سينما

"لا وقت للموت" الخَصم المؤثر خارج حدود الشاشة

شخصية الشرير التي يقدمها رامي مالك تجعله أكثر إنسانية وربما تمنحنا كمشاهدين قدرًا من التسامح معه أو تفهم دوافعه
image (1)

UNIVERSAL PICTURES

ملاحظة: هناك حرق للأحداث.

مدة ظهوره على الشاشة ربما لم تتجاوز ٣٠ دقيقة، لكن تأثيره على أحداث الفيلم ظل واضحًا طوال ساعتين ونصف الساعة. رامي مالك أو لوسفير سافين، آخر خصوم جيمس بوند في الفيلم الأحدث لعمل المخابرات الأشهر 007، "لا وقت للموت" No Time to Die يؤكد لنا أن قوة الدور ليست بكثرة المشاهد، بل جودتها. فالممثل المتمكن من أدواته يهتم بتأثير اللقطة والجملة حتى لو كانت قصيرة جدًا، لكنها تحمل معانٍ ومشاعر تصل للمشاهد في لحظات. هذا ما قدمه مالك في الفيلم، فرغم قِصر جمله الحوارية، والزمن القليل على الشاشة، إلا أنه كان يؤدي دوره بالجسد ونبرة الصوت ولغة العين. بمعنى آخر، لو كان رامي مالك يؤدي دوره صامتًا لوصلتنا المشاعر، حتى لو ظهر لثوانٍ معدودة. 

إعلان

في الفيلم الذي يواكب مرور ستين عامًا تقريبًا على نشأة سلسلة جيمس بوند، نجد أفكارًا ومواضيع جديدة تختلف عن نمط اعتدنا مشاهدته لعقود. جلسنا كثيرًا أمام الشاشة لنشاهد بطلًا ذكوريًا، ملامحه حادة، يمتلك خفة ظل، لا تستطيع النساء مقاومته، نعرف عن ماضيه القليل جدًا. كل هذه الملامح بدأت في التغيير خلال العقد الأخير، وتحديدًا مع بطولة دانييل كريغ للسلسلة. اليوم، تأتي نهاية رحلة كريغ الذي أعلن أن فيلم "لا وقت للموت" هو آخر تجاربه في السلسلة "لأن سنه لم يعد ملائمًا للعب دور عميل مخابرات يمتلك لياقة بدنية فائقة."

في العادة، خصوم بوند دائمًا مقهورون، ورغم قوتهم التي يبدو لا قِبل لبوند بها، إلا أنه دومًا يملك الثقة في هزيمتهم. في "لا وقت للموت" نشاهد بوند يلقى مصيره المحتوم أمام خصمه دون معرفة أو يقين منا أن العميل المخابراتي سينتصر. تشكل صورة الشرير في الفيلم أحد التطورات المهمة في السلسلة. الصورة النمطية للشرير أو الخصم، طالما ارتبطت برجال أو نساء ذوي ملامح حادة، مثل الأنف المعقوف أو خطوط الوجه التي تثير الخوف لدى بعض المشاهدين، أو صوت رخيم يثير الرهبة مثل صوت أنتوني هوبكنز في فيلمه Silence of The Lambs. الشرير في هذه الصورة، كثيرًا ما تظهر سماته النفسية مرتبطة بالغضب والصوت المرتفع والانفجار لأتفه الأسباب لأنه البطل يسبقه بخطوة. 

في المقابل، الشرير، الذي يمثله مالك/سافن، على عكس معظم أشرار السلسلة هو شخص عادي، لا يملك أي قدرات غير عادية، بدنية أو ذهنية. ليس لديه هوس بالقوة أو الإحساس بالعظمة، لكنه يشعر أن ما يفعله من جرائم يمكن أن يعيد الأشياء في العالم لمسارها الصحيح، وربما لا. 

خلال العقدين الأخيرين تبدلت هذه الصورة في السينما العالمية وأصبح الخصم إنسانًا عاديًا له أخطاء وسقطات، لكنه ليس بطلًا، هل يعني هذا أننا نكره الشرير/الخصم بالضرورة؟ 

إعلان

في فيلم The Dark Knight، تعاطف كثيرون بل شعروا أحيانًا بالحب تجاه الجوكر، وهذا الأمر يثير تساؤلًا مهمًا ونقاشًا واسعًا في عالم الدراما عن مشاعر ومواقف المشاهدين تجاه البطل والشرير. هذه المشاعر تنقسم لنوعين، الأول sympathy، والثاني empathy. 

الـ sympathy أو التعاطف، هو شعور إيجابي نحو الشخصية التي فعلت خطأ ما، التعاطف يعني بداهة أننا قد نتسامح مع الخطأ أو الشخصية، وربما لا نتسامح بعد ذلك، لكن العاطفة هي التي تحكمنا. فمثلًا، أثناء مشاهدتي لفيلم بوند الجديد، شعرت بالتعاطف في لحظة مع سافين رغم أنه قاتل محترف، لماذا؟ لأنه تحول لمجرم بسبب قصة تتعلق بطفولته، رأى عائلته تُقتل أمامه فأراد الانتقام. بالضبط مثل قصة ماتيلدا في فيلم Leon the Professional، التي تحولت لقاتلة من أجل الانتقام من ضابط الشرطة الذي تخلص من عائلتها. 

