في الفيلم المصري "الراقصة والسياسي" (1990) جرى حوار بين الراقصة التي قامت بدورها نبيلة عبيد، والسياسي (صلاح قابيل) حول الفرق بين الاثنين في عيون الناس، تمسك السياسي بالموقف المألوف الذي يستبطنه الجميع والمؤمن بأن لا مجال للمقارنة بينهما، لكن الراقصة اختصرت الفرق بجملة واحدة أظنها ستعيش دائمًا: "إحنا الاثنين بنطلع فى التليفزيون أنا الناس بتتفرج عليا، وإنـت أول ما بتطلع النـاس بتقفـل التليفزيون عشان إنت رقصك ملوش جمهور إنما أنا رقصي ليه جمهور."
كانت تلك الراقصة محقة حينها ومازالت كذلك إلى اليوم حتى في ذروة الأزمات تصطف الجماهير بالآلاف وراء الراقصة وتتجاهل خطاب السياسي وإن كان حاملاً لقرارات أو إجراءات مصيرية بالنسبة لهم. اليوم وفي ظل انتشار فيروس كورونا في العالم يواجه الناس هذا الوباء بطرق عديدة كان أكثرها إثارة للجدل الرقص. في تونس مثلًا ومع تزايد أعداد المصابين بهذا الفيروس التي تجاوزت الـ70 حالة ودعوات السلطات للمواطنين بالبقاء في المنازل أطلت الراقصة نرمين صفر في فيديو على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تدعو فيه التونسيين للبقاء في الحجر المنزلي على أن تقدم لهم "رقصة الكورونا" مباشرة على صفحتها على فيسبوك وإنستغرام كل ليلة. اقتراح أثار جدلاً كبيًرا بين من أيد الفكرة ومن انتقدها، ولكن كل ذلك لم يمنع الراقصة من الوفاء بوعدها.
بدأت نرمين صفر وصلاتها الراقصة بالتزامن مع إعلان الحكومة حظر التجول من الساعة السادسة مساءً إلى السادسة صباحًا محققة نسبة متابعة عالية ربما أكثر مما توقعت، لا سيما أن هذه الأعداد بلغت أضعاف متابعي خطاب رئيس البلاد قيس سعيد ورئيس الحكومة الياس الفخفاخ بشأن أحد أخطر الأوبئة التي تجتاح العالم.
كانت نرمين صفر في الموعد تقول ببساطة وبكل ثقة "شدوا دياركم تو نشطحلكم كل ليلة" أي التزموا بالبقاء في منازلكم وسأرقص لكم كل ليلة. جملة قصيرة وبسيطة قلبت المعادلة وأثبتت أن رقصة اللسان التي يتقنها رجال السياسة مازلت تخسر الرهان أمام رقصة الخصر الأنثوي
قد لا يبدو الأمر غريبًا أن تنحاز الجماهير للرقص على حساب خطاب سياسي جاف، لكن هذه الرؤية تصح وتستساغ في الظروف العادية، لكنها تطرح الكثير من التساؤلات عندما تحدث في زمن الأزمة التي تمسك بزمام حلولها الطبقة السياسية. فكيف تنجح راقصة هاوية في سرقة الأضواء من السياسي في ظرف دقيق كالذي يمر به الجميع؟ هل الخلل في الجماهير التي مازالت تختزن صورًا نمطية عن جسد المرأة حتى أنها تنساق بسهولة وراق هزات خصر إحداهن وراء شاشة ما؟ أم أن الخلل كامن في الخطاب السياسي العاجز عن استقطاب الجماهير وشدها؟ هل هي أزمة جماهير أم أزمة خطاب سياسي؟
الأكيد أن نرمين صفر، وإن لم تكن محترفة، قد أسعدت متابعيها ونجحت في جعلهم يضبطون وقتهم على إيقاع رقصتها التي لا تؤخرها كل ليلة، على خلاف رجال السياسة الذين لم ينجحوا حتى في الالتزام بتوقيت ظهورهم أمام شاشات التلفزيون لإلقاء كلمتهم فضلًا عن حالة الارتباك الواضحة.
