طالبة طب تكتب لـ "VICE عربية": نعم ندرس على جثث وعظام مسروقة أحيانًا لأنه لايوجد بديل

طلاب طب يدرسون على أجزاء هيكل عظمي مسروق - التقطت الصورة بواسطة هيثم محجوب

FYI.

This story is over 5 years old.

مجتمع

طالبة طب تكتب لـ "VICE عربية": نعم ندرس على جثث وعظام مسروقة أحيانًا لأنه لايوجد بديل

مررت بالتجربة التي تحدث عنها تحقيق "سرقة بأمر الطب" وجدد ما قرأته وشاهدته شعور الندم الذي راودني حينها

كعادتي كل صباح، افتح عيناي وأُمسك هاتفي لأتصفح الإنترنت، الأخبار، مواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها. يظهر أمامي تحقيق عن سرقة الجثث وعظام الموتى في مصر بـ "أمر الطب"، حسب تعبير الكاتب. تعود بي الذاكرة إلى الوراء قليلاً، إلى السنة الأولى بكلية طب حيث لم أكن أتصور أبدا أنني يمكن أن أتعامل مع جسد، وإن كان ميتًا، له حرمته ويتوجب احترامه.

لم يخبرنا أحد أبدا عن كيفية التعامل مع الجثث التعليمية في مشرحة الكلية، لم يكن هناك آداب لدخول المشرحة كما تلك الموجودة في المقابر، حتى في الجلسات التعريفية التي حضرناها في بداية التقديم للكلية، لم ينوه أي شخص عن شيء. أُتم الآن عامي السادس داخل كلية الطب، لا يمكنني حصر المرات التي دخلت فيها المشرحة وتعاملت مع أجساد آدمية خلت منها الحياة، لا يمكنني وصفها بالجثث لأنني لم أنظر إليها هكذا أبدًا.

إعلان

"الموتى يُعلمون الأحياء".. عبارة كُتبت على باب مشرحة إحدى كليات الطب. الاتفاق الضمني المُسبق بين كل من يدخل المشرحة أنه هنا بغرض التعلم فقط، يجب تجريد الأشياء من موضعها والنظر دون إفساح المجال للمشاعر. المشرحة مكان غير محبب، رائحة الفورمالين تقتحم أنفك وتدفعك للبكاء أحيانا من فرط شدتها، لكنها ليست بالمكان المخيف كالمقابر، لن تضع يدك على قلبك كلما دخلت إليها، ولن تراودك مشاعر متضاربة، بين الخوف والرهبة والحزن والنفور، فقط أنت هنا بغرض العلم والدراسة، وهي معادلة سرعان ما تتقبلها لتصبح عنوان علاقتك مع المكان.

لا نسأل هنا عن ماضي الأشياء، كيف أتت الجثث والعظام، لا يهم لنا ولا للأساتذة، كلنا وافقنا على الاتفاق الضمني المسبق دون تفكير. في السنة الأولى كان مقرر علينا دراسة عظام الإيدي والأرجل، وكذلك العضلات أيضًا، ولم يكن الموضوع بالسهولة التي تجعلك تعتمد على عدد المرات التي تذهب فيها إلى المشرحة، الإنسان كائن معقد بكل تفاصيله، العظام مليئة بالنتوءات والبروزات وكذلك العضلات تختلف أنسجتها وتتعدد.

طبيعة الدراسة تقود إلى ضرورة الحصول على عظام بأي طريقة كانت، للأسباب التي ساقها التحقيق، والمتعلقة بعدم تناسب الجثث والعظام المتاحة في الكلية وعدد الطلاب، لحسن حظي كانت صديقتي التى تدرس الصيدلة تمتلك حقيبة بيضاء تحتوى على عظام، شقيقتها الكبرى وابن خالتها كانا يدرسان الطب. لم اسأل طبعًا عن مصدر تلك العظام ولا عن هوية صاحبها، أخذتها من صديقتي في نفس الحقيبة البيضاء وتعاملت معها ككتاب يجب على الانتهاء من دراسته لكي أحصل على درجات جيدة، أخذتها إلى المنزل فقابلني أهلي بالامتعاض، لكنهم اكتسبوا مني صفة التجرد في التعامل مع العظام لاحقًا.

