في الأيام العادية من شهر رمضان، حينما تكون الحياة "نورمال" من دون ففروس يفتك بنا أو حظر تجول، يبدأ يومي كالتالي: أقود سيارتي إلى وظيفتي وأنا أتناول ساندويش الزعتر التي حضرتها لي أمّي الصائمة، فأنا فعلاً لا أملك الوقت لأتناولها في المنزل وأحب أن أصل وأبدأ عملي على الفور. ألاحظ أنّ الجميع ينظر إلي باستعجاب أو قرف أو ما بين بين. أكمل أكلي عادي، فأنا جائعة وأعلم أنّ النظرة لن تغير شيء، ولن تؤثر على مواقفي… فهذه ستكون الحال لـ30 يوماً.
اليوم مع الحجر المنزلي طبعاً، لا أواجه هذا، فأنا مفطرة في المنزل من دون نظرات أحد. ربما تظنون أنّ هذا أفضل، أو تظنون أنّني ارتحت من نظرات الناس أو تعليقات زملاء العمل… لكن لا، فأنا أشتاق لروح رمضان والناس في السوق والصمت خلال اليوم وضجّة المساء، والأفران على السحور وعزومات الافطار.
لا أعلم من وضع "أتيكيت" رمضان التي تعتبر كل شخص يتناول الطعام أثناء ساعات الصوم شخص خبيث أو شرير يريد أن يقهر الصائمين أو يستفزهم. لا أعلم من قرر أنّ الصائم يتعذب عندما يرى غيره يأكل، ولا أعلم لماذا يُنظر إلينا وكأنّ هدفنا الوحيد هو أن نثير الفتنة. فحتى الشابة لا يحق لها أن تظهر أنّها مفطرة أثناء دورتها الشهرية أولاً لأنّ "الدورة الشهرية" تُعامل وكأنّها سر وثانياً لأنّها قد "تضايق" الصائم. كيف؟ لماذا؟ ما العلاقة؟ لا أجوبة منطقية.
توقفت عن الصوم في سن الـ14 وهذا بعد أن قمت بصيام رمضاناً واحداً عندما كنت في الـ13 من عمري، والسبب هو ببساطة أنّ وضعي البدني والصحي لا يتحمل. تغير السبب لاحقاً، بعد أن تغيرت قناعاتي الدينية وأصبحت لادينية! اليوم، تعي أمّي تماماً سبب عدم صومي، ولكن كل صباح يجب أن تسألني، "شو صايمة؟" بكل ما يحمله صوتها من سخرية و"نكد" وأنا أتفهمها، فلا أحد يحب أن تكون ابنته بعيدة كل البعد عن قناعاته الدينية. بعد أيام قليلة، يتغير الموضوع وتتأقلم بشكل عادي، فيصبح السؤال "شو عبالك غدا اليوم؟"قد يظن البعض أنّ حياتي كلادينية تتحول الى جحيم في رمضان وهذا بسبب تعليقات ونظريات الآخرين السلبية، ونظرة المجتمع له! لكن أنا لا أشعر بهذا. على العكس، دعوني أعترف لكم أنني أحب شهر رمضان. على بلاطة، هو من الأشهر المفضلة لدي، أنه مرتبط بشكل ما بالطاقة الإيجابية الجميلة التي تفقدها نفسي العدمية.خلال هذا الشهر، أشعر أنّ روتين العالم يتغير ونحن فعلاً بحاجة إلى هذا التغيير. أحب أن أرى الشوارع المضيئة بالقناديل والأسواق والمطاعم المفتوحة حتى ساعات الصباح، الجمعات العائلية وموائد الإفطار (طبعاً الوضع تغير هذا العام بسبب فيروس كورونا). لكن حتى في ظل الأرمة الصحية التي يعيشها العالم، رمضان غَير شكل الحجر المنزلي. فقد عشنا روتين طويل بدأ بمارس، واليوم نلمس القليل من التغيير بسبب تغير مواعيد الأكل. نحن بحاجة إلى هذا التغيير لنشعر أنّ الحياة تمشي أو تتغير ولو قليلاً، ولنفكر بأمور اخرى جديدة.بالإضافة إلى الأكل -وإلى أنني أنعم بـ5 وجبات في اليوم- أحب المسلسلات الرمضانية، الدراما العربية تعود للحياة، وهناك ما يمكن أن نناقشه في مجال الفن والتمثيل والفكرة والأخلاقيات
إعلان
