في أحد ممرات مستشفى الصدر التعليمي في البصرة. تصوير سيباستيان كاستيلر.
"شط العرب عبارة عن حوضِ من السُم، وليس ماء،" يقول الدكتور شكري الحسن، اختصاصي التلوث البيئي في جامعة البصرة، وهو يقوم بأخذِ عينةٍ من مياهِ شط العَرب لغرض فحصُها، مشيراً إلى أن تلوثَ المياه هو واحد من العواملِ التي أدت إلى ارتفاعِ نسب الإصابات بالسرطان في العراق خلال السنوات الماضية.
"زيادةُ مستويات التلوث البيئي لاسيما النشاط الاشعاعي الناجم من ذخائرِ اليورانيوم المنضب التي أُستخدِمت خلال حرب الخليج عام 1991 وحرب 2003، فضلاً عن التلوث الناتج عن الانبعاثات الغازية من الآبار النفطية في البصرة أدى بشكلٍ مباشر الى ارتفاعِ نسب الإصابة بأمراض السرطان في العراق عموماً وفي البصرة خصوصاً،" يضيف الدكتور الحسن.
دكتور شكري الحسن وهو يقوم بفحص درجة ملوحة المياه لشط العرب. تصوير أزهر الربيعي.
بالرغم من ميزانية العراق الكبيرة في الأعوام الماضية، والتي وصلت الى 145 مليار دولار عام 2014 وهي الاعلى في تأريخ العراق، إلا أنها لم تكن كفيلة بتحسن القطاع الصحي، خصوصاً بعد احتلال داعش في العام نفسه لثلث مساحة العراق، ما ادى الى حرمان قطاعات مختلفة من المخصصات لصالح ميزانية تسليح القوات العراقية التي قاتلت تنظيم داعش، وكان القطاع الصحي من الأكثر تضرراً خلال فترة التقشف التي لا تزال آثارها السلبية باقية حتى الآن.
سرطان الثدي في النساء، وسرطان المثانة في الرجال، هما الأعلى نسبة بين أنواع السرطانات الأخرى
التقارير الرسمية أشارت إلى ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان في العراق ما بين الفترة من 1991 إلى 2016، فبعد أن قُدّرت الإصابات بالمرض عام 1991 بـ (5,720) ، ارتفع العدد إلى ( 25,556) عام 2016. وتشير إحصائية عام 2016 إلى أن محافظتا بغداد والبصرة هما الأعلى في معدلات انتشار المرض. وتتزايد وتيرة الإصابة بالأورام السرطانية في هذه المدن بسبب ما تعرضت له من قصف بالأسلحة المحرمة دولياً كاليورانيوم المنضب خلال الحروب التي مر بها العراق في العقود الأخيرة. حيث أشار خبراء وباحثون الى زيادة هذه الأورام بعد الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 وما نتج عنه من ارتفاع نسب تلوث الهواء والماء والتربة.
صورة تبين شط العراق، وهو ملتقى نهري دجلة والفرات، المكان الذي التقينا فيه الدكتور شكري الحسن. تصوير سيباستيان كاستيلر.
ذهبت VICE عربية إلى البصرة لمعرفة كيف تتعامل الحكومة مع هذه الأعداد المرتفعة من المصابين، حيث سجلت البصرة لوحدها 931 إصابة بالسرطان في الرجال، و1201 حالة بين النساء العراقيات في العام 2016. وسجلت نسبة الوفيات في العام نفسه 7568 حالة وفاة بسبب المرض.
"في محافظة البصرة فقط، سجلنا تقريبا 2،300 حالة اصابة بمرض السرطان في عام 2017، ولازلنا نستقبل يومياً ما يقارب من 250 شخص، منهم يزور المركز لغرض الاستشارة، ومنهم من يأتي ليأخذ جرعتهِ الكيميائية، أما القسم الآخر، يحتاج الى البقاء والمبيت في المركز لمتابعة حالته الصحية،" يقول الدكتور رافد عادل عبود، مدير مركز الأورام السرطانية -التابع لمستشفى الصدر التعليمي- في البصرة الذي التقيناه في عيادته الخاصة. ويشير عبود إلى أن سرطان الثدي في النساء، وسرطان المثانة في الرجال، هما الأعلى نسبة بين أنواع السرطانات الأخرى التي سجلت في المركز.
