في ظهيرة يوم مشمس في شهر ديسمبر من عام 1912، حين قام فريق من علماء الآثار من الشركة الألمانية الشرقية بالتنقيب في العمارنة، المدينة المصرية المنسية منذ فترة طويلة على ضفاف نهر النيل. كان الفريق يسعى وراء كنوز مخبأة تحت رمال الصحراء الساخنة، لكن لا أحد منهم، وعلى رأسهم المشرف على الحفر، لودفيغ بورشاردت، كان بإمكانه توقع العجائب التي كانت تنتظره.من أعماق مدينة أشباح عمرها 3000 سنة جاءت أنقاض هيكل، إنها كانت ورشة عمل لنحات محترف في عصر تحتمس، الذي تم تكليفه بإنتاج صور ملكية رسمية، في حوالي عام 1350 قبل الميلاد. عندما كان الفريق يحفر بعمق، ظهرت قطعة أثرية مذهلة، بعد قرون من الظلام، ظهرت ملكة الأسرة الحاكمة الثامنة عشر، إنها منحوتة من الحجر الجيري وملونة بطبقة من الجبس الجبلي.
تمثل المنحوتة تمثال نصفي بالحجم الطبيعي بدقة عالية، عظام بارزة، وأنف مميز، وعين من الكريستال الصخري. حول التمثال، غطاء رأس دقيق التفصيل في ظلال من الأحمر والأخضر والأزرق والذهبي؛ مع تقنية ألوان مشرقة على الرغم من الأتربة التي تعلوه. قد لا يكون هناك خطأ في وجه المرأة الذي يزينه التاج المسطح الذي يقبع فوق جبينها، لقد تم كشف النقاب عن الملكة نفرتيتي.لم يضع بحث بورشاردت هباء، حيث قال متحمسًا في مذكراته "فجأة، أصبح لدينا في أيدينا أكثر الأعمال الفنية المصرية إبداعًا، وأضاف "لا يمكنك وصفها بالكلمات, يجب أن تراها".عندما التقى بورشاردت بمسؤولين مصريين عام 1913 لمناقشة تقسيم القطع الأثرية التي تم اكتشافها بعد عمليات الحفر، البعض قال إنه قلل عن قصد من قيمة التمثال. وسواء من خلال الخداع أو الإهمال، مرت نفرتيتي من مصر إلى ألمانيا، حيث أكد بورشاردت أن عملية انتقال نفرتيتي إلى ألمانيا بقيت سرية خلال السنوات العشر التي تلت تواجدها في ألمانيا، وذلك لعدم لفت انتباه المصريين إليها.بعد قرون من العزلة، تم أخيرا كشف النقاب عن نفرتيتي للجمهور في متحف برلين في عام 1924، وكان التوقيت مناسبًا: فقد استحوذت روعة مدفن توت عنخ آمون الذهبي على خيال العالم قبل عامين، وكان اهتمام العالم الغربي بعلم المصريات في ذروته، ومع ظهور وسائل الإعلام، ظهرت نفرتيتي وسط المصابيح الكهربائية مثل نجم سينمائي، إنها "موناليزا العالم القديم" التي سحرت الحشود بابتسامتها الهادئة، والتناسق المذهل ذات الأبعاد الصافية.ولاحظت جويس تيلديسلي، وهي إحدى الشخصيات البارزة التي اهتمت بحياة الملكة القديمة، في كتابها "وجه نفرتيتي: صناعة الأيقونة"، تماشيًا مع أسلوب الفن والديكور الهندسي الغني بالألوان الذي بدأ يمثل ثراء وبريق ما بعد الحرب"، ولكن مع اكتساب نفرتيتي الشهرة كرمز للكمال الأنثوي، توارت القصة الحقيقية لنفرتيني وراء الستار.
