I6NR4OQMT5D6NPQVDDTXMPOMLU

هند صبري وهاني عادل في "البحث عن علا." نتفليكس.

مقال رأي

البحث عن علا: صورة نمطية لامرأة قوية غير موجودة

لم تأخذ عُلا وقتها في الانهيار. لم أرها تبكي وتشعر بالخسارة. لم تتطور شخصية عُلا دراميًا بشكل إنساني أبدًا

علا عبد الصبور، هي شابة في أواخر العشرينات عرفناها عام ٢٠١٠ من مسلسل "عايزة أتجوز". مسلسل كوميدي من ثلاثين حلقة يعرض رحلة البحث عن عريس والخوف من "العنوسة." عرفنا علا (هند صبري) على الشاشة بعدما انتقلت من عالم المدونات للكاتبة المصرية غادة عبد العال التي سردت رحلتها الشخصية بطريقة ساخرة على مدونة تحمل نفس الاسم. عُلا الشابة تتعرض لمواقف مضحكة مع العرسان ولديها هدف مقدس واحد: أن تتزوج. وبكل العبارات الكليشيهية والصور النمطية التي تغرق فيها مع عائلتها وصديقاتها حول الزواج والعلاقات، انتهى المسلسل دون أن تتزوج؛ ليُعرض اليوم بعد ١٢ عاماً الجزء الثاني على شبكة نتفليكس بعنوان: البحث عن علا.

إعلان

كيف تغيرت علا؟
تزوجّت عُلا من العريس رقم ثلاثين، هشام، ويقوم بدوره الفنان المصري هاني عادل. تركت وظيفتها كصيدلانية وأصبحت ربة منزل وأنجبت طفلين. انتقلت عُلا طبقيًا من طبقة متوسطة عادية إلى طبقة متوسطة عُليا: اختلف مكان السكن من منزل أسرتها في حي شعبي إلى مجتمع سكني مغلق (كومباوند)، وبدلًا من الميكروباص الذي كانت تستقلّه يوميًا للعمل، لديها سيارة من طراز حديث. توفى والدها وجدّتها وسافر أخوها للعمل بالخليج. قطعت علاقتها بصديقتها المقربة بناء على رغبة زوجها.

خلت حياة علا من كل شيء إلا الأسرة. فعلت كل شيء في سبيل الحفاظ عليها بينما ما زالت أمها تمارس دورًا سلطويًا، وهذا ما جعل عُلا تُربي ابنتها على النقاش والتمرد بدلًا من الانصياع لرغباتها كأم. كل ذلك مفهوم ومُبرر في سياقه الدرامي بما في ذلك أحلام الترقي الطبقي والغرق في دفع الأقساط. حتى صرّح لها هشام برغبته في الطلاق فجأة، فتنقلب حياتها وتبدأ رحلة بحث جديدة. هذه المرة ليست عن رجُل، إنما عن الذات المنسيّة.

تبدأ علا في استيعاب رغبة هشام الذي اكتفى بسبب وحيد للطلاق: غير سعيد، دون أن يتناقش معها أو يلفت نظرها لما يجعله شخصًا غير سعيد. يترك المنزل ويستأجر آخر ويدخل علاقة عاطفية جديدة، بينما يلتزم ماديًا تجاه أطفاله ويعرض عليها مصروفًا شخصيًا لأنها لا تعمل. فتُجد عُلا عرضه مُهينًا وتُقرر العمل مرة أخرى.

قدّم المسلسل صورة الزوج "الجنتل" الذي يلتزم تجاه أطفاله وطليقته ماليًا دون مفاوضات ومساومات ومحاكم. وهذا ما وجدته الكثيرات غير منطقي بسبب تجارب الطلاق حولنا. فالرجال لا يكونون عادة بهذه "الجنتلة" أثناء الطلاق، ويحاولون دائمًا الخروج بأكبر قدر ممكن من المكاسب، بداية من الحضانة وحتى التحايل على القضاء والتزوير في رواتبهم حتى لا يقومون بالإنفاق على أطفالهم بما هو في استطاعتهم المالية الحقيقية. أما عن عرض هشام المصروف الشخصي، فالكثيرات أيضًا يجدنه مبالغة في السهولة التي صُوّر بها الطلاق في المسلسل.

إعلان

ما لفتُ انتباهي كنسوية كان "ثورة الكرامة" التي قامت بها عُلا تجاه عرض هشام بالإنفاق عليها بعد الطلاق. العمل المنزلي وتربية الأطفال هما أعمالًا ووظائف تقوم بها النساء لكنها غير مدفوعة الأجر. لذلك، كان المصروف في رأيي أقل كثيرًا مما تستحقه علا. لمدة ١٢ عاماً، تعمل عُلا في المنزل بلا مقابل اقتناعًا منها أنه دورها كزوجة وأم. وفي المقابل، ينفق هشام عليها انفاقًا لا يتجاوز الملبس والسيارة والطعام. فلو حسبناها حسبة بسيطة، لوجدنا هشام أجحف حق علا المالي من أول الزواج وحتى الطلاق. 

