رأي

هل هناك من يكره الصيف؟ نعم أنا.

خلال أشهر الصيف، أتحول إلى كائن ليلي تبدأ الحياة عنده مع الغروب
Hate Summer1

مريم علي العميرة

أخبرتني صديقتي التي تعيش في بلد أوروبي أنها حجزت تذكرة إلى تونس وأنها قادمة للقائي في هذا الصيف، نعم قررت ذلك وفعلت وجاءت لزيارتي في فصل الحر المقيت. أحب صديقتي جداً وأحب رؤيتها، ولكن كيف استطاعت أن تقترف بحقي هذا الجرم العظيم؟ كيف تزورني بالصيف وتجعلني اضطر للخروج تحت هذه الشمس الحارقة؟ كيف نسيت أنني أكره الصيف؟ قضيت وقتاً ممتعاً مع صديقتي وكنت حزينة جداً عندما غادرتني، لكن لا أستطيع أن أنكر سعادتي أيضاً لذهابها ليس مللاً منها، ولكنه الخوف من الصيف، من جحيم حره الذي يجعلني أسيرة الفضاءات المغلقة وغالباً ما أكون أسيرة بيتي أو مكتب العمل. هل هناك من يكره الصيف قد يتساءل البعض، شمس وبحر وسهر.

إعلان

نعم أنا، أنا أكره الصيف.

لا أطيق الصيف ولا أتحمل العرق الذي يتصبب لأبسط جهد أقوم به، وأمقت تلك الشمس التي تبرز عينها الحمراء الشريرة على مدار ثلاثة أشهر، تشل فيها حركتي وتعكر مزاجي وتشعرني بالعجز، أنا الفتاة التي تعشق الحركة واضطر للرضوخ لقواعده وأتنازل مكرهة على نسق حياتي اليومي. قد يعتقد البعض أنني مصابة باكتئاب الصيف وقد يكونون على حق في تخمينهم هذا، فكثيرون في هذا العالم يصابون به سنوياً بفعل الحر أساساً. ولكن لا أظن أنني مصابة بهذه الكآبة لأنني أحاول جاهدة في كل مساء أن أعيش الحياة التي حرمت منها طيلة اليوم، فأخرج وألتقي الأصدقاء وأمارس الرياضة، وهو ما يتعارض مع تفسيرات الخبراء لاكتئاب الصيف.

خلال أشهر الصيف، أتحول إلى كائن ليلي تبدأ الحياة عنده مع الغروب وما قبل ذلك وهو عبارة عن سبات صيفي

تقول بعض الدراسات أن الاكتئاب الصيفي يحل بالأشخاص الذين يفضلون الطقس البارد. وغالباً ما تشمل أعراض الاكتئاب الصيفي فقدان الشهية واضطرابات النوم وفقدان الوزن والقلق. ولم يتوصل الخبراء لتفسيرات دقيقة بشأن أسباب هذا الاكتئاب، ولكنهم يرجحون أن طول مدة النهار وارتفاع درجات الحرارة والرطوبة قد تكون العوامل الرئيسية للإصابة بالاكتئاب خلال فصل الصيف. فالتعرض لدرجات الحرارة المرتفعة يؤدي للإصابة بالصداع والغثيان، وبالتالي الميل إلى العزلة في المنزل بدل الخروج في الجو الحار، كما أن الحر بشكل عام يؤثر على مستويات هرمون السعادة في الجسم. ويقول الخبراء إنه يمكن تخفيف أعراض اكتئاب الصيف بتغيير بعض الممارسات اليومية ومنها المواظبة على ممارسة الرياضة، لأن ممارسة النشاط البدني بانتظام يساعد على الوقاية من الاكتئاب على أن يكون في الصباح الباكر أو في المساء، أي في الأوقات الذي لا تشهد ارتفاعاً شديداً في درجات الحرارة.

إعلان

وهذا ما أفعله تماماً، خلال أشهر الصيف، أتحول إلى كائن ليلي تبدأ الحياة عنده مع الغروب وما قبل ذلك وهو عبارة عن سبات صيفي باستثناء خروج صباحي سريع يحدث لضرورة ما. الصيف يجعلني أتلاشى وأتبخر نهاراً، تغيب الألوان يصبح الأصفر، الذي أمقته هو الآخر، سيد الألوان مع كل إطلالة من شباك بيتي أو بابه أو مع كل عبور سريع إلى الشارع لقضاء غرض ما.

