GettyImages-1238440117

GettyImages

سياسة

حذف المرجعية الإسلامية من الفصل الأول من الدستور التونسي لا يعني علمنة الدولة

هل للدول دين؟ وهل ستدخل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى الجنة أو جهنم؟

تعيش تونس، هذه الفترة، على وقع جدل متجدد حول مسألة حذف المرجعية الإسلامية من الدستور بعد إعلان العميد الصادق بلعيد رئيس اللجنة الاستشارية لإعداد مقترح دستور جديد، أن الدستور الذي قدمه لرئيس الجمهورية قيس سعيد لن يتضمن تنصيصًا على دين الدولة في تعارض مع ما ورد في دستوري 1959 و2014 الذين تم التنصيص فيهما على دين الدولة في الفصل الأول.

وكان هذا الفصل ينص على أن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها." ورغم أن وجود هذا الفصل كان يعني فقط تحديد الدين الغالب في البلاد ولكن دون التنصيص على أنه سيتم الاعتماد على الشريعة كمصدر للتشريع، إلا أن حضور هذه الصيغة ظلت عامل طمأنة للتونسيين الرافضين لمبدأ علمنة الدولة وفصل الدين عن السياسة.

إعلان

التلويح بحذف المرجعية الإسلامية من الفصل الأول أثار سجال كبير بين الإسلاميين المتخوفين من أن هذا التغيير سيعني سحب الهوية الإسلامية من التونسيين، فيما يخشى قسم آخر أن يثير هذا القرار، في حال تفعيله، إلى تأجيج صراع الهوية مجدداً وطبعاً هناك المتحمسين لفكرة فصل الدين عن السياسة.

ما الذي سيتم طرحه خلال الاستفتاء؟
صدر مساء الخميس الثلاثين من يونيو الماضي الأمر الرئاسي بنشر مشروع الدستور الجديد المقترح على الاستفتاء يوم 25 يوليو الجاري. وجاء مشروع الدستور الجديد في 142 مادة، تتضمن توطئة و10 أبواب منها الباب الأول الذي يتعلق بالأحكام العامة، والباب الثاني الذي يتعلق بالحقوق والحريات.

وورد الفصل الأول من الدستور المقترح للاستفتاء دون ذكر المرجعية الإسلامية بصيغة "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة." كما تضمن تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي، مع مزيد من الصلاحيات للرئيس وتقليص صلاحيات البرلمان، ما يعني أن البلاد ستنتقل إذا ما أقر هذا المشروع من النظام البرلماني الحالي إلى نظام رئاسي. واستحوذ الرئيس التونسي، العام الماضي، على السلطة وحلّ البرلمان وعلّق العمل بالدستور.

طالت الانتقادات مشروع الاستفتاء على الدستور التونسي، وتتهم المعارضة ومنظمات حقوقية سعيّد بالسعي إلى إقرار دستور مفصل على قياسه يطيح بمبدأ الفصل بين السلطات، ويعطي الرئيس مطلق الصلاحيات بوجود برلمان عاجز. ويفترض أن يحل هذا النص محل دستور 2014 الذي كان مصدر نزاعات متكررة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. شعبياً، كان هناك دعوات إلى مقاطعة الاستفتاء، وأخرى إلى التصويت بلا فقط، كما أن هناك من دعا إلى التأجيل. في المقابل، دعا سعيّد التونسيين، إلى التصويت بـ"نعم" حتّى "لا يصيب الدولة هرم وحتّى تتحقّق أهداف الثورة."

إعلان

ما هو الفصل الأول من الدستور التونسي؟
هذه ليست المرة الأولى التي يثار فيها الجدل حول الفصل الأول من الدستور التونسي، فمنذ اللحظة الأولى لميلاد دستور 1959 بدأ السجال وهو يتجدد في كل مرحلة جديدة من تاريخ البلاد.

تم إقرار الفصل الأول من الدستور التونسي سنة 1959 في أول دستور للبلاد بعد الاستقلال وتم الحفاظ عليه في دستور 2014 الذي تمت صياغته بعد الثورة التونسية في عام ٢٠١١. ونص هذا الفصل على أن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها." الدستور الجديد المقترح للاستفتاء يقترح تغيير الفصل الأول ليصبح صبح "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة."