لدينا تعليمات بعدم التصريح لوسائل الإعلام لتلافي تضارب الأرقام وعدم دقتها
ولكن أخبرنا طبيب يعمل في نفس المركز، وطلب منا عدم ذكر اسمه خشية توجيه عقوبة له من قبل إدارة المستشفى، ووزارة الصحة، وتحترم VICE عربية طلبه في إخفاء هويته أن "هذه الإحصائيات غير صحيحة، عدد المرضى أكبر بكثير، ولكن لا يمكننا التصريح به في وسائل الإعلام."
صورة لمستشفى الصدر التعليمي، التي يتبعه مركز اورام السرطان في محافظة البصرة. تصوير سيباستيان كاستيلر.
بشكل عام، لا تتعاون وزارة الصحة العراقية مع الصحفيين حول أي موضوع يتعلق بالسرطان. ولكننا تمكنا من التواصل عبر الهاتف، مع مدير دائرة صحة البصرة الدكتور عباس التميمي، الذي قال لنا أن "الوضع الصحي في البصرة في تطور، لكنه لم يصل إلى الدرجة التي نطمح لها." وشدد التميمي على أن "معدلات الإصابة في محافظة البصرة لا تزيد عن معدلات المحافظات المحيطة بها." وعندما سألناه عن امتناع بعض الأطباء من التصريح لنا، أجاب: "لدينا تعليمات بعدم التصريح لوسائل الإعلام لتلافي تضارب الأرقام وعدم دقتها."
خلال عملنا على هذا التقرير، اتصل بنا أحمد المرشدي، وطلب منا لقائه للحديث عن وضع ابنته. أحمد هو من محافظة بابل، تعاني ابنته نور، خمسة أعوام من مرض اللوكيميا: "ذهبت بابنتي إلى بغداد لتلقي العلاج في مستشفى الطفل المركزي، كانت بنتي تعاني فقط من اللوكيميا، عندما دخلت الى المستشفى أصيبت بمرض آخر، وهو التهاب الكبد الفيروسي نوع سي، حصل ذلك عندما نقلوا الأطباء لها قرص دم غير مفحوص جيداً. ابنتي الآن في وضع أسوأ مما كانت عليه قبل دخول المستشفى."
في الأردن العلاج متطور، إضافة الى دقة المواعيد في المراجعات والإجراءات تكون سريعة ومُنظمة، وهذا ما تفتقر له مستشفياتنا في العراق
طلبنا من المرشدي تزودنا بتقارير طبية تدعم صحة كلامه، وأرسل لنا نسخة من التقارير توضح إصابة ابنته بالتهاب الكبد الفيروسي ولكن من غير الواضح ما الذي تسبب بذلك، وما إذا كان خطأ المستشفى. اتصلت بوزارة الصحة في بغداد للرد على اسئلتنا، لم يستجيبوا لطلب المقابلة حتى وقت نشر هذا التقرير. وعن سبب عدم تقديمه بأي شكوى ضد المستشفى يجيب المرشدي: "لا يمكنني ذلك، هم حكومة وأنا مواطن. الشكوى لن تعيد صحة ابنتي إليها."
منى أحمد، شابة من سكان محافظة البصرة، 22 عاماً، تلقت علاج سرطان الثدي في تركيا، حيث تم استئصال جزء من ثديها، وهي الآن تبدو بصحة جيدة، كما تخبرنا: "منذ أكثر من عام ونصف وأنا أعاني من سرطان الثدي، لقد قرر والدي السفر بي الى خارج العراق، لقد سمعنا كثير من المرضى ذهبوا الى تركيا لعلاج سرطان الثدي، وبناء على نصيحة الناس لنا، اخترنا السفر إلى تركيا. هناك العلاج متوفر بسهولة، كما يوجد في تركيا الكثير من المستشفيات المتطورة في علاج السرطان."
