YouTube
أحبّ العربيّة كما أحبّ الرحلات التي تأخذنا إليها كلمات عديدة، بمعانيها ومفرداتها، ومنها تلك السينمائيّة الحاضرة في أحيانٍ كثيرة بمعاني الأسماء التي نحملها. ففي كل مرة ألتقي بشخص غير متحدث للعربيّة، وبعد أن أنفي فكرة أن اسمي بالإنجليزيّة جاء من "روسيا" يسألني: "ما معنى اسمك؟" وأجيبه، بالإنجليزيّة أيضًا: "ولد الظَّبية إِذا قويَ وتحرك ومشى مع أُمِّه." ويحصل أحيانًا، أن يقول أحدهم: "آه! يعني بامبي!" وأفكر بأسماء من أعرفهم وأعرفهن، وأرى شرائط من الأفلام وحتى تلك كاسيتات الأغاني القديمة، والكتب ذات الصفحات التي اصفّرت مع الزمن والغبار، فأعرف قليلًا "ليه بحبّ اللغة العربيّة." قبل أن أبدأ بتعديد أسبابي، من المهم التذكير بأن اللغة العربيّة جميلة، كما وأنّه من المهم الإشارة إلى أنه في هذه الحالة، المثل القائل: "القرد بعين امه غزال" لا علاقة له في حديثنا هذا.
حبّ بدون أم كلثوم؟ صعب
كان يا مكان، في قديم الزمّان، أحببتُ رجلًا لا يتحدث العربيّة. فكان علينا أن نحبّ بعضنا البعض بالإنجليزيّة. ماشي، الحبّ لا لغة له وهيك. لكن، كانت هنالك أزمتان خلال قصّة الحبّ هذه، الأولى: عندما كان عليّ أن أترّجم له مقطع "كنت بشتقلك وأنا وإنت هنا / بيني وبينك خطوتين" من أغنية "بعيد عنك" لأم كلثوم، فاختفت كل رومانسية المشهد ومجازه وخياله و"تسميع الحكي" عندما أصبح بالإنجليزيّة. الأزمة الثانية هي، إنني لم أعرف كيف يتشاجر الأزواج بالإنجليزيّة، وأصلًا لم يسعفني كل قاموس الشتائم بالعربيّة آنذاك، ما هي فائدة الشتيمة إنّ لم "تزيد الطين بلّة"؟ المهمّ، مع أن الخناقة كانت بالإنجليزيّة ممتدة من أرشيف الأفلام المصريّة في لا وعيي، إلّا أنه عرف كيف يصالحني، فقد دعاني بعد يومين، أو ثلاثة أو سنة (هكذا شعرت عندها) إلى وجبة عشاء. وعندما وصلت البيت، وقبل أن أقرع الجرس، سمعت من الداخل أنه يستمع إلى "إنت عمري." هو لم يعرف الأغنية من قبل، ولم يخترها لأني أحبّها، لكنها بالضرورة أوّل ما يجده المرء على اليوتيوب عند البحث عن أم كلثوم. المهمّ، بأنه صالحني بالعربيّة في نهاية المطاف، حتى لو لم يفهمها. هذه التجربة هي درس مهمّ في الحياة، فكلما سأحبّ رجلًا لا يتحدث العربيّة ولا يعرفها، سأحكي له عن أم كلثوم، أسمّعه أغانيها، فيعرف فورًا معادلة "الحب كلّه".
لغة ملانة حبّ
وعلى سيرة الحبّ والأحباب، هل تعلم/ين أن في اللغة العربيّة، هناك أكثر من 30 كلمة مرادفة للحبّ؟ منها؛ الوجد، الهيام، العشق، اللوعة، الغرام، الهوى، الصبابة، الودّ، الخلّة، الوله، بما فيها من درجات متنوعة للحبّ. صحيح أنّنا "يا دوب" نستخدم كلمة "حبّ" في حياتنا ونرتعب عندما نرى عاشقان يمسكان يدًا بيد ويمشيان في الشّارع، لكن على الأقل، كله بالمنجد، والمنجد ليس كتابًا من الخيال.
الردح بالإنجليزيّة
قبل عاميْن، عشتُ لفترة طويلة مع مجموعة من الزملاء والزميلات القادمين من بلاد العالم كلّه، وخلالها أحيانًا، لم يكن أحد غيري يتحدث العربيّة، فكانت الإنجليزيّة بالضرورة هي لغة الصّباح ووجبة الغذاء والسّهرات، وحتى الرّدح. في مرة، أردت أن أُخرج مني شخصيّة ابنة عكّا؛ أقف عند حافة السّور، أضع يمناي على خاصرتي اليُمنى، وبنغمة صوت أعلى من التي استخدمها بالمعتاد، وأنا أنظر بطرف عيني إلى الشخص الذي أمارس عليه فعل "تسميع الحكي" لأقول له عندها: "اللي عاجبه عاجبه، واللي مش عاجبه، يشرب من بحر عكّا" لكني تراجعت عن أدائي هذا، عندما حاولت ترجمته للإنجليزيّة. يعني من الآخر، ما في أحلى من الردح بالعربي، بفش الخلق.
