life post coronavirus
Photo by Dewang Gupta on Unsplash


فيروس كورونا

كيف سيبدو العالم بعد إنتهاء فيروس كورونا؟

أتوقع بعد هذه الأزمة قد ندخل في مرحلة التعويض، سنعوض عن كل ما حرمنا منه، وكل ما انقطعنا منه لنثبت لأنفسنا بطريقة غير مباشرة أنّنا لم نتغير
غوى أبي حيدر
Beirut, LB

قد تكون أزمة فيروس كورونا التجربة المشتركة الأولى التي يخوضها جيل الألفية. أنا لا أقصد أنّ جيل الألفية لم يخض تجارب جماعية سيئة، هذا لأنّ الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية لم تفارقنا يوماً. فالعالم شهد كوارث عدّة، لكن لم تطل هذه الكوارث يوماً جميع البشرية بالشدة والفترة نفسها. فحتى الكوارث لم تعرف المساواة يوماً. لكن فيروس كورونا، طال الجميع، أخاف الجميع، وحجر الجميع! كمية الخسائر اليوم لا تقاس، نحن خسرنا في كل شيء من الأرواح إلى الخسارات الاقتصادية إلى الآثار النفسية.

إعلان

نحن سجناء المنزل. حياتنا تغيرت، والحاجات التي اعتقدنا أنها أساسية على وشك أن تصبح كماليات. نحاول أن نعتاد على حياة جديدة ولكن التغيرات سريعة، أسرع من قدرتنا على الاستيعاب. ولكن علينا أن نعترف أنّ نظرتنا للأمور تغيرت، وتصرفاتنا مختلفة. كوفيد- 19 علّمنا الكثير، فنحن نادراً ما نقف يوماً، لنقيم الدروس التي تعلمناها من بعد كل أزمة.

ولكن هل نحن حقيقة تغيرنا؟ هل العالم سيختلف بعد انتهاء هذه الأزمة؟ هل سنغير من تصرفاتنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وحتى تجاه البيئة. أم أن حياتنا سترجع كما كانت وكأن شيئًا لم يكن. معرفة هذه الأجوبة ليس بسيطًا، وخاصة أننا لا نزال في قلب الحدث، فيروس كورونا لم يعد ماضياً بعد، بل هو حاضر جداً. ولكن لابد أن يكون هناك سيناريوهات متوقعة لشكل العالم ما بعد الكورونا. لهذا قررت التحدث مع ميا عطوي، المعالجة النفسيّة العياديّة، والدكتور نديم محسن، محلل سياسي وأستاذ حضارات و علوم سياسية بالجامعة اللبنانية الأمريكية.

ترى ميا، عضو مؤسِّس في جمعية Embrace، وهي جمعيّة لا تتوخّى الربح وتعمل على رفع مستوى الوعي بالصّحة النفسيّة في لبنان والشرق الأوسط، أن هذه الأزمة قد غيرتنا، لا شك لديها بذلك، وتقول أنه في السنوات الأخيرة، كنّا نعيش في روتين حياتي سريع قام على الإنتاجية، تطلق عليه صفة Hustle life، وكنا قلةً ما نقف أمام الأمور فعلاً. وتضيف ميا: "لا يمكننا أن ننكر أنّ هذه الأزمة جعلتنا نفكر من هم الأشخاص الأهم في حياتنا. فربما هذه الأزمة عززت من أهمية التواصل مع الأشخاص الذين نكترث لأمرهم. كما أنّ هناك تغير في سلوكنا الشرائي، فقد اكتشفنا اليوم ما هي الأمور التي كنّا نصرف أموالنا عليها رغم غياب الحاجة إليها، وما هي الأمور الكمالية."

إعلان

هذه الأزمة قدمت دليلاً أنّ مصير الشخص متعلق بمصير غيره. حتى أنّنا أصبحنا نقدّر أشخاصاً لم نر جهودهم من قبل مثل عمّال السوبرماركت وسائقي التاكسي وعاملي التوصيل. من دونهم، ما كنّا لنصمد

إذاً، بعد كل هذا نحن قد نخرج "أنقى" ربما ونقيم الأمور حسب النوعية لا الكمية، ونتعامل مع الآخرين بشكل أعمق قليلاً وليس على أساس تجميع أفراد ودوائر أو جماعات. وهذا ما توافق عليه ميا: "بعض المجتمعات أصبحت مجتمعات فردية أو ليست جماعية في العقود الأخيرة، أعتقد أنّ بعد انتهاء هذه الأزمة، سيتغير هذا. فهذه الأزمة قدمت دليلاً أنّ مصير الشخص متعلق بمصير غيره. حتى أنّنا أصبحنا نقدّر أشخاصاً لم نر جهودهم من قبل مثل عمّال السوبرماركت وسائقي التاكسي وعمال التوصيل. من دونهم، ما كنّا لنصمد."

