نستعدُ بحماسة منقطعة النظير للحصول على شهادة التعليم العالي، لأن كل دورة تدريبية وكل مادة علمية تقودنا للتفكير في السؤال الحتمي: ما هي التطبيقات العملية؟ لكن واقعيًا لن يُعدنا أي عدد من الساعات الدراسية وأية محاضرات جامعية لما سنضطر لمواجهته في سوق العمل حيث الحرب الطاحنة للحصول على الفرصة المثالية والعمل لثمان ساعات قد نكون محظوظين جدًا إن تخللتها ساعة غداء. لطالما اعتقدت أنني وُلدت لأعمل وسلّمت كليًا بفرضية أن كل طالب مجتهد هو موظف مثالي بالفطرة. منذ أن تخرجت في عام 2018 قررت بأن الطريقة التي نجحت من خلالها في مسيرتي الأكاديمية ستكون هي الطريقة نفسها التي سأنجح من خلالها في إبراز تميزي والحصول على وظيفة جيدة، لكن الواقع كان أقل وردية.
تنقلت بين ثلاث وظائف وأنا أشغل الرابعة حاليًا. قمت بخمس مقابلات عمل مختلفة. وبالنظر لما سارت عليه الأمور منذ أن بدأت العمل في وكالات التسويق والمنشآت الصغيرة عليّ الاعتراف بأنني كنت على غفلة مما ينتظرني، وأدركت بأن أحدًا لم يخبرني هذه الحقيقة بشأن العمل في المجال الإبداعي وهي أنه محفوفٌ بالتغييرات وملؤه المفاجآت. فمنذ أن بدأت العمل ككاتبة محتوى بدوام كامل في شركة تسويق رقمي ناشئة في مطلع هذا العام أنهال سقف توقعاتي على رأسي وأعتقد أن هذا التعبير الأكثر دقة على الإطلاق، فالبيئات العملية الإبداعية التي كنتُ أحلم بوجودها والمساحات العملية التي يحتلها أشخاصٌ استثنائيون بأفكار جديدة وعقول متفتحة تبيّن أنها لا تتجاوز رأسي الصغير.
بعد مقابلات العمل المليئة بالوعود التي لا تتحقق، عاهدتُ نفسي على أن أتوقف عن البحث عن نموذج بيئة العمل "الرهيبة مرة" لأنها غير موجودة. بين مدير متعجرف وكاذب وآخر ممتلئ بنفسه وثالثٌ قضى وقت المقابلة كاملةً يخبرني عن مدى روعة بيئة العمل والمكتب المفتوح ويعدني بنزهة على الدراجة في ساعة الغداء، بينما تجاهل تمامًا الحديث عن المقابل المادي -وكأنني أتيت للمقابلة بحثًا عن ساحة للعب وليس للعمل.
قررت أن أعتق نفسي أخيرًا وأُسلم بأن النموذج الأفلاطوني لا وجود له إلا في مخيلتي، ولعل من الأفضل له أن يبقى هناك. ما مررت به حتى الآن يتشابه إلى حد كبير مع ما يعشيه الخريجين الجدد عند البحث عن وظيفة في قطاعات إبداعية، فقد التقيت مجموعة من الشباب والشابات الذين يعملون في مجال صناعة المحتوى الإبداعي تقاطعت تجاربهم مع تجربتي، ومنهم سارة عثمان، 23 عامًا، أخصائية تسويق، والتي أخبرتني عن مقابلة عمل غير مألوفة: "كانت مقابلة غريبة، في بداية المقابلة قام مدير الموارد البشرية بسؤالي عن لوني المفضل والسيارة التي أرغب بشرائها. وعدد من الأسئلة التي ليس لها أي علاقة بمجال عملي بالإضافة إلى كونها لا تُعد مؤشرًا على أي طريقة تفكير أو طموح. اعتقدت أنه قد قصد كسر الجليد قبل أن يبدأ بطرح الأسئلة الجدية، ولكن تلك المقابلة لم تأخذ أي منحى عملي بل استمرت كدردشة بين صديقين، وهو ما أشعرني أنه لم يتم أخذ مؤهلاتي على محمل الجد، وأنه يتم التعامل معي كخريجة جديدة فقط وليس كموظفة مستقبلية."