هذه الواجبات المنزلية لها تكلفة اقتصادية ليست فقط للزوج إنما أيضًا للدولة. لو استمرت عُلا في عملها بعد الإنجاب، لكان لزامًا عليهما المشاركة في مصروفات عاملة منزلية وجليسة أطفال. وهو ما كانت تفعله علا بمفردها دون مساعدة من هشام، وهو ما مكنه من مراكمة ثروة من عمله. في هذا السياق بالذات، تكون ثروة هشام من حق عُلا أيضًا. ولو اختارت عُلا أن تستكمل العمل المنزلي، لكان لزامًا على هشام دفع أجر ذلك، لا كما فعل و"عرض عليها."

من حق عُلا أن توافق قبل على شراء هشام موتوسيكل مثلاً من مالهما المشترك، ومن حقها اقتسام المبلغ الموجود في حسابهما المصرفيّ، وليس فقط اغلاق الحساب لأنهما لم يعودا زوجين. العمل المنزلي عبء حقيقي على النساء ووظيفة لا تنتهي فيها ساعات العمل أبدًا. الأزمة أن غالبية النساء يعملن خارج المنزل وداخله، ما يضع عليهن عبء وظيفتين في آنٍ واحد، وهذا ما أغفله المسلسل. 

قدّم المسلسل العمل المنزلي في مكانة أدنى من العمل خارج المنزل، وبالغ في تصوير ذلك بإصرار عُلا على تحقيق ذاتها من خلال العمل. يحمل المسلسل لواء الفكر الليبرالي تجاه العمل كمركز للحياة الاجتماعية: هشام مُتحقق لأنه يعمل، وعُلا غير مُتحققة لأنها لا تعمل خارج المنزل. فتصبح الوسيلة الأولى لإيجاد عُلا، هي العمل. تبدأ مشروعها الصغير وبالصدفة هناك صديقة مُستعدة لتمويله ورجُل جاهز لتدريبها، فينجح المشروع بسهولة غريبة تتفق مع تريند ريادة الأعمال المُنتشر منذ بداية الألفية الثالثة. وفجأة تصبح عُلا رمزية نمطية لتحقيق النجاح بعد الطلاق.

رسم المسلسل عُلا كامرأة تتعرض لأزمة شخصية وتحوّلها إلى نجاح وتجد ذاتها
. ما أراه غير واقعي هو السرعة التي تجاوزت بها عُلا هذه الأزمة، وليس فقط السهولة المستفزة في التجاوز. جعلني ذلك أتشكك في نفسي كامرأة مرّت بتجربة الطلاق، وأشعر أن بي خطب ما لأنني لم أتجاوز بسهولة، ولم أقف على قدمي وأبدأ مشروعي الخاص فورًا. شعرتُ أني مُتخاذلة ومُقصرة، لأن هناك نماذج للطلاق أسوأ من تجربتي (لم يكُن في رقبتي أطفال على الأقل)، وتمكنّت المطلقة بعدها من التجاوز والتحقق الذاتي. إن كانت رسالة المسلسل هو أن الأزمات الشخصية تصنّع منّا أقوى نسخة من أنفسنا، ففي حالتي حدث العكس. 

إعلان

شعرتُ بالسوء والتقصير وسوء الحظ لأنني أخذتُ وقتًا لصحتي النفسية بعد الطلاق. أصبح التعافي من الأزمة الشخصية، رفاهية وتقصير. لم تأخذ عُلا وقتها في الانهيار. لم أرها تبكي وتشعر بالخسارة وتلوم نفسها على الاختيار السيء. لم تتطور شخصية عُلا دراميًا بشكل إنساني أبدًا -ينطبق الأمر أيضاً على صديقتها نسرين (ندى موسى) التي رجعت صداقتهما كما هي وربما أفضل، بعد طلاق علا بدون أي مشاكل أو لوم مع أن علا أنهت العلاقة معها بدون سبب سوى أن زوجها لا يحب تواجد نسرين في حياتها.

