مقال رأي

لعبة الحبار: كولوسيوم العصر الحديث

واحدة من ألعاب الهيمنة الكلاسيكية للسلطة والطبقات المهيمنة: تنفيس الرغبة في التمرد عبر المنافسات الدموية
أحمد ندا
إعداد أحمد ندا
1633590161859-squidgame1

YOUNGKYU PARK, NETFLIX

ملاحظة: المقال قد يتضمن حرقاً لبعض الحلقات.


أصبح مسلسل "لعبة الحبار" Squid Game الشغل الشاغل للعالم هذه الأيام. المسلسل الكوري ذو الطابع الديستوبي، في طريقه الآن لأن يكون الأعلى مشاهدة لمسلسل غير ناطق باللغة الإنجليزية على نتفليكس، حسب تيد ساراندوس المدير التنفيذي للشبكة. هذه الجماهيرية التي تسببت في أعطال مهولة في الإنترنت في كوريا بسبب حجم الإقبال عليه. 

إعلان

المسلسل الذي أدى الهوس به إلى افتتاح مطاعم تقدم الحلوى "دلجونا" التي اشتهرت في المسلسل في دول مختلفة وأيضاً مشاركة كيفية عملها. أغنية اللعبة الأولى صارت الأعلى تداولاً على مواقع التواصل الاجتماعي. مئات، بل آلاف المتابعين تحولوا إلى محللين لمحاولة تفسير كل لقطة، كل لمحة، كل عبارة في الحوار. وتكتمل لمحات الأسطورة حول المسلسل بتصريح مبدعه أنه ظل يتلقى الرفض لعشر سنوات كاملة قبل أن تتبناه نتفليكس.

الكي بوب يجتاح العالم
تلك الجماهيرية التي يعيشها المسلسل، والتي اندهش لها الكثيرين من خارج عالم الترفيه الكوري، أو غير العالمين بالسياق الآتي منه المسلسل لم تأت وليدة اللحظة، بل إنها كانت نتاج مجهود وتخطيط من قبل الحكومة الكورية لجعل هذه الثقافة ذات شعبية خارج حدود كوريا الجنوبية. هذه الثقافة في الدولة الصغيرة، القريبة من دول ذات هيمنة ثقافية -واقتصادية- كبيرة مثل اليابان والصين، بدأت في تصدير هذه الثقافة منذ نهايات القرن العشرين ليس فقط على مستوى المسلسلات، بل على مستوى الموسيقى والأفلام أيضًا. 

الموجة الكورية أو الهاليو، هي اتجاه كوري بدأ منذ منتصف التسعينيات لتصدير هذه الثقافة لدول الهيمنة الثقافية في الشرق الأقصى، جعلت من كوريا ذات طابع مميز في مسلسلاتها الرومانسية الشبابية. بدأت هذه الموجة تكبر شيئا فشيئا وتخرج من حدود الشرق الأقصى إلى بقية العالم.

إعلان

أسست كوريا في عام ٢٠٠٩، وكالة المحتوى الكوري وهي باختصار الوكالة المسؤولة عن أسماء كبيرة مثل المغني ساي -صاحب أغنية "جنجم ستايل" أول أغنية تكسر حاجز المليار مشاهدة على يوتيوب- ثم الفريق الأكثر شعبية في العالم اليوم BTS. وهي ما جعلت فيلما مثل Parasite يحصد لأول مرة في تاريخ الأوسكار جائزة أحسن فيلم وتكون لعمل غير أمريكي أو ناطق باللغة الإنجليزية. 

يأتي مسلسل "لعبة الحبار" إذن بعد عمل دؤوب وجهد حكومي وشعبي في جعل الثقافة الكورية عالمية. لكن يبقى السؤال: لماذا هذا المسلسل بالتحديد؟

من الكولوسيوم إلى الحلبة: تاريخ العنف البصري
على الرغم مما يبدو من حداثة فكرة المسلسل وطزاجتها دراميًا، إلا أنها تعتبر بشكل ما امتداد لميراث من العنف البصري ألفته البشرية على مدار عصورها. أقدم الذكريات عن هذا التاريخ في الكولوسيوم: ألعاب الموت الرومانية. حيث أول ألعاب عنف عرفتها البشرية كنوع من الترفيه. جمع غفير من الناس بينهم وبين الساحة جدران آمنة يرون حيوانات جائعة تهاجم المحكوم عليهم بالسجن أو الموت، ومن ثم تبدأ التوقعات حول من سيموت أولاً.

تطورت هذه الألعاب شيئًا فشيئًا وصار بها سباقات لعربات ومصارعة بين عدد من مفتولي العضلات، المشترك بين هذه الألعاب.. هو موت المهزوم في النهاية. وعلى الرغم من العنف الشديد لهذه الألعاب، إلا أن شعبيتها الجارفة غزت روما وصار يشاهدها الجميع أغنياء وفقراء لمئات السنين، إذ أن رسائلها شديد البساطة والوضوح: الجمهورية قوية. الجمهور أقوى وأعلى من الضحايا. 

