إذا كانت الحروب تدمِّر مقومات الحياة الأساسية، فإنها أحيانا قد تفجر طاقات خلاقة تعمل في اتجاه مضاد لطاقات الدمار والهدم. في اليمن، الذي يعيش منذ سنوات حرباً دموياً منذ ست سنوات، قتل فيها أكثر من نحو ربع مليون شخص، ظهرت على الساحة عدد من المبادرات والمشاريع ثقافية وفنية شبابية تغلب أصحابها على ظروف الحرب التي يعاني منها اليمنيون.
"الحرب كانت عائق للكل لكن في مجال الأفلام الوثائقية تعتبر الحرب بيئة خصبة ساعدتنا في هذا المجال لنأخذ صناعة الأفلام كوسيلة لإرسال رسائل إنسانية وشخصية نوصلها للعالم،" تخبرني يسرى إسحاق، شابة يمنية خريجة بكالوريوس إدارة أعمال، وأحد مؤسسي مخيم "أفلام قمرة" التي تهتم بصناعة الأفلام والتدريب على إنتاج أفلام وثائقية وإبداعية.
يسرى، 32 عامًا، شاركت في تأسيس "أفلام قمرة" مع المخرجة اليمنية سارة إسحاق وعبد الرحمن حسين وأسامة خالد، حيث تم عمل دورة تدريبية اسمها قمرة تحت مظلة تعاونية "سند اليمن" الإعلامية بالتعاون مع المجلس البريطاني في 2015. سارة هي مخرجة يمنية حاصلة على الماجستير في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جامعة إدنبرة (2007)، ودبلوم إخراج الأفلام من أكاديمية لندن للإذاعة والسينما والتلفزيون.
في البداية، كان الغرض من تأسيس "مخيم قمرة" هو إنتاج مواد مرئية مثل الأفلام الوثائقية للمنظمات والقنوات، بعدها لاحظت يسرى أن هنالك احتياج لكادر إخراج، فقرر فريق العمل تقديم دورات تدريبية تساعدهم أكثر في تحسين مهاراتهم: "وبعد التدريب وجدنا أهمية هذه الدورات في مجال صناعة الأفلام الذي نشتغل فيه." تذكر يسرى كيف أن التدريب قد جاء بنتيجة رائعة، وبدأ المتدربين بالعمل بشكل صحيح وخلق أشياء مميزة، "فكرنا في تلك اللحظة أن ننطلق وأن لا نكتفي فقط بإنتاج الأفلام، وإنما نقوم بالتدريب أيضًا ويكون هذا كعمل أساسي وكان الانطلاق في 2017. وجدنا أن سلاح الفن والثقافة هو الخيار الأفضل في مواجهة ويلات الحرب، بل وفرصة كبيرة لاقتحام مجالات ثقافية عديدة لم يكن لليمن وجود فعلي فيها. بالنسبة لنا صناعة الأفلام هي إحدى أدوات التوثيق المهمة في المرحلة التي نمر بها."
والمصورات النساء اللواتي بالعادة لديهم مجال واحد وهو مجال تصوير الأعراس، أصبح لديهم مكان جديد لإعادة اكتشاف مواهبهم من خلال العمل والتدريب على التصوير السينمائي
تضيف يسرى: "أنا دائما أقول للشباب إنه إذا مشينا وراء شخص واحد في الشارع سنخرج بفيلم رائع عنه، لأننا نمر بظروف ليست سهلة ظروف غير عادية، فعندما نعمل فيلم وثائقي لأي حد في الشارع سيكون الفيلم رائع لأنه تكلم عن تفاصيل معينة لا يعرف الناس الذين خارج اليمن عنها شيء." تشير يسرى إلى أن مخيم قمرة ساهم في اكتشاف مصورين وصناع أفلام: "هناك شباب رائعين جداً من ضمنهم عبد الله السامعي الذي عمل نقلة نوعية للشباب المصورين في مجتمع قمرة، والمصورات النساء اللواتي بالعادة لديهم مجال واحد وهو مجال تصوير الأعراس، أصبح لديهم مكان جديد لإعادة اكتشاف مواهبهم من خلال العمل والتدريب على التصوير السينمائي."