إعلان
هيكل يظهر إخناتون ونفرتيتي وثلاثة من بناتهم. الأسرة الثامنة عشرة - عصر إخناتون
كما يؤكد تولدسلي، فإن الهوس الحديث بجمال نفرتيتي كانت لديه "القوة لتشويه فهمنا للماضي"، في حين أن أصول الملكة القديمة غير معروفة، فإننا نعلم أن نفرتيتي، التي يعني اسمها "الجميلة أتت"، كانت الملكة والزوجة الرئيسية للفرعون أمنحتب الرابع، الذي حكم مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وعندما جاء أمنحتب الرابع إلى السلطة، نقل الزوجان الشابان العاصمة من طيبة إلى تل العمارنة، لبناء مدينة جديدة من الصفر، ولم يكن هذا هو التغيير الرئيسي الوحيد، ففي سنته الخامسة من الحكم، أخذ الفرعون منعطفًا إيديولوجيًا مثيرًا للجدل، حيث أدخل دينًا جديدًا حل محل ألفي سنة من اللاهوت.باستخدام ثروته العظيمة وقوته، تخلى أمنحتب الرابع عن عبادة الآلهة التقليدية التي يرأسها آله ذو رأس حيوان لصالح إله شمسي وحيد، وهو آتون، تم تمثيله كقرص شمس، محاط بأشعة ضوئية، من خلالها قدم أمنحتب ونفرتيتي وبناتهم رؤيتهم للحياة إلى العالم، وقام أمنحتب بتغيير اسمه إلى إخناتون، وأوكل نفرتيتي بقوة هائلة في تعزيز الثورة، وأصبح عصرهم معروفًا في كل أنحاء البلاد بطرقه الثورية.الدليل على أن تمثال نفرتيتي فريد من نوعه هو كونه منحوت حرفيًا في العمارنة، وهو ما يعتبر أمر ثوري مثل دينهم الجديد، ففي هذه النقوش القديمة، المليئة بالحركة، تأتي نفرتيتي إلى الحياة، ويظهر أحد التصاميم الزوجين الملكيين وهما يركبان عربة تجرها الخيول والتي تحتضن أشعة آتون المتألقة في السماء.وفي حالات أخرى، تقود نفرتيتي خيولها الخاصة خلال موكب احتفالي، وهناك مشاهد حميمة من المودة العائلية أيضًا، مع إخناتون ونفرتيتي وبناتهن تجثو على أقدامهن. كما فرضت نفرتيتي القانون والنظام، فتظهر في إحدى الصور الموجودة على الكتل في منطقة "هرموبولس"، حيث يتم تصوير نفرتيتي على قدم المساواة مع صورة محارب رجل منتصر، تضرب أعداء مصر بصولجان، ولا شك أنها كنائب للملك، كان بإمكان نفرتيتي أن تأخذ العرش بكل سهولة.
إعلان
إنها أيقونة دينية في الفترة التي ظهرت بها، تم تصوير نفرتيتي كزوجة وملكة عظيمة، وكثيرًا ما تظهر الملكة في معبد آتون وحدها، وتقدم القرابين في معابد مخصصة للإناث فقط، في هذا الصدد، لم تكن نفرتيتي مجرد صلة بين البشر وآلهتهم، بل كانت ارتباطًا بالآله نفسه، في إحدى الزخارف التي يعتقد أنها من هياكل آتون التي بناها أمنحتب الرابع في الكرنك، تم تصوير نفرتيتي وذراعيها مرفوعتين مباشرة إلى آتون، كان هذا الدور مخصصًا فقط للملوك، والحقيقة إن قيامها بممارسة هذه الطقوس هي شهادة على قوتها.