إعلان

انتهيت من الدراسة على العظام المستعارة، سألني صديق إذا كنت امتلك "عظمًا"، حسب التعبير الدارج بين طلاب الطب؛ فأعطيته الكيس الأبيض ولم أشعر بأي مشاعر تجاه تخلصي منه. في السنة الثانية داخل الكلية كان علينا دراسة فقرات العمود الفقري، حينها تطوع اتحاد الكلية بعمل متحف لاستعارة العظم، الأمر بسيط، تخبرهم باسمك ورقم جلوسك وتأخذ ما تريد وترحل، بنفس سهولة أن تستعير كتاب إن لم يكن أسهل من ذلك.

طبيعة الدراسة تقود إلى ضرورة الحصول على عظام بأي طريقة كانت، لأسباب متعلقة بعدم تناسب الجثث والعظام المتاحة في الكلية مع عدد الطلاب

تركت الفقرات في غرفة نومي حتى نسيتها، لم أعدها إلى المتحف ولكنني احتفظت بها فترة من الوقت، طول المدة التي بقيت فيها الفقرات بحوزتي نشأت بيننا علاقة ما، كنت أنظر إليها كثيرًا، أفكر في هويتها، هل كانت لسيدة أم لرجل؟ كيف انتهى مصيرها؟ هل كانت تخص شخصًا صالح أم فاسد، طيب أم شرير، لم تجبني الفقرات أبدًا، لكنها ظلت معي حتى قررت إعادتها إلى المتحف لكي أنهي تلك العلاقة.

كان للجمجمة الحظ الأوفر في القرب مني، وهو أمر شائع بين طلاب الطب على ما يبدو، على غرار فيلم أحلى الأوقات عندما كانت تقول الفنانة هند صبري: "عايزة ورد يا إبراهيم"، كتبت كثيرًا على حسابي بـ"فيسبوك" عايزة جمجمة يا إبراهيم؟ رومانسية مبالغ فيها، أو هكذا يتعامل طلاب الطب مع الرومانسية على الأغلب.

كنت أتعامل مع العضلات كذلك بالطبع، بنفس الطريقة التي يتعامل بها رواد المتاحف مع المومياوات، مجرد قطع متآكلة، التقطت الصور مع الأيدي والأرجل كما يلتقط الناس الصور مع الذبائح في عيد الأضحى بل وشاركتها أيضا مع أصدقائي، بعد مرور الوقت شعرت أن هذا غير آدمي بالمرة وتخلصت من الصور، عندما خطر على بالي فكرة أنني يمكن أن أكون في نفس الموضع يومًا ما، انزعجت وشعرت بالامتعاض وتخلصت من الصور وندمت على ما فعلت، لطالما تمنيت من الجثة أن تسامحني على ذلك الفعل.

إعلان

صحيح أنني لم أتورط في شراء عظام بشرية أو أجزاء من جثث كما يفعل الكثير من زملائي طلاب الطب مُجبرين، لكنني مررت بالتجربة ذاتها في جميع الأحوال ونسيت أو تناسيت ذلك الشعور بالندم الذي سيطر عليّ، قبل أن يُجدد ما قرأته في التحقيق، وشاهدته في مقاطع الفيديو التي تضمنها ذلك الإحساس.

تحدثت مع عدد من زملائي طلاب الطب عن تجاربهم مع الجثث والعظام، كيف حصلوا عليها وماذا كان شعورهم تجاهها؟. تقول رباب خالد: "شعرت بالضيق طوال 3 سنوات بسبب درس التشريح، اعترتني رغبة عارمة في اجتياز السنوات الثلاثة الأولى، لأتخطي دروس المشرحة، أما العظام فحصلت عليها من أحد معارف عائلتي، طالب الطب السابق، لم أعرف مصدر الهيكل العظمي الذي بات (عظم في قفة) كما يقول المثل الشعبي، ولما أحاول أن أسأل".