وكان الرئيس الأسبق الزعيم الحبيب بورقيبة هو من وضع هذا الفصل ليحسم سجالاً اندلع بين الحداثيين الإصلاحيين والمتطلعين حينها لتأسيس دولة علمانية والمحافظين الذين كانوا يرون أهمية للتنصيص على الانتماء الإسلامي والعربي في الدستور. 

صياغة هذا الفصل توصف بالغموض قدمها بورقيبة لتجنب تصاعد السجال إلى مستويات أكبر، حيث تجنب الصيغة التي القول "دولة إسلامية" أو "مسلمة" لإدراكه أن هذا التغيير البسيط سيفتح المجال أمام المحافظين والإسلاميين في مراحل لاحقة للمطالبة باعتماد الشريعة كمصدر للتشريع وذهب مباشرة في الفصل الثاني للتنصيص على مدنية الدولة وعلوية القانون -أي سحب البساط أمام المتطلعين لتفعيل الشريعة.

ظل هذا الفصل على حاله منذ تاريخ 1959 دون سجالات تذكر حتى فترة إعداد دستور 2014 التي عاد فيها الجدل مطولاً بشأن علاقة الدين بالدولة، حيث طالب الإسلاميون بأن يتضمن الدستور النص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، وهو الأمر الذي رفضته آنذاك الأحزاب والقوى التقدمية والديمقراطية والعلمانية التونسية ومنظمات المجتمع المدني التي كانت ترى أن التنصيص على الشريعة في الدستور ستشكل تهديداً للطابع المدني للدولة وللمكتسبات التي حققتها المرأة التونسية على مدى عقود منذ عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. 

إعلان

وتصاعد هذا السجال خاصة سنة 2012 و2013 واحتد بين التيارين أحدهما نزل إلى الشارع ورفض بشدة تضمين الشريعة في الدستور، في المقابل أعرب الإسلاميون صراحة عن رغبتهم في ذلك وسعيهم إليها وقد دفعوا من أجل ذلك بالمجموعات السلفية إلى الشارع. ولكن لاحقاً وجدت الحركة نفسها في حالة ضعف فانصاعت وتنازلت على مسألة التنصيص على الشريعة وتم الحفاظ على نفس الصيغة التي اعتمدت سنة 1959.

جدل حذف المرجعية الإسلامية من الدستور 
في السابع من يونيو الماضي قال رئيس الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور الجمهورية الجديدة أستاذ القانون الدستوري الصادق بلعيد في حوار مع وكالة الأنباء الفرنسية إنه "سيعرض على الرئيس قيس سعيد مسودة لدستور لن تتضمن ذكراً للإسلام دينًا للدولة، بهدف التصدي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على غرار حركة النهضة."

وأضاف بلعيد وهو أستاذ جامعي ومتخصص في القانون الدستوري، إن "80 في المئة من التونسيين ضد التطرف وضد توظيف الدين من أجل أهداف سياسية، وهذا ما سنفعله تحديداً وسنقوم بكل بساطة بتعديل الصيغة الحالية للفصل الأول."

وتوافقت تصريحات بلعيد مع تصورات الرئيس سعيد بهذا الشأن، ذلك أنه قد سبق  وأن انتقد في أبريل الماضي من يتشبثون بالفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن الدولة دينها الإسلام، وقال خلال إشرافه على حفل ديني بمناسبة شهر رمضان إن "الإسلام هو دين الأمة وليس دين الدولة، ونحن لا نصلي أو نصوم بناء على الفصل الأول من الدستور وإنما بأمر من الله." مشيراً إلى أن "الدولة ذات معنوية مثل الشركات فما معنى أن يكون لها دين."