تلفوني بيرّن بالعربي
وُلدت في عكّا، في الداخل الفلسطينيّ، وفُرضت اللغة العبريّة على حياتنا، المشكلة لست في اللغة، إنّما بكيف تحوّلت العبريّة إلى لغة المضطهِد في السياق السياسيّ، الذي هو في ذات الوقت قام، أي المضطهِد، بكلّ شيء لتغيّيب العربيّة. عندما اندلعت الانتفاضة الثانيّة في عام 2000 كنتُ في الصّف العاشر الإعدادي. أذكر صورًا عديدة منها، تلك التي رأيتها في الشّوارع، الأخبار والجرائد. عند كل مساء، أقصقص مقالات وصورًا من الجرائد، أضعها على قطعة من الكرتون، وآخذها معها في اليوم الثّاني إلى المدرسة. في نفس الفترة، بدأت أطلب من الناس حولي، عندما يتحدثون معي، أن يستخدموا العربيّة فقط. أذكر أني خلقت حالات من الرّعب بين أصدقائي، أحيانًا كانت حالات من الرّعب السّاخر. في إحدى الاستراحات المدرسيّة، كانت مجموعة من الأصدقاء تجلس سوية، أحدهم رآني متجهة نحوهم، فقال بصوتٍ عالٍ (كي أسمع بالطبع): "هش. احكوا عربي، إجت رشا" وضحك الجميع.
في تلك الفترة أيضًا، بدأت الهواتف النقّالة الأولى، تدخل إلى حيواتنا، تلفون "مانجو" ومن ثم "نوكيا." مع وصول النوكيا، اخترت أن تكون اللغة المستخدمة في الهاتف هي العربيّة. عرفوا أصدقائي بهذه الحقيقة. وفي مرة ما، رّنّ هاتفي النقّال، فقال أحدهم، بصوتٍ عالٍ، وبسخريّة أيضًا: "تلفون رشا بيرّن بالعربي،" كان ذلك قبل أن تتحوّل الهواتف إلى إذاعات للبوب العربيّ. أتذكر أيضًا أنه في إحدى الرحلات المدرسيّة، ومع انتشار هواتف "النوكيا" بين الزملاء والزميلات في الصّف. وأثناء العودة من الرحلة إلى عكّا، عرف زميل لي أنه أصبح بالإمكان إرسال رسالة نصيّة باللغة العربيّة، بعدما أنهكتنا "العربيزيّة." حيث قبل ذلك، كان يمكن الكتابة العربيّة، إلا أن أجهزة الهواتف الأخرى، لم تكن لتستقبل الأحرف العربيّة. أخبرنا زميلنا بالبشرى السارة. حمل كل منا هاتفه للتجريب، وخلال لحظات، تحوّل الباص إلى مشهد من السعادة الجماعيّة، لفتيان وفتيات يبحثون عن اللغة في فضائهم العامّ، حتى لوّ لم نكن ندرك ذلك.
اللغة في الشّوارع وفي الصدف
كنت أزور مدنًا في الضفة الغربيّة في فلسطين مع عائلتي وأنا طفلة ومن ثم فتاة صغيرة. أجلس بجانب الشباك، وأتأمل لافتات المحلات التجارية، المكاتب والشوارع، جميعها باللغة العربيّة. بعد سنوات كثيرة، قررت أن أنتقل للعيش في رام الله لفترة مؤقتة، كانت الخطوط العربيّة في كل مكان، تشعرني بالأمان والبيت. حملتني الأحرف التي أعرفها إلى البحث عن بيوت أخرى، ولوّ مؤقتة. ففي تونس والقاهرة وعمّان، زرتُ بيوتًا جديدة، بلهجات متنوعة، حتى تلك المدن التي مُنعت عنها، والتي لربما لن أزورها يومًا ما، لكن في إحدى مقاهيها، يجلس اليوم شاعرًا يردد بيت قصيد أحبّه، ويصنع من ذاك المقهى بيتًا لي أيضًا.
لم أكن لأريد أن أقرأ قصائد رابعة العدويّة ومحمود درويش وسنيّة الصّالح وطه محمد علي وروايات نجيب محفوظ ومحمد شكري، إلا باللغة التي شعر وفكر وكتب كل منهم ومنهن فيها. على الأقل، ممنونة للصّدف التي وُلدت فيها. وممنونة أيضًا، إلى صدف متكررة يحصل فيها أن أرى في منامي أحيانًا، أسماء من أحبّ مكتوبة بالخطّ الديوانيّ، وأن أسامح حبيب قديم، عندما يزور منامي اسمه مبتسمًا على هيئة خطّ رقعة حنون.