تعطينا ميا مثال سريع على الصعيد الفردي عن نظرتنا للأمور بعد انتهاء فيروس كورونا: "مثلاً، أتوقع أن تتغير نظرتنا للمطاعم التي لا تضمن حقوق موظفيها، أو يجبرهم على العمل حتى بحالة المرض. هل نريد الذهاب إلى مطعم كهذا؟ نحن اليوم نعي أنّ مصيرنا معلّق بالجميع، ولهذا سوف ننتبه لأمور لم ننتبه لها من قبل." وتضيف ميا تغيراً آخر على الصعيد الوطني: "كنّا نفكر أنّ الدفاع عن الوطن يظهر فقط في وقت الحروب. لكن اليوم أصبح التفكير بسلامة المجموعة، أي أنّ الدفاع ليس عسكري فقط، إنما هو دفاع صحي. الحكومات ستشعر أنّ عليها الاستثمار أكثر بالصحة. هناك صدمة جماعية واحدة، وهذه الصدمة ستغير أفكارنا. نحن اليوم أمام سيناريوهين، إمّا أن نصبح أقرب من بعضنا البعض بسبب وجود أزمة مشتركة، أو أن نصاب بالرهاب من الآخرين."

في الواقع، هناك دلائل على ارتفاع نسب العنصرية خلال الأزمات. فمن اليوم الأول، فصلنا أنفسنا عن الصين، وبدأنا بإطلاق النكات العنصرية ولوم الشعب الصيني على الفيروس . تقول ميا أنه من منظور علمي نشأوي تطوري، فالإنسان منذ القدم يخاف من العدوى، أو الإصابة بمرض أو فيروس، وهذا الخوف قد يخرج أسوأ ما فيه، لأنه يتعلق بمبدأ البقاء على الحياة: "صحيح، قد يطور الشخص خلال أي وباء شكل من التعصب أو النفور من الآخرين، يظهر على شكل تصرفات عدوانية أو سلبية. كما أنّ وجود تهديد أو خطر، يضطر الإنسان للتمسك أكثر بالمجموعة التي ننتمي إليها، وهي المجموعة التي لا تعاني من المرض. يمكن القول أنّ وجود خطر أو تهديد يلغي الانفتاح، ويجعلنا مقربين أكثر من مجموعتنا وقد يؤدي إلى تكوين نظرة دونية للمجموعة الأخرى،" تضيف ميا.

إعلان

لا أظنّ أنّ فيروس كورونا لوحده سيُسقط الرأسماليّة. ولكن قد يسمح هذا الزلزال الصحّيّ بخلخلة الهيكل الرأسماليّ ونقد مسلّماته، والدفع الجدّيّ للاهتمام بالمصلحة المجتمعيّة كأولويّة بدل المصلحة الفردية

على الجانب الآخر، وبعد فشل المنظومات الصحية في معظم أنحاء العالم، بعد قيام الكثير من الدول بتخفيض الميزانية للقطاع الصحي، فقد أعاد فيروس كورونا التركيز على أن الأولوية الأولى والأخيرة لاستمرارية أي دولة هو صحة شعوبها. وخلال هذه الأزمة، تم الإعلان عن قرارات كانت تبدو بعيدة التحقيق قبل انتشار الفيروس، مثل قرار إسبانيا تأميم جميع مستشفيات ومنشآت تقديم الرعاية الصحية في البلاد، لمكافحة انتشار فيروس كورونا. هذه القرارات، دفعت البعض لتوقع تراجع قوة الرأسمالية، وإنهاء الخصخصة للكثير من القطاعات الأساسية على الأقل، وعودة أكثر قوة للحكومات الاشتراكية.

ولكن الدكتور نديم لديه رأي آخر، فهو يشير إلى أن الرأسماليّة أثبتت قدرتها على النهوض بعد كلّ سقطة، ونجح الرأسماليّون عبر ثلاثة قرون على الأقلّ في التعاضد والإبقاء على سيطرتهم من خلال رسم السياسات الاقتصاديّة الكبرى في العالم كما في أممهم ودولهم. ويضيف: "لا أظنّ أنّ فيروس كورونا لوحده سيُسقط الرأسماليّة. ولكن قد يسمح هذا الزلزال الصحّيّ بخلخلة الهيكل الرأسماليّ ونقد مسلّماته، والدفع الجدّيّ للاهتمام بالمصلحة المجتمعيّة كأولويّة بدل المصلحة الفردية."