في أحد ردهات مستشفى الصدر التعليمي. تصوير: سيباستيان كاستيلر.
هاني صالح، 26 عاماً، يعاني من سرطان البنكرياس، أجرينا اللقاء معه في منزله، في البصرة، قبل سفره مع والدهِ إلى العاصمة الأردنية عمّان، ليتلقى علاجه هناك، في مركز الحسين لمرضى السرطان، وقال لنا: "قبل شهرين، شعرت بألم في منطقة البطن، حتى نصحوني اصدقائي لعمل فحص طبي، ليتبين بعدها انني مصاب بالسرطان، وقرر والدي أنه من الأفضل أن أتلقى العلاج في الخارج." سألت والد هاني عن سبب اختياره الذهاب إلى الأردن وأجاب: "في الأردن العلاج متطور، إضافة الى دقة المواعيد في المراجعات والإجراءات تكون سريعة ومُنظمة، وهذا ما تفتقر له مستشفياتنا في العراق. هناك نقص كبير في العلاجات، وخفت أن لا أحصل على علاج لابني هاني في الوقت المناسب، سلامته فوق كل شيء."
عدم جهوزية المستشفيات الحكومية التي تقدم العلاج لمرضى السرطان هي واحدة من عدة مشاكل يعاني منها المرضى، مما يضطر كثير من المصابين إلى السفر للعلاج، بسبب توفر مراكز حديثة لعلاج المرض. "سعر الجرعة الواحدة في عمّان تكلف 1،500$، وانا أحتاج الى 6 جرع، لتصبح تكلفة العلاج النهائية ما يقارب 9،000$، تشمل كافة الفحوصات الطبية مع الادوية الاخرى،" يضيف هاني مشيرة إلى أن إختلاف سعر العلاج في العراق ليست القضية الأساسية بالنسبة له: "في العراق، لا يتوفر العلاج الخاص بسرطان البنكرياس في المستشفى الحكومي أو الخاص، سعر الجرعة من الصيدليات الخاصة في البصرة أكثر من 1،200$، ونجد صعوبة في الحصول عليها. بين العراق والأردن، الاسعار متقاربة، ولكن هنا في الأردن، نجد اهتمام اكثر في المريض، دقة المواعيد وقربها، ومتابعة الحالة بكل عناية، وهذا ما لا نجده في مستشفيات العراق."
وزارة الصحة لا تهتم لموضوع مرضى السرطان، أنها تنظر للمرضى على أنهم موتى ولا يستحقوا خسارة أموال طائلة لعلاجهم
قدرة أهالي هاني ومنى على أخذهم لتلقي العلاج في الخارج ليست متاحة لجميع العراقيين. أغلب المرضى الذين التقيناهم، اشتروا العلاج من الصيدليات الخاصة حيث قد تتراوح سعر الجرعة الواحدة من 130$ الى 1،200$. بعد أن عجزت الحكومة عن توفير العلاج لكافة المرضى، مما ساعد الصيدليات الخاصة على فرضِ سيطرتها على سوق أدوية السرطان في محافظة البصرة. وعن الاختلاف الكبير في الإسعار، أكد لنا أطباء صيادلة بأن التباين الكبير في أسعار العلاجات الكيميائية ما بين مئات الدولارات إلى الآلاف الدولارات، يعتمد بشكل كبير على مرحلة السرطان والذي يشمل الخيارات الثلاثة في الجراحة والعلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي، إضافة إلى مصدر الدواء.