دخيل قلب العربية
حلمت يومًا ما، أو مثلما نقول بالفلسطينيّ: "كوبست" أي من كابوس، بأني أمشي في الشّوارع في مساء ما، ومقطع "أنا عصفورة الساحات / أهلي ندروني للشمس وللطرقات" من أغنية "ليالي الشمال الحزينة" لفيروز تخرج من بيت ما، ولم أفهم كلماتها. واصلت المشي، ومن أحد النوادي الليليّة، خرجت مجموعة من الشباب والشابات يغنون مقطع أغنية "ولا واحد ولا ميّة / ولا ألف وتلتُميّة / ولا كل الدنيا ديه / ولا ولا مليون" لحكيم ويرقصون، ولم أعرف أن أرقص معهم. تخيل بشاعة هذا الكابوس. من وحي هذا الكابوس، أتخيّل أنني وُلدت للغة لا تحتوي إحدى لهجاتها على التعابير التاليّة: "سد بوزك" أي: "اغلق فمك" (ولكن التعبير ليس لطيفًا إلى هذا الحدّ)، أو "وجع يخلع نيعك" (هل من مترجم؟)، أو مثلًا "ريتك تقبرني" أي "ليتك تدفني في قبري" وما فيه من دلالة على الحبّ، حيث أن القائل، ومن حبّه للشخص الآخر، لا يريد أن يموت قبله. كمان، أعطوني ردًا على مناداة بلغات العالم كلّها، يشبه نغمة رد المصريّين على أي مناداة بالجملة القائلة: "نعم يا روحي" أو مثلًا أعطوني شاعريّة تقارن برجاء التونسيّين اللطيف، عند لحظة مغادرتك لمكان ما، أو سفرك إلى مكان آخر، أو ببساطة، عندما تترك صديقًا باتجاه عودتك إلى البيت، فيقولون لك: "رد بالك على روحك" أو هل في المجرّة كلّها، حنيّة تشبه أمنية السوريّين لك في لحظة محبّة، حين يقولون: "دخيل قلبك"؟
نبغي نتكلم باللهجة اللي بتحبّها روحي
في زيارتي الأولى لتونس، التقيت بصديقة تونسيّة. جلسنا في إحدى المقاهي التي تحبّها. هي تحكي باللهجة التونسيّة وأنا بالفلسطينيّة. كان ذلك قبل أن تعلمنا الأغاني القادمة من بلادنا، لهجة الأخرى. في لحظة ما، قررنا أن نوقف مهزلة محاولة أن نفهم بعضنا البعض، وأن نتحدث بالفصحى سويةً. مرّ بائع ياسمين من جنبنا، وقف قليلًا، ثم سألنا: "علاش تتكلموا فصحى؟ تعملوا مقابلة صحافيّة؟"
تدريجيًا، مع السّفر، والالتقاء بأصدقاء وبصديقات من الدول العربيّة، بدأت لهجتي تأخذ أشكالًا متنوعة، متأثرة من أحاديث أشخاص أحبّهم. فقررت في مرة أن أختار كلمات أحبّها من اللهجات، وأضمها إلى استخدامي اليوميّ. ومع كل استفسار من أحد عن السبب من وراء ذلك، أشعر فجأة أن الزّمن عاد إلى الماضي، إلى حياة كانت مدينتي عكّا فيها بمثابة ميناء ترسي عليه السّفن القادمة من مصر، محمّلة بالحكايات. عندها، كنت أغنّي في مقهى بالقرب من الميناء، بجانب "خان العمدان" في الصّباح، أجلس مع المسافرين الواصلين إلى المدينة، أسألهم عن أغنية يعرفونها، أكتبها، أرددها معهم، حتى أحفظها. وفي الليل، أغني ما عرفته جديدًا، كي يرحل الطُغاة.
لغة تعلّم حبّ اللغات
أحبّ اللغة العربيّة، لأنها علّمتني أن لا أحبّها هي وحدها، فالحبّ فيها، كما ذكرت أعلاه، له مرادفات ودرجات عديدة ومتنوعة، هذا أوّلًا، ولذلك أحبّ لغات عديدة بأشكال مختلفة، حتى تلك التي لا أعرفها، خاصّة، لغات المنطقة العربيّة، كالكرديّة والأرمنيّة والنوبيّة والأمازيغيّة وغيرها ولهجاتها، علّ يأتي اليوم الذي نعرفها كلّها، كي نعرف بعضنا أكثر. ثانيًا، ولأن العربيّة هي لغتي الأمّ، ولأني أؤمن أن بيت الأمّ هو الأوّل ومنه ننطلق للحياة، فلذلك هي تتسع للجميع، وليست منغلقة على نفسها، ومن يعرف أن يحبّها، يستطيع عندها أن يحبّ لغات أخرى. بالضبط، كما معادلة حبّ الذّات وحب الآخرين، التي ما زلنا نتعلمها.
ملاحظة: كلّ من ينجح بقراءة هذا النّص، بإمكانه أن يفتح حوارات، يسمع قصصًا وربما أحيانًا أن يغني نفس الأغنية مع 295 مليون شخصٍ في العالم.