تحاول قمرة تقديم عدة أشياء للفنانين منها توفير مساحة آمنة لإنجاز أفلامهم ومشاريعهم الخاصة، وتقديم لهم استشارات بشكل تطوعي دون أي مقابل، ومساعدتهم في الحصول على هذه المنح الخاصة بصناع الأفلام المستقلين، مساعدة أي صانع أفلام لديه مشروع أو فكرة ويريد تطوير فكرته.
وعن التحديات والصعوبات التي واجهت فريق العمل في مخيم "قمرة" تقول: "بالنسبة للتدريب كان عندنا بعض الصعوبات، مثلا لم نكن نستطيع عمل إعلانات التقديم أونلاين، لأن هذا سيعمل علامة استفهام عند الناس (من أنتم؟) و(تابعين لمن؟)..إلخ. فنحن نعيش ظروف وأوضاع حرب، لهذا كنا دائما نحاول عدم لفت الأنظار ونحاول جاهدين العمل بدون أي ضجة."
وأشارت إلى جملة صعوبات، منها آليات اختيار المشاركين في التدريب لأن مستوياتهم متفاوتة، إضافة إلى مشكلة غياب العنصر النسائي في التقديمات: "اضطررنا إلى تنظيم دورات تدريبية مكثفة خاصة بالنساء المبتدئات اللواتي يردن أن يصبحن صانعات أفلام. كان هناك مشكلة الحصول على التصاريح للتصوير، صحيح هناك جهات متعاونة إلى حد ما، لكن الموضوع يأخذ وقت طويل، لكننا نحرص على التنسيق بطريقة مناسبة حتى لا نتعرض لأي مشاكل."
في بداية الحرب في مارس 2015 شهد المشهد اليمني الثقافي انحدار نتيجة اشتداد الحرب في المدن الرئيسية صنعاء عدن تعز الحديدة، ادى ذلك الى توقف النشاط الثقافي والفني ومنع مزاولة الفن وإلغاء الفعاليات الفنية، مما اضطر الكثير من الفنانين الى المغادرة الى دول عربية وأجنبية بينما قاوم البعض ظروف الحرب ولجأ إلى الفن وجعل من الحرب حافز ومشجع لظهوره، فظهرت العديد من الكيانات والمؤسسات والمبادرات الثقافية وتم إنتاج العديد من الأعمال الفنية.
انطلقت مؤسسة رموز التي قامت بعمل مبادرة فنية معاصرة ضمن مشاريعها اسمها "يمن فون ارت" حيث تهدف إلى تقديم الهاتف الجوال كأداة لنقل الفن بحكم أن الجوال أسهل وأسرع وسيلة لالتقاط الصور وتعديلها ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، عملت هذه المبادرة على تغطية أكبر عدد ممكن من المناطق اليمنية من خلال صور فنية تعرف على هذه المناطق المعروفة والغير معروفة. وفي محافظة تعز برزت فرقة مشاقر تعز كمبادرة شبابية ثقافية تهدف إلى العمل على تجديد التراث الغنائي لمحافظة تعز وإحيائه وتعريف الأجيال الحاضرة على تقاليد وأعراف الموروث الشعبي لمحافظة تعز، كما نشطت العديد من المؤسسات وبيوت الفن في العاصمة عدن وكذلك.
رسالتنا تحسين الصورة النمطية عن اليمن والعودة إلى الجزء الجميل من الماضي، ولكن هذا لا يعني أن نبقى فيه أو نتحسر. بالعكس المغزى أن يوفر شحنة ايجابية نمحي فيها السلبية الموجودة في الحاضر لكي نتمكن من الرؤية الصحيحة
وعلى الصعيد الفني، ظهرت خلال الفترة السابقة، عدة مؤسسات لدعم الفنانين اليمنين، منهم مؤسسة"Yemen Art Base" التي انفردت بتكوين أول قاعدة بيانات للفنانين اليمنيين داخل اليمن وخارجها. بدأت الفكرة عام 2017 كموقع على شبكة الانترنت، حيث تم بيانات الفنانين داخل وخارج اليمن في مجالات عديدة منها مجال التصوير ومجال صناعة الأفلام والغناء والتصميم والفنون التشكيلية والفنون المسرحية والحرف اليدوية والموسيقى. وقد كان الهدف من جمع البيانات، هو تمكين الفنانين من عرض أعمالهم على جمهور واسع، وتسهيل الاتصال بهم مباشرة عند الحاجة. وقد أصبحت Yemen Art Base مؤسسة غير ربحية تختص بتنفيذ المشاريع الفنية والثقافية والصالونات، وتوليد الفرص، وتوفير التدريب وتنظيم المعارض الفنية للفنانين اليمنيين.