ويقول الدكتور نديم أن هذه الأزمة قد تدفع بعض الدول على تقديم مؤشّرات السعادة والتعاطف والعدل في المجتمعات على مؤشّر دخل الدول، وللحرص على توزيع الغِنى أفقيًّا بدل التحرّك بِداعي الربح والسيطرة الهرميّة، ويضيف: "لعلّ الخطر الوجودي المفاجئ يعيد إلى الواجهة مسؤوليّة الشعوب بالثورة ضدّ أولويّات الرأسماليّة ونظامها القويّ في إنتاج نفسه وأسياده. أمّا بالنسبة إلى العولمة، فبدل محتواها الماليّ - الاقتصاديّ ولوازمه المعلوماتيّة والاتّصالاتيّة، فقد يتقدّم فيها مستقبَلًا المحتوى الصحّيّ والبيئيّ والعلميّ. غير أنّ الاحتمالات والـ"قد" رهن بفعل خيارات الشعوب وأفعالها."

في الفترة الأولى بعد انتهاء الإغلاق والحجر، سنكون حذرين أكثر، سنُفضل التواصل الكترونياً أكثر، وسنواصل التباعد الإجتماعي، ونتجنب السفر والذهاب للمطاعم وغيرها، لكن بعد 6 أشهر إلى سنة ستعود الحياة إلى طبيعتها، وسنعود كما كنا من قبل

ورغم أنّ إيجابيات الأزمة تقع في قدرة العالم على خلق الإيجابية، أو اختراعها، للتشديد على أنّها فعل إنسانيّ وليست نتائج حتميّة أو أوتوماتيكيّة، قد تكون الإيجابية الأكبر ما بعد فيروس كورونا هو في التمكن النقد والمساءلة، ويشرح ذلك بالقول: "النظامَ الرأسماليّ بأولويّاته ومنطق السوق الفرديّ الحرّ؛ النمط الإستهلاكيّ في الحياة الذي يكافئ الكماليّات ويتجاهل الضروريّات الصحّيّة والتعليميّة والغذائيّة؛ الأخلاق الربحيّة والتنافسيّة والاستغلاليّة التي تحيل الأرض والبشريّة إلى حلبة مصارعة كبرى؛ الأمم المتّحدة ومتفرّعاتها التي لم تخرج عن كونها أمم منتصرة في الحرب العالميّة الثانية وأخفقت في القيام بواجبها الأمميّ في نشر التعاون وتطوير آليّات للعدالة بين الدول وشعوبها. أيضاً، القوميّات والوطنيّات التي وقعت فريسة العنصريّات وبضعة متحكّمين بدل أن تنضَج اجتماعيًّا وتتعاون عالميًّا. النتائج الإيجابيّة ستظهر إن استطاعنا نقضَ هذه الخيارات الفاشلة والانتقال بجرأة إلى بدائل خلّاقة."

هناك الكثير من النظريات حول الما بعد. كل ما يمكن أن نتأكد منه هو أنّ هناك رأي مشترك أنّنا جميعاً نشعر الآن (وربما لمدة لن تطول) بالامتنان لما كنا نملك. سواء التواصل البشري، اللمس، والروتين والزحمة. ربما الفيروس ورغم سوداويته، أعطانا نوعاً من البداية الجديدة، أو ربما فسحة لنفكر أكثر ونقيّم بعيداً عن الحياة السريعة. اليوم هذه الأزمة هي ذاكرة جماعية جديدة، سنلجأ إليها حينما نواجه أزمة كهذه لاحقاً. بعد الحجر، سنخرج بمشاكل ثقة، وهلع من اللمس، ربما ننتبه أكثر لكل تلك التفاصيل الصغيرة مثل عدم أكل الفشار من الصحن نفسه في الحفلات المنزلية. قد تتغير نظرتنا تجاه العمل (هل علينا حقاً الذهاب للمكتب كل يوم)، للتسوق (هل نحتاج لكل هذه الملابس؟) للسفر، للأكل في المطاعم… القائمة تطول.

لكننا للأسف بعد مدة سنعود إلى ما كنا عليه، كما تقول ميا، "في الفترة الأولى بعد انتهاء الإغلاق والحجر، سنكون حذرين أكثر، سنُفضل التواصل الكترونياً أكثر، وسنواصل التباعد الإجتماعي، ونتجنب السفر والذهاب للمطاعم وغيرها، لكن بعد 6 أشهر إلى سنة ستعود الحياة إلى طبيعتها، وسنعود كما كنا من قبل. في الواقع، أتوقع بعد هذه الأزمة قد ندخل في مرحلة over-compensation أي أننا سنعوض عن كل ما حرمنا منه، وكل ما انقطعنا منه لنثبت لأنفسنا بطريقة غير مباشرة أنّنا لم نتغير."