"تعودت أن أنتقد بحدة كل القطاعات والأحزاب وحتى الرؤساء كلما اقتضى الأمر ما جعلني عرضة للتهجم الافتراضي بشكل دائم لكن دون أن يتجاوز الحد المقبول. إلا أن الهجمة الأخيرة ردًا على تدوينتي كانت الأعنف. فلم يتم الرد عن موقفي بالحجة أو بالنقد بل تم إطلاق حملة تستهدفني بشكل شخصي." هذا ما أخبرتني إياه الصحفية وصال الكسراوي، العاملة بأحد الإذاعات الخاصة (شمس أف أم) في تونس بعد أن نشرت تدوينة على فيسبوك تطرقت فيه لتجاوزات بعض الأمنيين "البوليس" للسلطة وتوقفت عند جملة من الخروقات التي يقومون بها، لكنها وجدت نفسها مستهدفة بسبب هذه التدوينة على شبكات التواصل الاجتماعي بصفتها الصحفية. تم تداول صور الصحفية مرفقة بعبارات تحريضية وتم فيها انتهاك حياتها الخاصة، وتهديدات صريحة بالتضييق عليها والتنكيل بها. كما قام أحد رجال الأمن "بوليس" بتهديدها مباشرة بالانتقام منها ومضايقتها.وتعود أطوار هذا الحكم الذي تم إصداره بعد حوالي السنة ليوم 23 أغسطس 2019 عندما خرج توفيق بن بريك في برنامجه عبر قناة "نسمة" المملوكة للمرشح للرئاسة آنذاك نبيل القروي مطالبًا بالإفراج عنه، مضيفا بأسلوبه اللاذع المعتاد أنه "في بلدان أخرى يرفع الناس السلاح للدفاع عن رجالهم" متهما القضاء التونسي بالفساد والمحاباة. وقد اعتبر حديث بن بريك تحريضًا على حمل السلاح وتعديًا على أحكام القضاء وتمت إحالته للمحاكمة. ويقول محامي الدفاع عن بن بريك بسام الطريفي أن ما صدر كان حكما متشنجًا وانتقاميًا به الكثير من التحامل على صحافي أبدى رأيه إزاء سلطة ليست مقدسة وليست فوق النقد. ويضيف: "أنه من الخطير والمعيب هذا النزوع نحو ملاحقة ومحاكمة الإعلاميين والصحافيين الذين تقتضي مهنتهم التحري والاستقصاء والتعليق والنقد بسبب آراءهم وأفكارهم، هذا فضلا عن الإخلالات الإجرائية التي تم اتباعها في التعاطي مع هذه القضية." ولا تخفي نقابة الصحافيين التونسيين استياءها الشديد من المنحى التجريمي الذي اتخذه القضاء في ملفات تتعلق بحرية التعبير. بالإضافة إلى التضييق، يعاني قطاع الإعلام في تونس من مشاكل مالية كبيرة تفاقمت مع أزمة كورونا، حيث لم يتم تسديد أجور بعض العاملين، وتم إحالة العشرات من الصحافيين إلى البطالة القسرية وطرد 190 صحفي خلال الأزمة، ومع توقف الصحف الورقية المحلية والدولية التي تصدر من تونس عن الطباعة منذ بدء الحجر الصحي في مارس الماضي. وكانت الحكومة قد أعلنت عن عدة إجراءات لمساندة قطاع الإعلام، منها اقتناء اشتراكات في النسخ الإلكترونية للصحف ومشروع لتأهيل وسائل الإعلام التونسية للانخراط في منظومة التحول الرقمي. واعتبر الكثير من الصحافيين التونسيين أن هذه الإجراءات ركزت على المؤسسات الإعلامية دون ذكر لوضعية الصحفيين الذين لم يتلقوا رواتبهم أو تم فصلهم، فيما رأى آخرون أن هذه الإجراءات قد تصعب من عملية نقد الحكومة.وفي خضم هذه الحوادث، فإنه يمكن الإقرار بأن حرية الصحافة في تونس تشهد ظرفًا دقيقًا في الوقت الذي يعتبر الوضع السياسي والاجتماعي في تونس في أسوأ حالاته، وهناك حاجة لإعلام حر قادر على كشف ما يجري. لهذا فإن أي صمت أو تراخي من الصحافيين إزاء التجاوزات التي تطال حرية الصحافة وحرية التعبير عمومًا ستكون مدخلاً نحو المزيد من التضييقات.