هل أنتِ مخطوبة أو ترغبين بالزواج؟ فأجبت بالنفي أيضًا. بدا عليه الارتياح وقال لي بصريح العبارة "هذا عظيم! إذًا لن تكوني بحاجة لإجازات كثيرة
لم تكن هذه مقابلة العمل الوحيدة التي تم التعامل مع سارة بطريقة غير مهنية، وتم توجيه أسئلة شخصية غير مناسبة وتمييزية لكونها امرأة: "في مقابلة عمل أخرى، قام أحدهم بسؤالي عن حالتي الاجتماعية فأجبته بأنني عزباء فإذا به يستطرد ويقول "هل أنتِ مخطوبة أو ترغبين بالزواج؟ فأجبت بالنفي أيضًا. بدا عليه الارتياح وقال لي بصريح العبارة "هذا عظيم! إذًا لن تكوني بحاجة لإجازات كثيرة."
فوجئت سارة بهذه التصريح، ولكن للأسف ليس من النادر أن تواجه النساء تحيزًا جنسيًا أثناء مقابلات العمل، وفقًا لإحدى الدراسات فإن 75٪ من النساء في قطاع التكنولوجيا تم سؤالهن عن الحالة الاجتماعية والحمل والأطفال أثناء المقابلات. وهذه الأسئلة بالطبع، تغذي التحيز الجنسي في مكان العمل، غير أنها تعتبر غير قانونية في بعض الدول. تقول سارة أنها حصلت على الوظيفة ولكنها قامت برفض العرض الوظيفي المُقدم وتضيف: "المُقابل المادي لم يكن مناسباً ولم أشعر بالراحة من الأسئلة الشخصية التي وجهت لي."
تكرر هذا الأمر كذلك مع أفراح، 25 عامًا، والتي تقدمت لوظيفة كاتبة محتوى في وكالة تسويق. أفراح غير سعودية من مواليد المدينة، وبطبيعة الحال يتم الحديث خلال مقابلات العمل عن إجراءات نقل الكفالة. ما لم تتوقعه أفراح هو أن يفاجئها الشخص الذي أجرى معها مقابلة العمل بالرد التالي عندما أخبرته عن قابليتها لنقل الكفالة "أبوك ما عنده مشكلة؟" وتضيف أفراح: "تعجبت من السؤال، وأخبرته أنه ماراح يكون فيه مشكلة في نقل الكفالة من والدي للشركة، فأجابني أنا متأكد أنه لن يوافق، ثم ختم كلامه قائلًا: أنتِ فتاة والقرار عادةً ما يعود للأهل في هذه الحالة." تقول افراح أن المقابلة انتهت بشكل غير مهني ولم يُعاود المسؤولون عن التوظيف التواصل معها: "بعد هذه المقابلة ونظرًا لأسلوبه الوقح في سؤالي عن نقل الكفالة وافتراضه بأنني لا أملك شيئًا من أمري، كنت سعيدة بأنهم لم يحاولوا التواصل معي مجدداً."
تتفق الكثير من النساء المتقدمات للعمل على أن أكثر الأسباب شيوعًا لحرمان النساء من الفرص الوظيفية هو احتمالية الارتباط أو الزواج والإنجاب مما سيلزم المُوظفين بتقديم أيام إجازات معينة؛ وأحيانًا يمكن أن تُرفض الفتاة لكونها متزوجة ليس لسبب إلا بناءًا على فرضية أنها قد تنتقل لمدينة أخرى بانتقال زوجها، أو قد تستيقظ يومًا وتقرر بأنها ستكون ربة منزل. إنه أمرٌ لا يصدق، ولكن التمييز والتحيز الجنسي لا يزال حيًا في مقابلات العمل- أراهن مثلاً على أن المتقدمين الذكور لا يُسألون عن شؤونهم الخاصة أبدًا.
"أحيانًا لا أفهم ما الذي يفكرون فيه عندما يطرحون هذه الأسئلة،" تقول شيماء حموقة، 23 عاماً، مصممة جرافيكية من المدينة، وتضيف: "في أحد المقابلات قام أحد المُوظفين لها بسؤالي عن السبب في بقاء أمي ربة منزل، وختم المقابلة أخيرًا بنفثة من دخان سيجارته وضحكة ساخرة عندما سألني عن مطعم لأحد عملائه المعروفين وقلت له أنني لا أعرفه. انتهت المقابلة هنا."