إعلان

كولوسيوم ضخم افتراضي، تحول فيه الإمبراطور إلى ماكينة هائلة من الرأسمالية، أما المشاهدون الفقراء، فلم يتغيروا كثيرًا وهم مازالوا يشعرون أن ذلك "يحدث للآخرين فقط"

هذه اللعبة الغريزية التي لعبتها الإمبراطورية الرومانية كانت تعطي للجمهور وبالذات من الفقراء إحساسًا مزيفًا بالتفوق، لأن الأسوأ لم يحدث لهم، لكنه يحدث للآخرين فقط، ورغم قسوة الحياة خارج حدود الحلبة إلا أن القسوة داخلها تفضي إلى الموت الفوري، إذن كل ما هو دونها يمكن مجابهته، إنها واحدة من ألعاب الهيمنة الكلاسيكية للسلطة والطبقات المهيمنة: تنفيس الرغبة في التمرد عبر المنافسات الدموية. 

ورغم اختفاء هذه الألعاب الدموية، لكن فكرتها الأساسية بقيت موجودة، الألعاب القتالة وكرة القدم أو الألعاب التنافسية جميعها كلها مبينة على نفس التصميم حلبة أو حلقة دائرية يتحلق حولها الجمهور متخلين عن كل رواسب الحضارة لأجل المنافسة الوحشية دون مآخذ أو مخالفة للقانون لجعل الجمهور يشعر أنه "أعلى وأقوى." أليست الأولمبياد مستمرة إلى الآن؟

لعبة الحبار: صورة الحياة وحقيقها
في كتابه الكاشف "مجتمع الاستعراض" يحيل جي ديبور إلى أن عصرنا هو عصر الاستعراض أو الفرجة، حيث يتم تسليع كل شيء، ومن ثم تتحول حقيقة الشيء إلى مجرد صورة عنها وهو ما يتم تسويقه. ومع الانفصال بين صورة الشيء وحقيقته، تصبح الحقيقة غريبة وغير مألوفة، وعلى الأرجح قاسية. بعد أن تحولت الصورة في حد ذاتها إلى الحقيقة، كما يشرح الفيلسوف الفرنسي جان بودريار أن الإنسان لا يؤمن "بالمنتج لكن بالإعلان الذي يقدم بالمنتج" ولذلك فهو يعيش في simulation، محاكاة يعتبرها الحياة.

إعلان

هنا يقدم المسلسل هذه الفرضية بأكثر أشكالها عنفًا ودموية، ماذا لو أن الإنسان في حد ذاته هو الصورة؟ هو المنتج الذي يتم تسويقه كما في الفيلم المؤلم "ترومان شو" لكن لا يكتفي المشاهد هذه المرة بالمراقبة فحسب، بل بالمشاركة في تحديد مصائر المنتجات/المتسابقين. شيء يحاكي بطريقة ما ألعاب الفيديو الاستراتيجية التي أصبحت دقتها قريبة للغاية من تصوراتنا عن الحياة. 

على الرغم من دموية اللعبة، فإن خياراتها واضحة ومحددة للغاية: اكسب تعش ومن الممكن أن تكون ثريًا. اخسر، ببساطة تموت

ولذلك فإن الحلقة الأكثر إيلاًما في مسلسل "لعبة الحبار" لم تكن مفاجئة تحول ألعاب الأطفال إلى ألعاب حياة وموت، بقدر ما كانت مواجهة هؤلاء اللاعبين للواقع -في الحلقة الثانية- حيث إنه على الرغم من دموية اللعبة، فإن خياراتها واضحة ومحددة للغاية: اكسب تعش ومن الممكن أن تكون ثريًا. اخسر، ببساطة تموت. أما الحياة نفسها فخياراتها أكثر تركيبًا من ذلك، الموت يتبدى بطرق وأشكال مختلفة: موت القيمة، موت المبادئ، موت الكرامة. حتى يبدو خيار الموت السريع الذي تقدمه اللعبة أكثر بساطة، مع الجائزة المتوقعة، لكن مع الحياة فلا جوائز مضمونة. 

اللافت أن أكثر الحلقات إثارة للإزعاج بحسب المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي كانت حلقة ظهور الضيوف المهمين -VIPS- حيث انكشف تورط المشاهدين في هذه الحلقة، فهم يمثلون مشاهدي المسلسل، فهم يشاهدون الألعاب العنيفة مثلهم تمامًا، دون تورط حقيقي أو تعاطف مع أبطالها، بل توق لمعرفة كيف تنتهي هذه الألعاب، من سينتصر؟ كيف سينتصر؟ كولوسيوم ضخم افتراضي، تحول فيه الإمبراطور إلى ماكينة هائلة من الرأسمالية، أما المشاهدون الفقراء، فلم يتغيروا كثيرًا وهم مازالوا يشعرون أن ذلك "يحدث للآخرين فقط."

في النهاية، يحاول المسلسل أن يقدم حلاً مرضيًا للجميع: البطل المنتصر سيعود للانتقام، ماكسيموس سيعود لينتقم من الإمبراطور -كما في فيلم Gladiator- لأن اللعبة لم تنته بعد، لابد أن يكسر البطل الجدار العازل بينه وبين المتحكمين في اللعبة، ليعطي المشاهدين عنصرًا جديدًا من الإثارة. لكنه في واقع الحال مازال خلف جدار العالم الافتراضي، إذ أن الواقع علمنا وفي مناسبات عديدة: لا يمكن كسر هذا الجدار.