لم يختلف الأمر كثيرًا مع نغم جميل التي حصلت على العظام من إحدى قريباتها: "أخدت العظم من خالتي التي سبقتي لدراسة الطب، لكنها كانت قد حصلت عليه من المقابر، لم يكن أمامها بديل آخر للأسف، شعرت بحرمانية الأمر لكن لم يكن أمامي طريق آخر، هداني تفكيري إلى علاج الأمر بإعادة العظام إلى المقابر ودفنها بعد انتهاء دراستي، واعتادت والدتي وجدتي على قراءة القرآن والدعاء لصاحبه، لكني لم أتمكن من دفنه بعد انتهاء دراستي عليه، لإني أعطيته لإحدى قريباتي التي التحقت بكلية الطب بعدي".

أما أحمد إسماعيل، زميلي في دراسة الطب فلجأ إلى حل مبتكر لتأمين العظام والأجزاء البشرية اللازمة لدراسته، بتوطيد علاقته بعامل المشرحة ليتمكن من الحصول على ساعات دراسة إضافية دون أن يتحمل مشقة البحث عن وسيط للحصول على العظام بطريق غير شرعي: "عقدت اتفاقًا مع عامل المشرحة ليدخلني في غير أوقات الدرس الرسمية، فأراجع ما فاتني في الزحام، وأنهي مراجعاتي، مقابل مبلغ من المال".

إعلان

وعلق رمضان محمد على الأمر بقوله: "كنت أتخيل الأساطير اللي بيحكيها الناس عن أول سكشن "درس" مشرحة، وإننا سنقف في مواجهة جثة كاملة وسأعمل على تشريحها، لم تكن الصورة بذات المظهر الأسطوري الذي تصوره المسلسلات والأفلام الأجنبية، مع الوقت تكونت ألفة بيننا والمكان، فأصبحنا نأكل داخل آخر مكان كنت أتوقع أن تعينني شهيتي على تناول الطعام فيه".

اتفقت معظم شهادات زملائي في حصولهم على العظام من أقارب أو معارف سبقوهم لدراسة الطب، وبتتبع مصدر هذه العظام في معظم الحالات كان غير شرعي، بسرقتها من المقابر، وأعرف آخرين تحصلوا علي العظام بطريق غير شرعي من البداية، وهو ما يخالف القانون والمواثيق الأخلاقية التي تحكم مهنة الطب، لكن الطلاب يجدون لذلك تبريرات تتعلق بالضرورات التي تُبيح المحظورات، والبحث العلمي.

لا اختلف على أنني وزملائى كنا مضطرين لذلك، لكن طالما أعاد تحقيق "VICE عربية" تسليط الضوء على هذه القضية، وأثار الجدل حولها، أن نبحث بدائل تجنب طلاب الطب الحصول على الجثث والعظام البشرية بطريق شرعي من البداية.

على جميع الأطراف المعنية أن تفتح نقاشًا جادًا حول بدائل واقعية وفعالة وإنسانية، تحفظ لأجساد الموتى احترامها، وإن استخدمت في سبيل البحث العلمي وخدمة البشرية، بتقنين الحصول على الجثث الآدمية سواء بتشريع يسمح بذلك بعد موافقة أصحابها الكتابية في حياتهم، أو بتدبير الميزانيات اللازمة لاستيراد الجثث البشرية من الخارج، بالأعداد الكافية لاحتياجات الكليات، وبدورية لا تزيد عن العام كما يحدث في معظم جامعات العالم، ليتم دفنها بعدها بشكل لائق.

البدائل كثيرة ومتنوعة، ولا يتطلب الأمر أكثر من نقاش جدي لإيقاف أفعال ممنهجة ترتقي إلى درجة الجرائم، تورط فيها الكثير من طلاب الطب بشكل مباشر أو غير مباشر، بعلم أو بدون، بالتحريض أو بالفعل السلبي، ليبقى المشهد الأخير موزعًا بين عدة مقاطع فيديو تضمنها تحقيق "سرقة جثث وعظام الموتى في مصر بأمر الطب"، طلاب يتحدثون عن صراعهم بين الرغبة في النجاح والتورط في جريمة نبش قبور وسرقة أجساد وعظام سكانها، ومشرحة تفتقر لكل ما ينتمي للمؤسسات الطبية وأقسامها وملحقاتها، شكلًا ومضمونًا، وصولًا إلى من يفترض أنهم أطباء المستقبل وهم يتسللون في جنح الليل ليظفروا بسويعات أخيرة من المراجعة على عظام مسروقة، قبل توجههم إلى لجان الامتحان.