عند الأزمات، تحتاج الناس لخطاب مطمئن بأن الأمور تسير بشكل جيد وبأنهم بين أيادي أمينة. ولكن يبدو أن الجهود الكبيرة المبذولة دون شك من طرف رئاسة الدولة التونسية بشكل خاصة ورئاسة الحكومة لم تقنع الكثير من التونسيين، ما دفعهم للبحث عن بدائل تكسر المخاوف المتزايدة هذه الفترة. هنا، كانت نرمين صفر في الموعد تقول ببساطة وبكل ثقة "شدوا دياركم تو نشطحلكم كل ليلة" أي التزموا بالبقاء في منازلكم وسأرقص لكم كل ليلة. جملة قصيرة وبسيطة قلبت المعادلة وأثبتت أن رقصة اللسان التي يتقنها رجال السياسة مازلت تخسر الرهان أمام رقصة الخصر الأنثوي.
اليوم وفي ظرف قياسي باتت نرمين صفر الراقصة الجميلة الهاوية -والتي أعلنت ترشحها للانتخابات الرئاسية العام الماضي- تحظى بمتابعة تتجاوز مئات الآلاف على انستغرام وفيسبوك، شعبية واسعة تحاول استغلالها وتوظيفها لتوعية جانب من التونسيين مما لم يلتزموا بعد بالتعليمات الصحية والرسمية في ظل خطورة الفيروس وصعوبة احتوائه. في حديثها، تقول صفر: "أسعى للمساهمة في تشجيع المواطن على البقاء في البيت إلى جانب جهود الدولة عن طريق الرقص باعتباره شيء يبعث على الحياة والبهجة، وهو ما نحتاجه في مثل هذه الظروف. وكل من يستنكر رقصي هو في الحقيقة يقف ضد المرأة وضد حرية التعبير."
وفيما تستمر عروض نرمين المباشرة تتضارب ردود الفعل بين مستنكر يعتبر أن ما تقوم به استفزازاً واستخفافاً بما يحدث، وبين من يؤيد المبادرة معتبرًا أن الرقص كان دائما عنوانًا للفرح وما أحوج الجميع إليه في هذا الظرف العصيب، وإذا كانت برقصها قادرة على كبح جموح التونسيين وتشجيعهم على البقاء فلترقص.
رقصة نرمين لم يقف تأثيرها عند هذا الحد بل فتحت الباب أمام انخراط الراقص المحترف رشدي بلقاسمي في حملة "شد دارك" عبر الرقص على الساعة الثامنة بتوقيت تونس أي قبل موعد صفر بساعة. وقال بلقاسمي في إعلانه عن فقرته الراقصة "أستجيب لطلب الكثيرات من نساء تونس غدوة لايف على الساعة الثامنة بتوقيت تونس عبر صفحتي الرسمية". وبهذا يجد التونسيون أنفسهم أمام عرضين راقصين، كل حسب ما يعجبه.
ورغم أن الفارق من الناحية الأكاديمية والاحترافية بين رشدي ونرمين شاسع، إلا أن ما يختزنه الفكر العربي بشأن ربط الرقص بجسد الأنثى رجح كفة صفر على مستوى المتابعة. ففيما خطت نرمين عتبة الـ100 متابع بلغ بلقاسمي 46 ألف. ولكن تبقى هذه التفاصيل دون قيمة تذكر في الوقت الراهن ما دام كلاهما يكسران رتابة الجلوس القسري في المنزل بسبب فيروس الكورونا. وحتمًا ستنتهي هذه الفترة، وترحل الكورونا لكن سيتذكر الجميع في تونس وفي دول أخرى أن الرقص والفن عمومًا كان الرفيق والسبيل الأجمل لتجاوز ضغوط هذه الأيام ومخاوفها.