صورة في وقت مبكر من حياة نفرتيتي، كاليفورنيا. 1352-1347 B.C.E. الحجر الرملي - مزينة. تصوير: ستيفن ساندوفال
وبالنظر إلى تماثيل نفرتيتي التي نجت في تلك الفترة، يبدو من المفارقات أننا لا نعرف شيئاً عما حدث لها بعد وفاة إخناتون، فهل حكمت مصر بنفسها؟ هل سقطت؟ قبل كل شيء، أين دفنت؟ حتى يومنا هذا، لم يتم اكتشاف أي مقبرة أو معبد أو نصب تذكاري. وقيل مؤخرًا أن هناك مؤامرة قد حيكت ضد الملكة الغامضة، حيث كانت نهاية حياتها مصدر للنقاش لفترة طويلة، والنظريات العلمية اختلفت في ذلك إلى حد كبير.ما نعرفه هو أن مصر عادت إلى معتقداتها الأصلية في عهد توت عنخ آمون، في حين تم التخلي عن العاصمة وإله الشمس الحديث، ودمر الخلفاء المتتالين الكثير من الأعمال الفنية، بعد ثلاثين عامًا، اختفت المدينة مرة أخرى في الرمال. لكن نفرتيتي يبدو أنها رفضت الذهاب بهدوء، وبعد سنوات من وفاتها، كان اكتشاف التمثال النصفي قد أعلن عن نهضة ملكة، وإن كانت تتسم بالجدل.ومنذ إزاحة الستار عن التمثال عام 1923، قامت مصر مرارًا وتكرارًا بحملة من أجل عودة القطعة الفنية، ورفضت ألمانيا، التي تؤكد أنها حصلت على التمثال بشكل قانوني، أكثر من مرة خلال فترة الحكم النازي، واقترح هيرمان جورينغ عودة نفرتيتي إلى مصر، لكن هتلر كان لديه خطط أخرى: "لن أتخلى أبداً عن رأس الملكة" ، كما أعلن في رسالة إلى السلطات.
إعلان
إيمان في دور نفرتيتي في فيديو أغنية لمايكل جاكسون بعنوان Remember the Time "تذكر الوقت"
وبعيدًا عن جدران المتحف، فإن نفرتيتي تمتلك صدى كأيقونة تتعدى حدود مصر وألمانيا، فقد ذكر اسم نفرتيتي في أغنية لمغنية الراب لورين هيل في التسعينات، في حين أن الموديل إيمان أخذت دور الملكة نفرتيتي زوجة الفرعون في فيديو أغنية لمايكل جاكسون بعنوان "Remember the Time - تذكر الوقت"، وفي عام 2012، عرضت إيزا غينسكن أعمال مستنسخة من تمثال نفرتيتي، مع إكسسوارات النظارات الشمسية.وهناك نماذج أخرى نظرت إلى تأثير نفرتيتي في المجال السياسي، ومنهم فنان الجرافيتي المصري "الزفت" الذي رسم جرافيتي من تمثال نفرتيتي وارتداءه كقناع غاز باعتبارها صورة نسائية مميزة خلال ثورة عام 2011 المصرية. ثم هناك المطربة بيونسيه التي ارتدت غطاء الرأس المرصع بالجواهر والتاج الذي يذكرنا بالمصريين القدماء خلال مشاركتها التاريخية في مهرجان كوتشيلا في 2018، حيث قدمت نفرتيتي كرمز للتمكين للمرأة السمراء.وفي العام الماضي، حصلت ريهانا على تكريم كنجمة غلاف مجلة نجمة فوغ العربية في نوفمبر وارتدت زي الملكة الأسطورية، وهي خطوة قام بها على ما يبدو رئيس التحرير مانويل أرنوت في محاولة لتشجيع التنوع.يبدو أنه من غير المحتمل أننا سنتعب من التأمل في القيمة الجمالية لنفرتيتي، وبقدر ما تذهب الاكتشافات الأثرية فهي خالدة، لكن إذا نظرنا إلى أبعد من جمالها، نجد قصة بنفس القدر من الروعة، فهي ملكة انطلقت في عملية الإصلاح الديني، وتزعمت ثورة ثقافية، وربما حكمت مصر ذاتها.