حتى في علاقتها بالرجال الآخرين، لم تأخذ علا وقتها في التعامل مع الشعور بالسذاجة بعدما كادت أن تتعرض للنصب من رجُل عرفته على تطبيق مواعدة. لم أرها غاضبة لأن رجُلًا يُعطيها إشارات مُتضاربة (Mixed Signals) عن شعوره تجاهها. لا تتواصل عُلا مع نفسها أبدًا لأننا طيلة مدة العرض نراها في سباق مع الزمن لإثبات نفسها من خلال العمل. لا تقف عُلا عند هذه المواقف وتسأل نفسها كجميع النساء: ما الذي أخطأتُ به؟

أغفل المسلسل أن الانهيار النفسي والتعافي لهما تكلفة اقتصادية، لأنهم غرقوا تمامًا في تفاصيل التحقق الذاتي بشكل نمطي للغاية. كل "وقعة" أو أزمة نفسية تُؤثر بشكل سلبي على الإنتاجية، على حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بالآخرين/ات، على صورتنا عن أنفسنا، على أهدافنا ورؤيتنا لما نفعله. لو انهارت عُلا بعد الطلاق وبعد كل علاقة فاشلة بدأتها بعده، لما تمكنت من تحقيق النجاح العملي الباهر الذي رأيناه على الشاشة. هل هذا المقصود؟ حاول المسلسل أن يقدم لنا عُلا نموذجًا للمرأة القوية، ولكن ما حدث هو أنه تم تحويلها/تحويلنا كنساء إلى مجرد تروس في آلات لا ولن تتوقف لترانا نحنُ بآلامنا وهشاشتنا وإنسانيتنا. سنكون نسخة مشوهة من نساء يقسون على أنفسهم طوال الوقت.

القوة ليست في سرعة التجاوز وليست في التجاوز نفسه، إنما في فهم الأزمة والوقوف عندها وإعطاء نفسنا مساحة للانهيار والشعور بالضعف والغضب. مساحة نشعر فيها بالتشوّش والتخبط ونعرف أنه أمر عادي وجزء من وجودنا الإنساني.

النقلة الطبقية
عكس الكثيرات، تفهّمت النقلة الطبقية. فالاتجاه الليبرالي الذي يُقدس العمل يقدّس أيضًا الطبقة، والجميع لديه تطلعات طبقية مُبررة. العالم الذي نعيش فيه يربط الطبقة بالأمان الاجتماعي والصورة الاجتماعية. لم تقفز عُلا طبقيًا. فهي مازالت عُلا عبد الصبور التي ترتدي ما يتوافق مع زمانها وسياقها. عُلا التي سكنت الحي الشعبي، ارتدت الجينز والكارينا. عُلا المقيمة في الكومباوند، ترتدي ما نرتديه نحنُ أو أغلبنا. لا ترتدي عُلا ماركات عالمية (سينييه)، ولا تعيش في فيلا، لنقول أنها قفزت طبقيًا. لا يخفي على أحد أن الجميع، خاصة المُقبلين على الزواج، يحاولون الحصول على شقة في كومباوند بالتقسيط، وأن السيارات وأقساط المدارس الدوليّة يُمكن تقسيطها كذلك. في رأيي، كان ذلك تمثيلًا واقعيًا لنمط الحياة الحالي في مصر. لكن هناك مَن اعترضوا كأنه يجب على النساء من الطبقات الأقل من متوسطة، ألا يُبرحن طبقاتهن الاجتماعية أبدًا.

تابعتُ عن كثب تعليقات النساء على المسلسل. أجمعت أغلبهنّ أن طلاق عُلا كان ميسورًا سهلًا مليء بالمُميزات: شقة وسيارة والتزام بنفقة الأطفال وعرض مصروف شخصي. أما في رأيي كنسويّة، فهذا الطلاق لا يزال إشكاليًا، بالأخص من الناحية المالية. ترك هشام الشقة لأن عُلا حاضنة، وترك السيارة لأنها تستخدمها في توصيل أطفالهما للمدرسة يوميًا، وهو أمر كان سيُكلف هشام أكثر بكثير من ثمن السيارة لو أن هناك شخصًا مسؤول عن توصيل الأطفال هنا وهناك ويتحقق معه عنصر الأمان والاطمئنان على أطفاله. 

هشام ليس "جنتل مان" بل نسخة أبوية متطورة للرجل الذي يُلقي بعبء المنزل على زوجته وعند الطلاق يأخذ أموالهما المشتركة ويترك المنزل ليبدأ حياة جديدة بسهولة، بينما تقع مسؤولية رعاية الأطفال وتكلفة الطلاق النفسية على شريكته بالكامل. هناك مشهدين هامين. الأول: حينما تحاول عُلا التفاوض مع هشام على رعاية الأطفال، فيرُد بمنتهى الاستحقاق أنه لن يُذاكر معهم إن استضافهم في منتصف الأسبوع. والثاني: عندما صرّح هشام لعُلا أنه ترك لها الأطفال لأنه سيكون مطمئنًا عليهم معها، وأن هذا الأمر بالذات جعل خروجه من البيت أسهل له كرجُل.

ليس هناك طلاق سهل وآخر صعب، ومحاولة "تلميع" هشام هو في الحقيقة دلالة قويّة على انخفاض سقف توقعاتنا من الرجال عند الطلاق، حتى إن هم تصرفوا معنا بأقل مما نستحق، شكرناهم "وضربنا لهم تعظيم سلام."