هناك أيضاً مشكلة أخرى في مقابلات التوظيف في الشركات الناشئة، حيث يميل المدراء اليافعون أحيانًا إلى أساليب غير تقليدية في طرح الأسئلة أو في إدارة الحوار في مقابلات العمل، كمحاولة للتركيز على الجانب الإنساني والصفات الشخصية للموظف أو المُتدرب المُحتمل؛ لكن الأمر قد يصبح يأخذ جانباً من المبالغة. هذا ما حدث مع عبد العزيز عبد الله، 26 عاماً، كاتب محتوى يعمل في شركة تسويق في الرياض، إذ تم رفض انضمامه كموظف في إحدى الوكالات الدعائية بعد المقابلة الثانية. والسبب غريب. كما يخبرني عبد العزيز: "خلال المقابلة الثانية تم الطلب مني أن أقوم بعرض تقديمي أشرح فيه خطةً تمهيدية لإدارة إحدى الحسابات وذلك لتقييم عملي. وبعد أن قمت بالعرض ومشي الحال، جاءني الرفض والسبب أنني لم أكن متوترًا بما فيه الكفاية. لم أكد أصدق ذلك عندما قرأت إيميل الرفض."
بعض أصحاب الشركات الناشئة يقومون كذلك بـ "استغلال" الخريجين حديثًا وإغرائهم بتدريب عملي سينتهي بالتوظيف ومكافأة رمزية، ليعملوا لشهور متواصلة ويعودوا إلى منازلهم بعد هذه المدة بالكثير من الوعود الكاذبة والغير مُحققة. يقول أحمد، ٢٣ عاماً، بأنه تقدم للعمل في مؤسسة تسويق رقمي كمختص في إدارة حسابات التواصل الاجتماعي وتم الاتفاق بينه وبين المؤسسة على أن يكون الشهر الأول من العمل تدريب بدون مقابل على أن يتقاضى مكافأة شهرية بدءًا من الشهر الثاني: "قمت بتوقيع العقد وإرساله للجهة عبر البريد الإلكتروني لكنني لم أتلقى نسخة مُوقعة من العقد من طرفهم، كانت كل الإجراءات عن بعد نظرًا لظروف الحجر المنزلي في تلك الفترة،" وظنًا منه بأن الكلمة هي غير ميثاق بينه وبين مدير المؤسسة لم يهتم أحمد كثيرًا بالحصول على العقد، وهنا حصل ما لم يتوقعه: "عملت لساعات طويلة وقمت بكل ما طلب مني، في نهاية الشهر الثاني قمت بمراسلتهم لأذكرهم بالمكافأة، لتخبرني مديرة قسم التسويق بكل برود بأنهم لم يعودوا بحاجة لخدماتي. تعاملوا معي وكأنني لا شيء."
أمام هذا الوضع، يختار صُنّاع المحتوى من مصورين ومصممين وكُتّاب ومنتجين العمل بشكل حر، وقد سهلت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في السعودية ذلك من خلال إصدار وثيقة العمل الحر؛ لتشجيع المواطنين على إنشاء مشاريع العمل الحر المتعددة في المملكة، نظرًا لأن هذه المشاريع تساعد في توفير فرص عمل للمواطنين من الجنسين في المملكة العربية السعودية.
ولكن التعامل مع العملاء ليس سهلاً، كما تقول شيماء التي تعمل كمصممة حرة حالياً تقول: "الأجر زهيد ومعظم العملاء لا يعرفون الكثير عن خط سير العمل والجهد الذي نقوم به مما يجعل المتابعة والتنسيق والحصول على نتيجة مُرضية يمكنني إضافته لملف أعمالي أمرٌ صعب الحدوث؛ لكنه يوفر لي مصدر دخل إضافي جيد." أما بارعة القحطاني، 23 عاماً، كاتبة محتوى من مدينة أبها، فتخبرني أن بعض تجاربها مع العملاء في العمل الحر تجعلها تُعيد التفكير في جدواه من الأساس: "يتعامل صُناع المحتوى في السعودية مع أشخاص من مُختلف الخلفيات، ومنهم من لا يفقه شيئًا عن إدارة حسابات التواصل الاجتماعي أو المحتوى التسويقي أو خطط المحتوى الشهرية. ودائماً من يتم تحميلي المسؤولية كاملةً عن أي مشكلة، ويطلبون تعديلات لا تنتهي على المحتوى."
وهكذا يتخبط الشباب السعوديون في سوق العمل الإبداعي بين من يخطط للعمل في وكالة إبداعية عالمية أو يحلمُ بإنشاء شركته الخاصة، ومن ينتهي به الأمر إلى اختيار راحته النفسية وسلامته العقلية ليقرر الاعتماد على العمل الحر رغم تعب القلب وشح المردود المادي.