وفيما تعهدت وصال بملاحقة المنتهكين قضائيًا رغم الاتصالات التي وردتها من خمس نقابات أمنية للاعتذار عما بدر من أمنييها، إلا أن الأمر أصبح أكثر من قضية شخصية. فبعد أن كان استهداف حرية الصحافة والتضييق على الصحفيين في تونس انتهاكا تمارسه غالبًا عناصر الأمن، اتسعت الدائرة تدريجيًا وتشعبت حتى شملت البرلمان والقضاء في خطوة بدت مخيبة لآمال التونسيين بشأن حرية التعبير، كمكسب للثورة. ويبدو أن التضيقات الأمنية على الصحفيين تأخذ نسقًا تصاعديًا هذه الفترة، حيث تم مؤخراً إثارة ملفات قديمة والقيام باستنطاق أو التحقيق مع عدد من الصحفيين لدى الوحدة الوطنية للأبحاث في الجرائم الإرهابية ومنهم منجي الخضراوي (الشروق) ودرّة الغربي (آخر خبر). وكان تقرير نقابة الصحافيين لشهر تموز قد أكد أن الاعتداءات الأمنية على الصحافيين تدعو إلى القلق بسبب الرقابة على حرية الضمير والتمييز ضد الصحفيين، واعتبرت أن "إثارة ملفات قديمة يمكن أن تصنف في خانة الترهيب في فترة يستعد فيها الصحافيون إلى خوض مؤتمرهم من أجل اختيار ممثليهم في نقابة الصحفيين." كما عبر الكثير من الصحفيين عن رفضهم لإصرار بعض النواب على وضع قيود غير مشروعة على عملهم منذ انطلاق الفترة النيابية الحالية، حيث تم منعهم من تغطية بعض الأحداث في مجلس النواب، على غرار ما حدث مع الصحفية الميدانية ومقدمة الأخبار بـ"شمس أف أم " خولة سليتي. "لدى وصولي أمام مدخل البرلمان لم يسمح لي بالدخول دون تبرير أسباب هذا القرار، على الرغم من أنني مسجلة ضمن قائمة الصحافيين المعتمدة بالمركز الإعلامي بالمجلس."وتضيف خولة: "ما حدث يظهر أن هناك توجه عام نحو وضع بعض الضوابط في التعاطي مع الإعلام، فإلى جانب الوضع المتذبذب في البرلمان تتعمد رئاسة الجمهورية هي الأخرى عدم تمكين الصحافيين من حضور اللقاءات وطرح الأسئلة، وتكتفي بإصدار بيانات لا تفي بالغرض. لا يختلف الأمر كثيرًا مع رئاسة الحكومة التي تعمدت أثناء طرح تشكيلة الحكومة الجديدة الامتناع عن الإدلاء بتصريحات للصحفيين." وكان نقابة الصحفيين ناجي البغوري قد وصف قصر الرئاسة بـ"غرفة سوداء للصحافيين" بسبب تواتر عمليات منع بعض الصحفيين من العمل وتحديد قائمات مسبقة للصحافيين المسموح لهم بالتغطية.
إعلان
على رغم حلول تونس بالمرتبة الـ72 عالمياً والأولى عربياً في مؤشر حرية الصحافة الصادر عن "منظمة مراسلون بلا حدود" هذا العام، إلا أن منظمة العفو الدولية حذرت من استخدام أزمة فيروس كورونا لاستهداف الصحفيين والنشطاء، ففي أبريل تم اعتقال اثنين من المدونين بسبب انتقادهم نهج الحكومة في التعامل مع جائحة كوفيد -19. وفي يوليو، أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس أمس حكماً بالسجن ستة أشهر على المدونة التونسية آمنة الشرقي، 27 عامًا، بعد إدانتها بتهم تتصل بتعليق لها على وسائل التواصل الاجتماعي اعتبر "مسيئاً للإسلام." وقد اعتبرت منظمة العفو هذه الحوادث بمثابة "صفعة قاسية في وجه حرية التعبير في تونس، وسيكون له تأثير مخيف من خلال منع الآخرين من التجرؤ على التعبير عن آرائهم عبر الإنترنت."وحسب تقرير نقابة الصحافيين التونسيين فقد بدأت عدد من المؤشرات المقلقة بالتصاعد خلال شهر يونيو وتواصلت في شهر يوليو عبر إصدار أحكام بالسجن ضد المدونين والإعلاميين ومنهم الكاتب الصحفي توفيق بن بريك الذي حوكم في مرحلة أولى بالسجن لمدة سنة مع النفاذ قضى منها بضعة أيام، ثم إقرار الحكم بالسجن لمدة ثمانية أشهر مع تأجيل التنفيذ في الطور الاستئنافي بسبب مواقفه اللاذعة تجاه القضاء. وقد تم إطلاق سراحه مع إخضاعه للمتابعة لخمس سنوات يتم فيها مراقبته فيما لو أقدم على تصريحات مماثلة لا سيما المتعلقة بنقد السلطة القضائية. وفي حال تكرار ذات التصريحات يعني عودة مباشرة للسجن مع الحفاظ على الثمانية أشهر مؤجلة التنفيذ والخضوع لمحاكمة جديدة بكل ما تحمله من أحكام أيضًا.يعاني قطاع الإعلام في تونس من مشاكل مالية كبيرة تفاقمت مع أزمة كورونا، حيث لم يتم تسديد أجور بعض العاملين، وتم إحالة العشرات من الصحافيين إلى البطالة القسرية حيث تم طرد 190 صحفي خلال الأزمة
إعلان