هناك مبادرة أخرى تحمل هذا الاسم "Yemen used to be" وترجمتها: (كذا كان اليمن). ففي 2019، قرر مجموعة من الشباب اليمني من مختلف الأعمار والمحافظات إطلاق هذه المبادرة التي تهدف إلى نشر الوعي حول تاريخ اليمن وثقافته بعد أن تسببت ظروف الحرب في تقديم صورة نمطية مشوهة عن البلاد.
تقول سارة زكي، 25 عاماً، وهي تدرس في ماليزيا بكالوريوس علم نفس وتعمل في هذه المبادرة ككاتبة إلى جانب التعليق الصوتي: "الفكرة بدأت من خلال فيلم قصير من انتاج احمد الهجري، يظهر فيه مجموعة من الشباب اليمنيون يتحدثون عن تجارب شخصية مروا بها في الحرب. وقد تم عرض الفيلم في مهرجان ثقافي سنوي عندنا في الجامعة في ماليزيا، وأثر جدًا على الجمهور وتفاعل الكثيرين معه. بعد الصدى الذي حققه الفيلم، شاركنا مع أحمد الهجري في فكرته بأن نقوم بعمل منصة، وجميعنا تحمسنا معه، فكان فيديو الانطلاق هو نفس الفيديو الذي نعرض في نهاية الفيلم واللي كان بعنوان "كذا كان اليمن". ومن هنا بدأنا المشوار."
وتلخص سارة رسالة مبادرتهم بالقول: "رسالتنا تحسين الصورة النمطية عن اليمن والعودة إلى الجزء الجميل من الماضي، ولكن هذا لا يعني أن نبقى فيه أو نتحسر. بالعكس المغزى أن يوفر شحنة ايجابية نمحي فيها السلبية الموجودة في الحاضر لكي نتمكن من الرؤية الصحيحة، ونترك بصمة جميلة في بلدنا كما ترك أجدادنا بصمة جميلة فيها."
وأوضحت سارة أن المبادرة ساهمت بالفعل في تغيير الصورة النمطية عن اليمن، فقد تواصل بهم أشخاص كثير من غير اليمنيين أو يمنيين مولودين خارج اليمن، حيث أخبروا القائمين على المبادرة عن حجم استفادتهم من المنصة في معرفة أشياء عن اليمن لم يكونوا يعرفوها. بذلت المنصة قصارى جهدها لتوسيع نطاق نشاطها وتصحيح هذه الأفكار فاعتمدت على لغتين العربية والانجليزية وحاولت جعل المحتوى بسيط وغير معقد حتى يصل للناس بسهولة ويلامس قلوبهم باختلاف توجهاتهم واعراقهم، وركزت على التاريخ الثقافي والفني والحضاري لليمن وعملت على نشره.
وعن آلية جمع وتوثيق المعلومات، تقول سارة: "يقوم فريق البحث بالبحث عن المصادر بعدة طرق منها بمساعدة محركات البحث مع التأكد أن المحتوى مأخوذ من جهات موثوقة حفظًا للحقوق. أو نأخذ المعلومات من أصحاب الشأن أنفسهم أو أي أحد له صلة بهم ويقدر يفيدنا بمعلومات أكثر، وهنا كانت تواجهنا تحديات كبيرة في الحصول على المصادر والمعلومات لأن المواضيع التي نتكلم عنها كلها من زمن السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كما تواجهنا تحديات في الجانب التقني، ونواجه تحديات في إيجاد تمويل خاص بالمنصة وهذا يبطىء من عجلة الإنتاج لكثير من الأفكار والمشاريع، كإنتاج فيلم أو اقامة معرض فني مثلاً."
غالباً ما تفجر الحروب الإبداع وتخلق ظواهر إبداعية مختلفة وهذا ما حدث في اليمن بالرغم من انعدام الرواتب وشحة مصادر الدخل والمعاناة النفسية مع اشتداد وطأة الحرب وتحول البلد الى مأساة إنسانية كبيرة، وغياب المعارض وتوقف المهرجانات ودور النشر وإغلاق المتاحف وتوقف الصحف والمجلات عن الصدور، إلا أنه هناك وميض نور من بين كل هذا الركام.