ما زلت أستمتع برمضان وما زلت أنتظره كل سنة. لا يمكنني أن أتخيل لو كنت أعيش وحدي وأعود لمنزلي كل يوم من دون أن أستمتع بالـ"فتوش" و"الشوربة" و"الجلّاب" كما لا يمكنني أن أتخيل كيف سيكون الحال من دون صوت أفراد عائلتي الساعة الثالثة صباحاً يتشاجرون حول من سيقصد الفرن كي يحضّر المنقوشة، أو من سيخبز المنقوشة في ظل فيروس كورونا. بالإضافة إلى الأكل -وإلى أنني أنعم بـ5 وجبات في اليوم- أحب المسلسلات الرمضانية، الدراما العربية تعود للحياة، وهناك ما يمكن أن نناقشه في مجال الفن والتمثيل والفكرة والأخلاقيات. فاليوم في هذا الملل الذي نعيشه في المنزل، هناك مسلسلات إضافية ودعايات ممتعة وبرامج ترفيهية لنستمتع بها ونناقشها. فإن نفذت جميع مسلسلات نتفليكس، شاهدوا محمد رمضان يبكي يومياً!شهر رمضان هو جزء من حياة كل من عاش في بيئة مسلمة وبين عائلة مؤمنة وله ذكريات جميلة. أجمل أيّامي كانت عندما كنّا نفطر عند جدّي الذي يحضّر الأكل بنفسه لأنّ جدتي كانت مريضة ولا بدّ من أن يجد أي وسيلة لإسعادها. جدّي لم يكن مؤمناً، لكن لم يمر رمضان واحد من دون تحضيره لافطار فاخر، لأنّ هذا الشهر هو الفرصة الوحيدة ليجمع جميع أبناءه. ماتت جدتي، وما عاد رمضان مهم لجدّي مثل قبل وما عاد يحضر إفطاراته الشهية، وفعلاً أشتاق لتلك الأيام.لا يمكنني أن أتخيل لو كنت أعيش وحدي وأعود لمنزلي كل يوم من دون أن أستمتع بالـ"فتوش" و"الشوربة" و"الجلّاب" كما لا يمكنني أن أتخيل كيف سيكون الحال من دون صوت أفراد عائلتي الساعة الثالثة صباحاً يتشاجرون حول من سيقصد الفرن كي يحضّر المنقوشة
رمضان جميل، وكل شيء به جميل. وأنا أتكلم هنا من منظور شخص لاديني تستفزه القناعات الدينية الصارمة. أتكلم بكل ما يحمل المنطق من تجرد. فالروح الرمضانية لا تزول مع زوال الإيمان. ما زلت أنتظره كل سنة، وما زلت أتذوق الطبخة لأمّي قبل أن تقدمها، وأنا متأكدة أنّ هذا هو شعور كل شخص لاديني يملك عائلة متقبلة ويعيش بمجتمع "معتدل."لكن الحياة ليست جميلة كما أصورها. هنا لا بدّ من التركيز على أمر أساسي. أعتقد أنّني لم أفقد هذا الحب لرمضان لأنّ من حولي لم يتدخل يوماً بقراراتي، ولا بدّ من الاعتراف أنّ هذا نوع من الامتياز. لا يمكنني أن أجمُلَ نظرتي كلادينية على الجميع. فهناك العشرات وحتى المئات من الأشخاص الذين تتم معاقبتهم وترحيلهم بسبب عدم صومهم في رمضان. كما أنّ هناك الكثير من اللادينيين الذين يخافون من نظرة الآخرين، فيدّعون أنّهم صائمين. أنا لا أنكر وجود هذه الشريحة، بل على العكس، أنا أعلم تماماً أنّهم لا يعرفون قيمة هذا الشهر لأنّ هناك من أشعرهم بتعاسته وخَرب معناه الأسمى. لا شك أن التجربة تختلف من شخص لآخر ومن دولة لأخرى.السنة الماضية، دعاني صديق لي إلى السحور، اضطررت أن أعتذر لأنّني كنت أريد أن أذهب إلى حفلة بعد منتصف الليل. فقال لي بكل "رواق" ومن دون أن ينظر إلي بطريقة دونية أو يحكم على خياراتي "تعي كلي ورجعي روحي من بعدها." بالنسبة له، الهدف هو الجمعة وأن اتذوق السحور الذي حضّره، هو يسعد نفسه بإسعادي، حتى ولو اختلفت خياراتي عنه وبالفعل هذه هي الروح الرمضانية. لا كره، لا نظرات مزعجة، ولا فتنة. فعلاً ذهبت ليلتها إلى العزومة وشعرت بالروح الرمضانية وذهبت إلى حفلتي من بعدها، ومشت الحياة بشكل طبيعي من دون أن يتأذى أحد.أنا اليوم ممتنة أنّ من حولي لم يساهموا في جعل رمضان جحيماً ولم يمحوا ذكرياته المرتبطة بالطفولة والعائلة من ذهني، وممتنة أنّني ما زلت أدخن سيجارتي على شرفة المنزل من دون أن أسمع أي تعليق. رمضان كريم.الروح الرمضانية لا تزول مع زوال الإيمان. ما زلت أنتظره كل سنة، وما زلت أتذوق الطبخة لأمّي قبل أن تقدمها، وأنا متأكدة أنّ هذا هو شعور كل شخص لاديني يملك عائلة متقبلة ويعيش بمجتمع "معتدل"