وفي خطاب ألقاه بمناسبة العيد الوطني للمرأة التونسية سنة 2020 قال الرئيس سعيد إن "الفصل الأول من الدستور ينص على أن دين الدولة الإسلام، هل للدول دين؟ وهل ستدخل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى الجنة أو جهنم؟"

إعلان

بشكل عام، تبرز الدساتير العربية محورية الإسلام كدين للدولة أو كمصدر لسن القوانين فيها، وبناء على هذه الفكرة يستند المشرِع إلى مبادئ الإسلام وأحكامه عند سن قوانين جديدة، فمثلا تقول المادة الثانية من الباب الأول من الدستور المصري: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع." ويقول دستور العراق: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع. لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام." وتنص المادة الثانية من الفصل الأول في الدستور الأردني: "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية."

هل النية علمنة الدولة؟
لا يبدو أن سعيد يتطلع، من خلال هذه التوجه لتعديل الفصل الأول وحذف المرجعية الإسلامية، لإضفاء طابع أكثر إنساني على المبادئ التي يحتكم إليها التونسيون ولا بهدف تحقيق قدر من العلمانية لم يسبقه إليها أحد من الرؤساء السابقين للبلاد، ولا من أجل تكريس مبدأ المساواة التامة سواء بين الجنسين بعيداً عن النصوص الدينية ولا المساواة التامة بين التونسيين حسب الديانة التي ينتمون لها.

بل يبدو إن الغاية الحقيقية كانت تعديل الفصل ليتسنى له إضافة فصل آخر يتيح فيه المجال أكثر للدولة للإشراف على المسائل الدينية حتى يسهل محاصرة الأحزاب الدينية والجمعيات الدينية. وهذا ما أكده الفصل الخامس الوارد في الدستور الجديد الذي سيعرض للاستفتاء، الذي أكد بما لا يدعو للشك أن سعيد لم يتطلع أبدا لعلمنة الدولة. إذ ينص هذا الفصل على "تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية." بمعنى أن لا انسلاخ للدولة عن الدين ولا توجه لعلمنتها كما راج. 

إعلان

المحلل السياسي محمد الهادي حيدري، يرى أن لفظ الإسلام المنسوب إلى الدولة، وإن غاب عن الفصل الأول من الدستور، لا يمكن أن يفضي إلى تخلي الدولة عن أدوارها الرقابية ورعايتها للمؤسسات الدينية واحتكارها شأن الإفتاء (وهو من مؤسساتها القائمة). ويضيف: "إلغاء الفصل الأول لن يؤدي إلى إلغاء ما يتعلق بمسألة رعاية الدين. وعليه، لن يكون لتعديل الفصل الأول أي أثر تشريعي أو قانوني."

أما الباحث في القانون الدستوري رابح الخرايفي فيؤكد أن الدولة لا دين لها، وأنها كيان معنوي تدير شؤون جميع مواطنيها مهما كانت دياناتهم، وتحمي كل الأديان على قدم المساواة." ويضيف: "حذف دين الدولة من الدستور لا يعني إلغاء دين التونسيين، ولهذا فإن الجدل الحاصل حول هذا الأمر هو تعبئة شعبية من بعض الأطراف للتصويت ضد الدستور الجديد الذي يتم الإعداد له."

حذف المرجعية الإسلامية من الدستور ليس الغاية منه تكريس علمانية الدولة، كما يقول الباحث نادر الحمامي: "مقترح تغيير الفصل الأول من الدستور لن يغير الكثير ولن يتجه لعلمنة الدولة. ستبقى الكثير من الأمور الجوهرية في المستوى الدستوري من قبيل شرط الإسلام للترشح إلى الرئاسة، وكذلك في مستوى علاقة الدولة بالشأن الديني، ولن يغير شيئًا أيضًا في مستوى ما يعد من الثوابت الدينية اجتماعيًا كقضايا المساواة في الإرث وأحكام الأحوال الشخصية والحريات الفردية."

هل سيتم التصويت بنعم؟
وفي ظل حالة السجال الحالية، لا توجد إحصائيات دقيقة تحدد ما إذا كان بعض الشعب التونسي يتجه لقول نعم أو لا في الاستفتاء، ولكن أغلب عمليات سبر الآراء التي تمت حول ثقة التونسيين في الشخصيات السياسية في البلاد رجحت كفة الرئيس سعيد وهو يجعل فرضية نعم لتمرير الدستور المقترح قائمة أكثر.