّث بسبب مياه الصرف الصحّي التي تصبّ به. أمّا الواجهات البحرية، فهي للفنادق والبنايات السكنية التي يعيش بها الأغنياء والتي غالباً ما يبلغ سعرها ملايين الدولارات. هل تعلم أن الإيجار الشهري لواحدة من هذه الشقق يبدأ من 4،000 دولار بالشهر علماً أنّ حدّ الأدنى للأجور في لبنان هو 450 دولاراً؟ وسيكلفك كوب من القهوة في واحد من الكافيهات التي في سوليدير حوالي سبع دولارات، أما وجبة من الطعام فتبدأ بـ 30 دولاراً - فيما لا يزيد معاش الموظف الحاصل على شهادة جامعية عن ألف دولار. ليس هذا فقط، بل وسط المدينة غالباً ما يكون محاصراً بقوى الأمن لسلامة المواكب السياسية، هذا لأنّ مقر مجالس النواب والوزراء تقع هناك.

لا يوجد أسواق شعبية في وسط بيروت. الأسواق التي كانت موجودة قبل الحرب الأهلية، أعيد بنائها بشكل عصري، وتحولت إلى مراكز للتسوق، لكن طبعاً للطبقات الغنية أو المتوسطة. نحن هنا نتحدث عن محلات لعلامات فخمة جداً، حتى أنّها غالباً ما تكون خالية لأنّ الطبقة التي تشتري منها أصلاً تقوم بالتسوق خارج البلاد.

باختصار، لا يوجد شيء ممتع في وسط مدينة بيروت. لقد تعودنا على كرهها، تعودنا أنها ليست لنا. لكن هذه الثورة غيّرت كل ذلك. أدخلنا الحياة إلى الطرقات الفارغة، رسمنا ملعب كرة قدم، نصبنا الخيم، وزّعنا الطعام، ورقصنا وعزفنا وهتفنا. حولنا المساحات الفارغة في وسط المدينة إلى ندوات وجلسات نقاش. الجدران أصبحت ملونة برسومات الغرافيتي، وتمكنت للمرة الأولى أن تدخل بسطات الطعام إلى وسط المدينة -بعد أن منعتها بلدية بيروت لسنوات لأسباب "أمنية." بعد الثورة، لم أعد أريد أن أتخلى عن الشارع. شعرت بقوة غريبة، بسلطة لم أشعر بها من قبل. أظن أنّ هذا حال المواطن في كل الثورات عندما يحاول استرجاع ما سُلب منه. شعرت أنّني أصبحت سائحة في بلد عشت فيه طوال حياتي، ولكنني اكتشفته للمرة الأولى.

إعلان

كان هناك خلاف كبير بين رؤية القائمين على مشروع سوليدير وبين رؤية المثقفين لوسط المدينة. مثلاً، المشروع الحالي بوسط المدينة في بيروت والممتد إلى الواجهة البحرية لا يشمل أي مشروع ثقافي- لكن بيروت كانت مدينة ثقافة قبل الحرب. دار الأوبرا الموجودة في وسط المدينة، تحولت إلى مبنى للتسوق لمتجر "فيرجن ميغاستور" والذي تم أغلاقه منذ فترة قصيرة. كان لدينا مسرح وطني أيضاً، غنّت به أم كلثوم وعرف بـ"غراند تياترو" يعود إلى أواخر عشرينيات القرن الماضي. دُمر المسرح في الحرب ولم يتم الاستثمار بإعادة إعماره وخافت سوليدير من أن تحوله إلى فندق بسبب قيمته التاريخية عند الشعب، فترك للا أحد. ولكن الثورة أعادته للحياة، ملأ المحتجون البناء القديم، غنوا فيه وصوروه وأعادوه إلينا.

1572947870254-copy

ساحة رياض الصلح، وسط بيروت. تصوير: آية أبي حيدر

المبنى الثاني الذي عاد للحياة كان السينما القديمة المعروفة بالبيضة. كان من المفترض أن تكون البيضة سينما وطنية، لكن كغيرها من المباني، دُمر جزء منها في الحرب الأهلية ولم يُعاد إعمارها. بعد الثورة، استرجع الشعب المبنى. كانت المرة الأولى التي يدخل بها أحد إلى البيضة، فبعد الحرب منعت سوليدير المواطنين "خوفاً على سلامتهم." ولكننا استعدناه، وأصبحنا نقوم بجلسات ونقاشات وعروض أفلام في داخله. هذه الثورة كانت بطريقة ما، بمثابة فرصة لاعادة إكتشاف معالم وسط بيروت. في السابق، لم نملك شيئاً من بيروت سوى أسواقها الباهتة والمملة، وكافيهاتها الباهظة. لماذا حرمت بيروت من كل هذا الجمال؟ من دار أوبرا ومسرح وسينما - تم افتتاح سينما في وسط المدينة في "أسواق بيروت" التابعة لـ سوليديرولكنها كأي سينما في أي مول. لا روح فيها.

الشارع أعطانا السلطة للمرة الأولى، وحتى بالفوضى، كنّا أحراراً

وسط المدينة يختلف بالتأكيد عن باقي بيروت. فهناك مناطق وشوارع تشبهنا مثل "مار مخايل" و"الحمرا" وغيرها. ولكن كيف يُسمى وسط مدينة وهو لا يشبه أهل مدينته؟ الشارع أعطانا قوة غريبة، حتى أصبحنا واحداً من مطالبنا هو "استرجاع الشارع." لا أحد يتحدث عن هذا المطلب علناً، لكننا نفكر به طوال الوقت. الثورة جعلتني أشعر بمسؤولية تجاه وسط المدينة، أريد استردادها كلّها، فلقد جرّبنا ماذا يعني أن تكون لنا وأن نكون منها. سلطتنا اليوم هي من قلب الشارع، وعلى كل من يهددنا بالخروج أن يعلم أنّنا تعلقنا بالشارع لأنّنا حُرمنا منه، لأنّنا إذا خسرنا الشارع، ستعود وسط بيروت كمدينة أشباح لا يزورها أحد. ستعود ساحة رياض الصلح خالية، ولن يجلس أحد تحت تمثال الشهداء، دار الأوبرا لن يهتم بها أحد، ولن يسمح للباعة بالعودة إلى وسط المدينة. عندما أغلق المتظاهرون جسر الرينغ، وهو شارع في قلب بيروت، قاموا بوضع غرفة جلوس، ومطبخ، وفرشوا السجاد والخيم. في تلك اللحظة شعرنا أننا finally home.

بعيداً عن السياسة والتحليلات والمناظرات، هناك اليوم مطلب مشترك وهو استرجاع مدينتنا، نريد وسط بيروت أن يشبهنا، وأن تكون المساحات العامة مفتوحة للجميع. لقد أعطانا الشارع السلطة للمرة الأولى، وحتى بالفوضى، كنّا أحراراً.