مهما اتخذت من تدابير ومهما حرصت على نظافة بيتي ومهما استخدمت مبيدات الحشرات لا بد أن يزورني في كل صيف "الصرصور"

لا لون للحر ولا طعم عدا صفار باهت حارق يخرج الكائنات المزعجة من مخابئها، فالبعوض اللئيم ينظم ولائمه اليومية صيفاً على حساب أجسادنا، التي لا خيار لها إلا أن تتعرى لمواجهة جحيم الحر. وليت الأمر يتوقف عند البعوض هناك الأسوأ والأكثر رعباً بالنسبة لي، فمهما اتخذت من تدابير ومهما حرصت على نظافة بيتي ومهما استخدمت مبيدات الحشرات لا بد أن يزورني في كل صيف "الصرصور" - هذا العدو الأزلي الذي لن أغفر له لحظات الرعب التي عشتها مراراً بسببه. هذه الكائنات التي يستقدمها الصيف كفيلة بأن تجعلني أكره هذا الفصل بل أحقد عليه وأنتظر رحيله بفارغ الصبر. أحيانا أفكر، ليتنا كنا قادرين على ركل الفصول والأوقات التي لا نحب أو حتى بيعها أو تقديمها كهدية، لكنت قد وهبت الصيف لأول عابر بما في ذلك يوم ميلادي الذي أحب.

أنا من مواليد فصل الصيف شهر يونيو تحديداً، والحقيقة أنني أكره كل أيام الصيف عدا يوم ميلادي أحبه كثيراً، ومن أجله أجاهد كثيراً كي لا أدخل في سباتي الصيفي قبل يوم ميلادي كأن ما يسبق هذا اليوم لا يدرج في خانة الصيف ربما لأنها بدايات الصيف ودرجات الحرارة عادة تكون أقل وطأة من شهري يوليو وأغسطس. ولكن أجزم بأنني أستطيع التنازل عن يوم مولدي لو تسنى لي بيع أو ركل فصل الصيف بعيداً.

أشعر أن البحر ليس لي صيفاً ولا أنتمي له

في كل فصول السنة بما في ذلك الخريف، أحافظ على ميلي الدائم للمرح، وأكره الجلوس في البيت طيلة اليوم، أحاول باستمرار أن أجد سبباً ما يجعلني وسط الزحام حتى ولو كان مجرد تسكع عابر في طقس ماطر، لكن الأمر يختلف تماماً صيفاً. فمع بزوغ الشمس، الذي يأتي مبكراً، تغلق شهيتي للخروج أو رؤية الناس أو الاختلاط بهم، ويتملكني الملل طيلة اليوم. وبينما يسارع الناس من كل صوب لاحتلال الشواطئ وبرك السباحة للهروب من الحر، أختار أنا الإبتعاد عن كل ذلك. رغم رغبتي في زيارة البحر صيفاً -بعد الغروب طبعاً -والغوص لبعض الوقت، إلا أنني أتراجع عن ذلك بمجرد أن تطأ قدماي الشاطئ ورؤية الحشود في كل ركن منه. أشعر أن البحر ليس لي صيفاً ولا أنتمي له. أجده غارقاً بين الجماهير الغفيرة التي تحتله وقد عجز عن لفظهم بعيداً - هذا الصيف الممل يصيب البحر أيضاً بالكسل إلى حد يجعله غير قادر عن طرد محتليه.

بمجرد أن يرحل الصيف تعود الحياة إلى نصابها الأول تحتفل السماء بالمطر والثلج والرياح، يصبح للتربة رائحة عبقة. يسترجع شعري حريته ليطير مع الريح ويرقص مع قطرات المطر بعد اضطر أن يكون مرفوعاً بإحكام غالب أيام الصيف. في الشتاء يكفيني أن أرتدي بعض الثياب الدافئة لأخرج لاستقبال الحياة بكل اندفاع وثقة، لا خوف من شمس تترصدني في كل ركن، القهوة الساخنة تنزل برداً وسلاماً، هناك نوع من الهدوء والسكينة، الابتسامة تعود لتتملكني حتى في عز انزعاجي. الشتاء وبقية الفصول تحررنا من قيود الحر وتفتح شهيتنا على كل شيء، حتى الحب لا يزهو ولا يكبر إلا شتاءً، أما الصيف فهو فصل كل الأشياء العابرة. سيبقى الصيف سجني الأزلي الذي أدخله مكرهة سنوياً. هل علمتم الآن لماذا أكره الصيف! أليس معي كل الحق؟