فلاح فريد، 45 عاماً، الذي التقيناه في مركز البصرة لأورام السرطان- وهو مركز حكومي يتبع مستشفى الصدر التعليمي في البصرة- يخبرني عن اكتشافه للسرطان بالصدفة: "كنت أعاني لفترة من ألم في منطقة القولون، ولكن لم يراودني تصور انني مصاب بالسرطان. قبل 4 أشهر قررت الذهاب للفحص وظهرت نتيجة الفحص موجبة، بلغ وزن الورم 3 كيلوغرام، تم استئصاله في هذا المركز."
"بعد استئصال الورم، يجب أن أستمر في العلاج الكيميائي،" يقول فريد أنه دائماً ما يشتري العلاج الذي اسمه "بيفاسيزرماب" الخاص بسرطان القولون، من الصيدليات الخاصة: "اشتري جرعة واحدة لكل 21 يوم، وأنا عاطل عن العمل، أشكر أخي لأنه يساعدني في شراء ما تبقى من جرعات كيميائية. اليوم هو الجرعة الرابعة، كانت تكلفتها حوالي 160،000دينار عراقي ($134)، اضافة الى شراء الادوية المسكنة للألم، التي بدونها أشعر كالسكين تقطع في جسدي، شعور لا يمكنني وصفه."
مئات من المواطنين في البصرة يتظاهرون على نقص الخدمات في البصرة. تصوير سيباستيان كاستيلر.
ولكن بحسب مدير دائرة صحة البصرة الدكتور عباس التميمي، فإن دائرة الصحة في البصرة حصلت مؤخراً على موافقة وزير الصحة لشراء الأدوية من الأسواق المحلية وتم شراء 80-90% من الحاجة ويقول أنه "يُعطى العلاج الكيميائي الى المرضى في المستشفيات الحكومية بالمجانٍ." ويرد فريد على تصريح التميمي قائلاً: "نعم، انه يعطى بالمجان، وما فائدة مجانيته وهو غير متوفر في المستشفيات."
في حين تدعي الحكومة اهتمامها بمرضى السرطان، يرى أطباء أن هناك تجاهل لحجم الأزمة: "تم معاقبتي في عام 2014 من قبل وزير الصحة آنذاك، وأخشى أن يحصل ذلك مرة أخرى، بسبب تصريحي للإعلام،" يقول طبيب من محافظة بابل طلب منّا إخفاء هويته: "وزارة الصحة لا تهتم لموضوع مرضى السرطان، أنها تنظر للمرضى انهم موتى ولا يستحقوا خسارة أموال طائلة لعلاجهم، وأنا أعتقد هذا تفكير خاطئ، ولكن ليس لدينا كأطباء سلطة على مسؤول أو وزير، عندما نتحدث، أما نعاقب أو نسجن."
ليس لدينا كأطباء سلطة على مسؤول أو وزير، عندما نتحدث، أما نعاقب أو نسجن
هذا الأمر حفزَّ ناشطون واعلاميون في البصرة من إطلاق حملة إنسانية اسموها (حملة جرعة أمل) لدعم مرضى السرطان. إعضاء هذه الحملة هما حسين العربي، 31 عاماً، وكرار كلاوجي، 24 عاماً، مغنيا راب، أطلقوا أغنية راب تدعو إلى مساعدة أطفال مرضى السرطان في البصرة. "اغتنينا هي ورقة ضغط على الحكومة من أجل توفير العلاج للمرضى، لم يعد العلاج الكيماوي هو العلاج الوحيد لهذا المرض، الفن هو علاج ايضاً، بسبب الجو الحار في البصرة والأجواء غير الملائمة، يحتاج المريض الى ترويح عن النفس، وهذا ما نقوم به نحن من خلال نشاطاتنا المختلفة." ويضيف العربي: "نحن نعمل بجهود تطوعية، ومن مصروفنا الشخصي، لا ننتظر أي مقابل من جهة حكومية أو غير حكومية في مساعدة هؤلاء المرضى، إنها مسؤولية الجميع. انقذوا المرضى حتى ولو بابتسامة، فالابتسامة هي جرعة الأمل التي نحاول تقديمها لكل المرضى."