أما الـ empathy فهو يتعلق بتفهمنا لدوافع الشخصية ولماذا فعلت هذا الأمر، لكننا لا نتعاطف معها، لذلك يحدث الكثير من الخلط بين المفهومين. فمع شخصية سافن قد يشعر أحدنا بالتعاطف وشخص آخر يتفهم أسباب تحوله لمجرم، لكنه لا يتعاطف معه. وربما في لحظة ما نشعر بكلا الأمرين ولا نستطيع الفصل بينهما، المسألة كلها ترتبط بتلقي المشاهد لتجربة الفيلم. 

هذه المساحة من التشكك لدى الخصم/الشرير تجعله أكثر إنسانية، وربما تمنحنا كمشاهدين قدرًا من التسامح معه أو تفهُم دوافعه. الهدوء البالغ في شخصية سافن، مظهره البسيط، لغته غير المتعجرفة، عيناه التي تعبر عن ضعف إنساني، أكدها مالك في أحد اللقاءات الصحفية السابقة عندما قال إنه أراد أن يتجنب مع مخرج الفيلم "خلق شخصية مصابة بجنون العظمة وتضحك بصوت مرتفع." لكن هذا الشرير ليس ساذجًا، هو ذكي للغاية، لديه مهارات يتقنها بوضوح، وأهداف يدرك كيف يصل إليها دون تشتت. 

إعلان

من شاهد الفيلم، لاحظ بالتأكيد وجه مالك المختلف في الفيلم، وذلك نتيجة للماكياج الذي كان يستمر لمدة تصل لساعتين ونصف تقريبًا. وقد أثرت هذه المدة الطويلة تأثيرًا كبيرًا على دخول رامي في الحالة الفنية التي تجعله بهذا الهدوء والتركيز الذي ذكرني أثناء الفيلم بالمشاهد المحدودة جدًا للممثل الكبير مارلون براندو في فيلمه Apocalypse Now. فقد كانت مشاهد براندو قليلة جدًا، وظهوره على الشاشة خلق إحساسـًا بالرهبة والجلال من رجل يُخيف الولايات المتحدة الأمريكية خلال حرب فيتنام. كذلك، فمشهد المواجهة بين سافن وبوند ذكرني بمشهد المواجهة بين مارلون براندو ومارتن شين. 

تطور آخر حدث في الفيلم، وإن كان منقوصًا، يتعلق باحتفاء البعض بظهور عميلة مخابرات بريطانية سوداء تعوض مكان جيمس، إلا أنها في لحظة ما قررت أن يستعيد بوند رقمه من جديد بكل رضا منها، لأنه العميل الذي لا يُقهر.

هذا التطور منقوص في رأيي لأنه منح الأفضلية كالعادة للممثل الذكر، فرغم شعوري بالمفاجأة في بداية الفيلم عندما وجدت 007 امرأة، إلا أنني كنت متيقنًا أنها تجربة لن تدوم طويلًا خلال الأحداث التالية للفيلم. كذلك فهذا التطور منقوص، لأنه قد لا يكون نابعـًا من أسباب فنية خالصة، تتعلق بجودة الشخصية وأصالتها في تطور الأحداث، لكنها قد تكون مُقحمة في الفيلم نتيجة لأحداث اجتماعية وسياسية تجعل اختيار البريطانية من أصول جامايكية لاشانا لِنش غير حقيقي، بل يميل لمواكبة الــ trends.

بالنسبة لنهاية الفيلم، فلا يمكن أن نشاهدها دون أن نتذكر نهاية بروس وين في فيلم The Dark Knight Rises، ويظهر ذلك بوضوح من خلال الموسيقى التصويرية، وأغنية الفيلم لبيلي إيليش التي عكست حزنًا واضحًا، على عكس طبيعة أغاني بوند التي تحمل شخصية قوية وانتصار يظهر في صوت المطرب/ة يوضح لنا شخصية العميل المخابراتي الأشهر في المملكة.

المتابع لسلسلة جيمس بوند يعرف أن للموسيقى التصويرية والأغاني دورًا كبيرًا في الأفلام، وفي فيلم "لا وقت للموت" تحديدًا يدخل المؤلف الأمريكي الشهير هانز زيمر ضمن مؤلفي موسيقى السلسلة، ويظهر بوضوح أثناء مشاهدة الفيلم وجود روح متشابهة بين موسيقى هذا الفيلم وثلاثية باتمان الشهيرة لكريستوفر نولان. كما أن الفيلم يبعث برسالة عرفان موسيقية خاصة لقصص الحب في حياة بوند، والموسيقى الساحرة في فيلم On Her Majesty's Secret Service، والأغنية الشهيرة We have all the time in the world التي غناها لويس أرمسترونج

التجربة الأخيرة لفيلم جيمس بوند جيدة، ليس فقط بسبب موت جيمس في النهاية، لكن أيضًا بسبب جودة العناصر الفنية، كعادة السلسلة، سواء التصوير واختيار مواقع الأحداث، كذلك المونتاج الذي لعب دورًا مهمـًا في تطور الأحداث وجعل الفيلم يتحرك في إطار تشويقي دون توقف. سواء كنتم من محبي جيمس أو كارهيه، فالفيلم يستحق المشاهدة.